علي عيد
وضعت الحرب في سوريا أوزارها، وما تبقى هو ارتدادات هنا وهناك، فهل يلبي الإعلام مرحلة السلام والبناء، وكيف يؤثر الإعلام السلبي على خطط الدولة وحاجة المجتمع لمواكبتها.
خلال 14 عامًا أصعب من الجمر، استخدم الإعلام كل ما هو متاح من مفردات وطرق لمواكبة الحرب، بما فيها التحفيز والتجييش والحرب النفسية، وحتى خطاب الكراهية، ويبدو أن كثيرًا من الإعلام، وأخص إعلام الإثارة، ويتركز في محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ما زال يعمل بـ”الروشيتة” السابقة، ويريد أن يسجل انتصارات على الطريقة الحربية متناسيًا أن البلاد تشهد ولادة جديدة عنوانها البناء والعمل من أجل تجاوز كوارث الحرب البشرية والاقتصادية والنفسية.
بدا لي أن هناك بونًا شاسعًا في الاتجاهات بين الحكومة وما تريد توجيهه من رسائل و”بعض” الإعلام وتركيزه على بقايا الصراع وارتداداته المحلية، وهذا أمر مفهوم، وإلا لماذا يزعج بعض الصحافة السلطة في جميع أنحاء العالم.
السؤال الذي يجب أن يواجه به الإعلاميون أنفسهم اليوم هو ما الدور الأخلاقي لتجاوز الأزمات وترسيخ السلام، وهل المطلوب أن يتبنى الإعلام رؤية الحكومة أو أن يواكب بحذر، أو أن يبقى غارقًا في سرديات الصراع.
أمام تركيز الإعلام الخارجي العربي والدولي، باستثناءات، على المتغيرات السياسية والاقتصادية الهائلة في البلاد، تنفتح بوابات الجحيم من وسائل التواصل الاجتماعي عبر رسائل تضعف الثقة داخل المجتمع، بل وتنساق وسائل الإعلام بما فيها الوطنية نحو إفراد مساحات واسعة وكأنها رجع صدى يستجيب للمحتوى السلبي، بل ويسهم في تعزيز الانقسام والاختلاف.
هناك صحفيون، منهم من يعملون بوسائل إعلام تديرها وتمولها الدولة، لا يكتفون بواجبهم داخل مؤسساتهم، بل يسهمون مثل أي مؤثر على وسائل التواصل في خطاب الشحن الفوضوي، ويبدون مواقف وانحيازات، ويدافعون عن رؤية الحكومة بطريقة خاطئة، ولا أعلم إن كان هذا يتم بمبادرات شخصية، أم بدعم من إداراتهم، لكن ما أعلمه هو أن هؤلاء يسيرون، ربما دون علمهم، عكس الاتجاه، ويخالفون مبدأ حياد الصحفي أو إلغاء نفسه، وزد على ذلك أن المجتمعات الهشّة لا تتحمل فكرة أن يكون صحفيو الإعلام الوطني جزءًا من أي خلاف بين مجموعتين.
يجب على هؤلاء الصحفيين أن يستوعبوا أن دورهم يقف عند حدود تيسير الحوار، وتعزيز الفهم، ونقل المعلومة، وهم بذلك يخدمون الحكومة والجمهور بإيجابية وبنفس القدر.
أعود إلى صحافة السلام، التي تتدرج في حل النزاع، عبر الانتقال من التناقض نحو المشتركات، ضمن مراحل الحل العملية الثلاث، التي وضعها عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ، وهي بناء السلام (Peace building) وصنع السلام (Peace making) وحفظ السلام (Peace keeping)، وملخص هذه المراحل هو البدء ثم المباشرة العملية ثم حفظ النتائج.
تقع سوريا، حسب تحليلي، وقد يختلف معي البعض، في المرحلة الثانية وهي صنع السلام (Peace making)، فقد انتهت الحرب بكتلتها الرئيسة (Bulk)، وما تبقى هو اندفاعات محلية يحتمل أن تأخذ طابعًا عنفيًا، لكنها لم تعد مغرية لتدخلات خارجية سوى من قبل دول قليلة متضررة، ودون حكم في دوافعها وأحقيتها، وبناء على السياق الدولي والإقليمي والمحلي، فقد دخلت سوريا طورًا جديدًا يتطلب تغييرات جذرية، تبدأ من سياسات الإعلام الوطني الرسمي وتنسحب على إعلام المناطق المتمثل بوسائل ممولة أو شبكات محلية مدعومة بتوجهات مناطقية.
صنع السلام ليس مهمة الحكومة فقط، فالمجتمع معني به بشكل مباشر، وهو المتضرر والمستفيد الأول، لكنه في الحالة السورية عاجز عن المواكبة تحت تأثير “الروشيتة” القديمة، والخطاب الحربي المستمر.
الإعلاميون يجب أن يشعروا بالمسؤولية، وهذا لا يحرمهم حق النقد أو الكشف عن الأخطاء، لكن صنع السلام يستدعي من وسائل الإعلام والصحفيين والخبراء البدء بإعادة صياغة استراتيجياتهم، وإعادة النظر في البرامج والسياسات والصياغات.
مجددًا، على الصحفيين وصناع الرأي التفكير وتحليل المرحلة وبقايا النزاع وفق الأبعاد التي طرحها غالتونغ، والمتعلقة بطبيعة ما يجري في المجتمع في ظروف الحرب، وهي التناقض (Contradiction) والمواقف (Attitudes) والسلوك (Behavior)، إذ يمكن الاستثمار في التناقض وتقويض السلام، أو تغذية تمترس المواقف لأغراض سياسية وبالتالي ضرب أي محاولات للإقلاع وتجاوز كارثة الحرب ودعم الاتجاه السلبي، كما يمكن تعزيز السلوك العدواني والتهديد الناتج عن التناقضات والمواقف المسبقة.
وبالمقابل، يمكن للإعلام تفكيك التناقض، ونقد المواقف، وتجنب دعم السلوك السلبي والعنفي، وهذا بالضبط هو المفهوم الحقيقي لصنع السلام في الصحافة.. وللحديث بقية.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي