أحمد عسيلي

ها نحن قد أنهينا مشوار السنة الأولى من التحرير، وهكذا نغلق هذا الأسبوع أولى صفحات النصر على عائلة الأسد، تلك العائلة التي أنهكت بلدنا وأثقلته بالأمراض. ومع مضي مجتمعنا في ترميم جراحه، يصبح من المفيد أن نتوقف للحظة، لنعيد التفكير فيما مر به السوريون خلال هذا العام، كيف تبدلت نفسياتهم، وعلاقاتهم، وسلوكهم، وتوقعاتهم، ما الذي حققناه، وما الذي فشلنا في تحقيقه.

بالتأكيد كانت سنة مليئة بالأمل، بالفرح، بالتفاؤل، وبالاستقرار الظاهري، لكنها أيضًا كانت سنة ملؤها التوتر والخوف، مع القلق العميق.

أستعرض في هذه المادة، وإن كان بشيء من العجالة، بعض أهم التغيرات السلوكية والمعرفية والانفعالية منذ لحظة السقوط إلى اليوم.

فمن الناحية السلوكية، والأهم ربما، هي نجاح المجتمع في الحفاظ على مستوى مقبول من السلم الأهلي.

لا نقول إنه سلم كامل أو مثالي، لكنه بالتأكيد أفضل مما يمكن توقعه في بلد خرج لتوه من حكم شمولي طويل، فبالرغم من كل ما زرعته السلطة السابقة من أحقاد بين السوريين لأكثر من 50 سنة، ورغم الفراغ الكبير الذي خلّفه انهيار أجهزة البطش خلال أيام قليلة، بدا المجتمع قادرًا، إلى حد كبير ومفاجئ، على إدارة ذاته.

غابت شرطة المرور مثلًا لأشهر في العديد من المدن، ومع ذلك بقيت حركة السير مقبولة، لم ترتفع معدلات الجريمة كما توقع كثيرون، وحوادث الثأر والانتقام بقيت محصورة ضمن نطاقات ضيقة، فردية أو عشائرية الطابع.

لا نستطيع الجزم الآن ما إذا كان هذا الانضباط يعكس رغبة حقيقية لدى السوريين في تأسيس دولة قانون، أم أنه مجرد تعب عام بعد أكثر من 14 عامًا من الحرب، لكن لا حقيقة مطلقة، قد نذهب لاحقًا في أي اتجاه، فالسلام الذي عاشته البلاد هذا العام سلام هش، يمكن أن يتراجع مع أول اختبار، وقد تم خرقه مرتين بوضوح، مرة في أحداث الساحل وما تبعها من مجازر مؤلمة بحق العلويين، ومرة في النزاع داخل السويداء وما نتج عنه من أعمال قتل صادمة من الطرفين، كما ظهرت محاولات تأجيج مكونات أخرى، كالمسيحيين والإسماعيليين، لكن الفاعلين الاجتماعيين في تلك الأوساط استطاعوا احتواءها، مع تجاوب واضح من بقية أفراد المجتمع، كل ذلك يقول إن السوريين يريدون السلام، لكنهم يعيشون سلامًا يشبه الهدنة، هدنة تحتاج إلى رعاية دائمة كي لا تتحطم.

أما من الناحية المعرفية، فنستطيع القول إن العقلية السورية لا تزال تعيش حالة تبدّل عميقة.

فالموقف من عائلة الأسد كان لعقود طويلة أساس الانقسام السياسي، وأحيانًا الثقافي أيضًا، ومع سقوط تلك العائلة وصعود سلطة جديدة تُحسب على التيار الإسلامي، تغيرت المواقف بشكل سريع، وأحيانًا غير متوقع، ثم جاءت صدمتا الساحل والسويداء لتعيدا خلط الأوراق، فتبدلت التحالفات، وتناقضت ردود الفعل، ووجد كثير من المثقفين والفاعلين أنفسهم أمام أسئلة جديدة حول السلطة والدين، والعلاقة مع إسرائيل، والموقف من المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة (مناطق “قسد” والسويداء). تعدّد القضايا، وحدّتها، جعل تشكيل موقف سياسي واضح أمرًا شبه مستحيل.

صرنا أمام مجتمع بلا أحزاب، بلا نقابات قوية، وبلا خطاب سياسي مستقر، في مرحلة انتقالية تتبدل فيها المواقع بسرعة، ولأن أحداث الساحل جاءت بعد ثلاثة أشهر فقط من النصر، ولحقتها أحداث السويداء بعد أربعة أشهر أخرى، وجد الجميع أنفسهم أمام نقاط حاسمة دفعت بعضهم نحو مواقف متطرفة، وأفقدت آخرين القدرة على التقييم الهادئ، النخبة مثل المجتمع، ما زالت تبحث عن أرض ثابتة.

النقطة الثالثة والأخيرة هي الفرح الكبير الذي اجتاح البلاد مع فتح الباب لعودة الملايين من السوريين.

فجأة عادت عائلات لم تطأ البلاد منذ أكثر من 50 عامًا، عائلات رحلت زمن صراع “الإخوان” مع السلطة، وبعضها غادرت مع موجات الاعتقال ضد اليسار في الثمانينيات، وأخرى خرجت بعد بداية الثورة. المشهد كان مؤثرًا، مليئًا بالعاطفة، وكأن البلاد تستعيد أبناءها واحدًا واحدًا، لكن هذا الفرح كان ممزوجًا بتوتر عميق، كثير من السوريين في الخارج، سواء في أوروبا أو الخليج، يعيشون حياة مستقرة، وبعضهم في الجيل الثاني، كثيرون في منتصف طريق الحصول على جنسية، أو بنوا مستقبلهم بعيدًا عن البلاد، ولأن التغيير جاء فجأة، وخلال 11 يومًا فقط من معركة “ردع العدوان”، تحول الفرح إلى ارتباك، هل يعودون؟ هل يبقون؟ هل يخسرون ما بنوه؟ هل يعودون إلى وطن لم يعرفه أبناؤهم؟

كما أن ملايين الحاصلين على إقامات لجوء لا يستطيعون العودة قانونيًا إلا بالتنازل عن تلك الإقامات، ما جعل الفرح ممزوجًا بالعجز، والحنين ممزوجًا بالقلق.

السمة العامة هنا كانت التوتر: توتر القرار، وتوتر الهوية، وتوتر المستقبل، إنها لحظة فرح كبيرة، لكنها بالتأكيد ليست بسيطة.

ومع نهاية هذه السنة الأولى، يبقى الأمل أن نستفيد من التجارب التي خضناها.

أن تكون لنا القدرة على الاعتراف بإنجازاتنا وأخطائنا، وأن نتصرف كمجتمع واعٍ، قادر على حماية سلمِه الأهلي، وعلى بناء دولة لا تتكرر فيها إخفاقات السنة الأولى، الطريق ما زال طويلًا، والمستقبل مفتوح على جميع الاحتمالات، لكن الحفاظ على ما أنجزناه، مهما كان هشًا، هو مسؤوليتنا جميعًا، وهو شرط الدخول الواعد إلى السنة الثانية بثقة أكبر ووعي أعمق.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.