عام 1973، سافرت الشاعرة والإعلامية المصرية سلوى حجازي إلى ليبيا، ضمن وفد إعلامي كبير، لتصوير مواد تلفزيونية، وقيل إنها حلّت بديلة لزميلتها في اللحظات الأخيرة.

كان المفترض أن يعود الوفد في 19 فبراير، لكن لم تتوفر مقاعد كافية للجميع، فآثرت سلوى الانتظار للرحلة التالية مع مخرج برامجها عواد مصطفى، الذي أنجب للتو بنتاً أطلق عليها اسم سلوى تيمّناً بها.

وبسبب عطل في أنظمة الملاحة، تواصل قائد الطائرة الفرنسي مع مطار القاهرة، وهو على بعد أميال قليلة، ثم وجد نفسه في مسار آخر فوق سيناء المحتلة محاصراً بمقاتلات إسرائيلية. وبدلاً من أن تردّه إلى مساره الطبيعي، باعتباره يقود طائرة مدنية كما تنصّ المواثيق الدولية، أطلقت صواريخها على الطائرة وأسقطتها عمداً قرب بحيرة البردويل.

كانت الطائرة تضم مزيجاً من الجنسيات، منها كابتن فرنسي ومضيفتين من لبنان، هما نيلي كرم وماجدة حبيب، لكن غالبيتهم كانوا من المصريين والليبيين.

تعدّدت الروايات والتفسيرات، فمن زعم أن سلوى كانت تقوم بمهام وطنية سرية، ومن رجّح أن إسقاط الطائرة كان بسبب وجود صالح بويصير، وزير الخارجية الليبي السابق على متنها، وهو مرتبط بتنظيمات فلسطينية مسلحة، وكان بالفعل أحد ضحايا الطائرة.

“سلوى: سيرة بلا نهاية”

يستقصي الكاتب كريم جمال في صفحات مطوّلة من كتابه الجديد “سلوى: سيرة بلا نهاية” عن (دار تنمية)، واقعة مقتل سلوى حجازي وهي في عز شبابها المهني والأدبي، وذلك في 21 فبراير عام 1973 على متن الطائرة الليبية، التي ضمّت 106 ركّاب منهم أطفال في عمر ثلاث سنوات.

لم تكتب النجاة إلا لخمسة أشخاص، منهم مساعد الطيار الليبي المهدي بن عياد، والمصري مصطفى الشريعي من المنيا، حيث نقل المصابون إلى مستشفى عسكري في بئر السبع، ونجح المؤلف في الوصول إلى أقارب للشريعي، وعلم أنه مازال على قيد الحياة، لكنه هاجر وأكمل حياته خارج مصر، ويرفض التحدث عن تلك الساعات القليلة قبل المأساة.

ولأن كريم جمال لا يريد كتابة سيرة رتيبة، فهو يشتبك مع اللحظة الراهنة حيث جاء الإهداء: “إلى روحَي شيرين أبو عاقلة وسلوى حجازي” بوصفهما تنتميان إلى مهنة الإعلام، وقتلتهما قوات الاحتلال الإسرائيلي.

شاعرة تكتب بالفرنسية

على الرغم من حياتها القصيرة نسبياً، يتوقف كريم جمال عند تعدّد وجوه سلوى حجازي، فتلك الشابة الحالمة هي إعلامية ناجحة وشاعرة تكتب بالفرنسية، ومترجمة حيث تضمن الكتاب صفحات بخط يدها، ترجمت فيها قصائد بودلير وهوغو.

الميزة الأساسية للسيرة، أنها لا تتوقف طويلاً عند الوجه الإعلامي المعروف، وإنما تعيد اكتشاف الشاعرة التي كرّمتها فرنسا، وترجم شعراء كبار قصائدها للعربية، ويعرض مقاطع عدة لها منها:

أحب أن أموت في هدوء/ كشمعة تلألأت طويلاً/ أخيراً كيوم انقضى/ مرّ وتركنا بلا ضوضاء/ أخشى هذه الحياة/ أخاف أن أتألم/ ألا أتحمل المعاناة.

سلوى حجازي وأم كلثوم

حقق كتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” رواجاً كبيراً ونال عنه كريم جمال، جائزة الدولة التشجيعية، ثم أصدر كتابه “سلوى: سيرة بلا نهاية”.يجمع بين السيرتين أن الكاتب يملأ ثغرة في كتابة السير الثقافية والفنية، بتدقيق الباحث وليس سرد النميمة، كما اختار أيقونتين تصلحان للتأريخ الثقافي لمرحلة الخمسينيات والستينيات.

جمعت الأقدار بين السيدتين في رحلة باريس الشهيرة، ذهبت كوكب الشرق لتغني وهي تحمل همّ العرب جميعاً بعد النكسة، وبرفقتها سلوى مذيعة رقيقة شابة تتقن الفرنسية أفضل من العربية، وأصبح اللقاء الشهير بينهما من الأرشيف الثقافي بالغ الأهمية. 

ثم كان للقدر مفارقته الحزينة حين رحلت شابة قبل عامين من سيدة الغناء العربي، وكأنها تحقق نبوءتها الشعرية عن الذات، على حد تعبير المؤلف “دارت حول الموت في معظم قصائدها ودار الموت حولها”. ومن وحي ديوانها “أيام بلا نهاية” اختار عنوان تلك السيرة.

سألنا كريم جمال: لماذا سلوى حجازي بعد أم كلثوم فأجاب: المشروع بدأ بسؤال بسيط: “لماذا عاشت سلوى حجازي موتها قبل أن تموت؟” إنه الخيط الذي وصل بداية الفكرة بنهاية المشروع.

عندما طالعت للمرة الأولى الترجمة البديعة عن الفرنسية للمترجم عاطف محمد عبد المجيد، وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب عام 2017، شغلتني تلك المسحة الحزينة التي غلّفت معظم قصائد ديوانَي سلوى حجازي، وتلك الروح الاستشرافية للموت والغياب المبكر.

شاء القدر أن أطالع أثناء عملي على كتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي”، في الأرشيف الصحفي، مادة جديدة ومختلفة عن سلوى، كانت تظهر فيها بصفة الشاعرة والأديبة وليس بصفتها إعلامية، لذا فكّرت في الكتابة عنها، في محاولة لفهم مخاوفها وهواجسها الإنسانية، التي جعلتها تقف برأيي بين قريناتها من الشاعرات العالميات اللاتي شغلهن الموت، وعبّرن عن ذلك بقسوة وخوف في أبياتهن الشعرية، مثل سليفيا بلاث، وآن سكستون، وفروغ فرخزاد.

 كان مفتاح الإجابة عن السؤال الأول، هو الربط بين دوافع قصائدها كمادة للتعبير، وبين مشهد النهاية المأساوي على أرض سيناء، لكني وأثناء العمل، وجدتني أمام طاقة لم تُكشف بشكل كامل، بعد أن توارت وجوه سلوى المختلفة خلف وجه الإعلامية، لذا سعيت لتقديم سردية إنسانية في المقام الأول عن حياتها القصيرة، وتأسيس مداخل لثلاث وجوه لازمت سلوى حجازي؛ وجه المذيعة، وجه الشاعرة، وجه الشهيدة الذي ترك أثراً كيراً في الأجيال التي عاشت الفجيعة، وتحديداً الأطفال الذين أحبوا ماما سلوى.

قطة بلا مخالب

سلوى المولودة في 2 مايو عام 1935 وليس في يناير 1933 كما يشاع على الإنترنت، رحلت دون الأربعين، ويبدو وجهها للوهلة الأولى معبّراً عن الخديعة كأنها صبية مراهقة، على الرغم من أنها كانت أماً وزوجة لقاض، في زيجة تقليدية غالباً، بحكم أن والدها كان قاضياً أيضاً.

ينطلق الكتاب من مدخل خاص بتجربتها الإعلامية وهي شابة بعمر 25، تحمل ملامح بريئة كأنها فراشة لا تعرف الآثام والشرور، لكن خلف رقّتها البادية يومض عقل مثقف، وتتراءى أحلام بعيدة المنال، أو كما وصفها أستاذها الإعلامي صلاح زكي حين تقدّمت لاختبار المذيعات للمرّة الأولى بأنها “قطة بلا مخالب، صوتها حلم، وثقافتها لا تقاوم”.

كانت من أوائل الوجوه النسائية التي أطلّت على شاشة التلفزيون العربي، عند انطلاق بثّه صيف عام 1960، معبّراً عن وحدة مصرية- سورية لم تدم طويلاً..

دفعت التقاليد سلوى كي تتزوج من دون أن تكمل دراستها الجامعية، رغم أنها خريجة مدرسة “الليسيه الفرنسية”، وقارئة نهمة في عمرها. لكنها غامرت بالتقدم لاختبارات المذيعين، ونجحت بجدارة مع أسماء قليلة، من بين أكثر من ألف متقدم، ومع ذلك عاندها الحظ قليلاً في الحصول على فرصتها وتعيينها، لأنها لم تكن تملك شهادة جامعية. فسعت كي تقدّم أفضل ما لديها وتنمّي ثقافتها.

خلال 13 عاماً، أطلّ اسم سلوى على الشاشة في برامج متنوعة، بدءاً من نشرة الأخبار، وبرامج مثل “المجلة الفنية” و”عصافير الجنة” و”اختبر معلوماتك” و”الناس في بلدنا”، لتؤسس مع زميلاتها الرائدات شكل التلفزة العربية عموماً حتى يومنا هذا.

لم تحاور سلوى حجازي أم كلثوم وحدها، بل التقت أساطير عصرها مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفيروز والرحابنة ونجاة وبديع خيري، شريك الريحاني ونزار قباني.كانت تنطلق سريعاً في مسيرتها كفراشة انجذبت إلى ضوء أقوى منها، وهي لا تدري أنها سوف تحترق فيه.

ليس من السهل التنقيب في تفاصيل مأساة سلوى حجازي ورفاقها، ولا جمع صورها وأوراقها، لذلك سألنا كريم عن منهجية العمل فقال: الأرشيف هو المتحكّم الأول في سير الأحداث ودقّة توثيقها، لكن بالتأكيد الكتابة عن سلوى تختلف عن أم كلثوم، فكم المعلومات والأخبار التي حاولت تضفيرها لتقديم الكتاب الأوّل، لم تكن متوفرة عند سلوى، بحكم الفارق بين نجومية السيدتين.

كان البحث هذه المرّة في الأرشيف أصعب وأعقد، وعملية الانتقاء أيضًا صعبة، لأن القارئ قد لا يهمه كثيراً أخبار برامجها ومعظمها للأسف مفقود، ولم يبق منه إلا حلقات قليلة، بالإضافة إلى تبدل الطبيعة الإعلامية في مصر بعد عصر الفضائيات، وتغيّر الوعي ونظرة المجتمع إلى المذيعة، ولهذا دام العمل على المشروع نحو عام ونصف، حاولت فيها تنقيح الأخبار والسعي وراء مراكز الأرشيف في مصر، التي تعاني من إشكاليات ضخمة في توثيق المادة الأرشيفية وطريقة تقديمها. 

لكن المميز في الرحلة هو عنصر المفاجأة، فقد اعتمدتُ بجوار الأرشيف الصحفي ما كتبته سلوى في شعرها، كدليل استرشادي على سنوات حياتها القصيرة، وحاولت الربط بين مراحلها وما ينشر عنها في الصحف، إلى أن تواصلت مع العائلة، وكان تتويج العمل بما وجده الأبناء بعد نصف قرن من غياب أمهم.

فمع قرب الانتهاء تواصلت معي ابنتها رضوى شريف، وأكدت لي أنهم وجدوا ملفاً ضخماً يحوي مجموعة كبيرة من الأوراق الشعرية والمسودّات واليوميات والترجمات التي كتبتها بخط يدها، إضافة إلى ملف صور لم يشاهدوها من قبل، كتبت سلوى فيه خلف كل صورة مكان وزمان الصورة، وفي أي مناسبة بالتحديد، وهو ما كان تتويجاً للمشروع.

روحها فوق سيناء

يضم الكتاب العديد من الفصول، وحرص المؤلف على استثمار الصور والأوراق الخاصة وقصاصات الصحف والمجلات، مستقصياً تفاصيل الرحلة المشؤومة التي أودت بحياتها.

وقعت مظاهرات في مختلف دول العالم تنديداً بالحادث المأساوي، وتلاعبت الرواية الإسرائيلية بالوقائع كعادتها، وزعمت أن المقاتلات أصابت جناح الطائرة فقط، لإجبارها على الهبوط، ورفع بعض الأهالي قضايا أمام محاكم دولية بلا نتيجة.

وكان الغضب في مصر عارماً طوال أيام استلام الجثامين عبر الصليب الدولي، وإقامة جنازة رسمية وشعبية ضخمة، تحولت الشوارع المحيطة خلالها إلى مظاهرات.

على سبيل التحية لرفاق سلوى في لحظاتها الأخيرة، قدّم جمال نبذة مختصرة عن بعض هؤلاء الركاب وأعمارهم وأعمالهم، إضافة إلى صور شخصية لهم وصور حطام الطائرة واستقبال الجثامين والجنازة، ومعظمها صور نادرة تُنشر للمرة الأولى.

يصلح الاستقصاء الذي قام به المؤلف عن سيرة سلوى وإعادة بناء مأساة الطائرة ليكون فيلماً أو مسلسلاً ناجحاً حول هذه الفكرة، يجيب كريم جمال: “ربما تكون رحلتها الأخيرة لوحدها فيلم درامي أو وثائقي مكتمل، فالتفاصيل كثيرة ومرعبة، وتصلح للتقديم داخل إطار فني أوسع من مجرد كتاب”.

يضيف: “كما أن الظروف الراهنة في المنطقة العربية، وما يجرى في قطاع غزة، يفرض علينا تقديم نماذج لما فعلته آلة القتل الإسرائيلية بالمدنيين العرب الذين قتلوا غدراً، فمأساة سلوى هي امتداد لمجازر سابقة ولاحقة، لكن تبقى إمكانية التنفيذ موضع السؤال”.

أخفق القضاء الدولي في إنصاف ضحايا الطائرة بدعوى عدم الاختصاص، وبعد نصف قرن، لم يقدّم أي فيلم يوثّق المأساة، لترحل سلوى الإعلامية والشاعرة والأم، تاركة خلفها 4 أطفال، وأشعار وأحلام وبقايا برامج، تشعّ بحضورها اللطيف وابتسامتها الآسرة.

شاركها.