سوريا.. جهود حثيثة لجمع الأدلة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان
يبذل محققو جرائم الحرب والمجتمع المدني السوري وجماعات حقوق الإنسان جهوداً حثيثة للحفاظ على أدلة جرائم نظام الأسد، بعد العبث بالمواقع الرئيسية في أعقاب الفوضى التي أعقبت انتصار الفصائل السورية المسلحة في 8 ديسمبر الماضي، حسبما ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز”.
وأدى سقوط النظام وحل قوات الأمن التابعة له إلى إظهار عشرات المقابر الجماعية، وأكياس متناثرة من الرفات مجهولة الهوية، ما دفع أفراد عائلات الأشخاص الذين اختفوا في عهد الرئيس السوري السابق بشار الأسد إلى البحث في المواقع المروعة للعثور على أقاربهم.
وتوجد ملايين الوثائق المتناثرة في المباني المرتبطة بالنظام السابق، والتي توضح بالتفصيل كيف أرهب شعبه، وهي مجموعة من السجلات البيروقراطية، التي جعلت العنف المروع أمراً طبيعياً، وحددت المسؤولية الفردية والجماعية عن بعض أسوأ جرائم التاريخ الحديث، بحسب “فاينانشيال تايمز”.
وتشمل هذه الملفات آلاف الوفيات في سجون النظام؛ وأدلة على احتجاز أطفال صغار؛ واعترافات موقعة بجرائم بسيطة للغاية مثل “تنزيل لعبة فيديو”.
وأشارت الصحيفة إلى الاستخدام المنهجي للتعذيب، وإخفاء وفيات المعتقلين عن عائلاتهم، إضافة إلى ما قاله الناجون بأن هناك أدلة على انتشار الاعتداء الجنسي على نطاق واسع.
وعندما تمت الإطاحة بنظام الأسد قبل أكثر من أسبوعين، انهارت أجهزته الأمنية، ما ترك ما يقرب من “ألف فرع استخباراتي، ومرافق احتجاز، ومستشفيات، ومشارح، ومقابر جماعية دون مراقبة”.
وتدفق الآلاف من الناس إلى تلك المرافق في تلك الليلة، بحثاً عن آثار أفراد الأسرة المفقودين من خلال قلب الأدلة من الداخل إلى الخارج، وغرف الاستجواب وزنازين الاحتجاز ومكاتب الأمن، وتبعهم نشطاء المجتمع المدني وجماعات حقوق الإنسان ومحققو جرائم الحرب والصحافيون، بالإضافة إلى ضباط النظام السابق الذين حاولوا على ما يبدو إخفاء الأدلة.
وتكمن الحقيقة حول ما حدث لضحايا الأسد في تلك الوثائق التي أصبحت الآن معرضة للخطر.
الوصول إلى المنشآت
وتمكنت صحيفة “فاينانشال تايمز” من الوصول إلى أكثر من 12 منشأة حول دمشق، بما في ذلك فروع المخابرات ومراكز الاحتجاز الشبيهة بالزنزانات والسجون والمستشفيات العسكرية.
وخرج العديد من الأشخاص حاملين وثائق وأقراصاً صلبة، بما في ذلك عائلات المفقودين والصحافيين ومجموعة من الناشطين والمحامين السوريين الذين سلموا المواد إلى السلطات المؤقتة.
ولقد فتشوا جميعاً في أكوام من الأوراق المتناثرة، إذ ألقى البعض خزائن الملفات التي تحتوي على ملفات قضايا المعتقلين والتقارير الطبية والكابلات البيروقراطية ووثائق الهوية لأولئك الذين أعدمهم النظام على عجل، وتم إحراق بعض المرافق.
وقال قائد عسكري كبير في “هيئة تحرير الشام”، إن “معلوماتهم الاستخباراتية أظهرت وجود أوامر من الموالين للأسد بحرق المرافق”.
ووجدت صحيفة “فاينانشال تايمز” العديد من بطاقات الهوية العسكرية، وسجلات موظفي الفرع محترقة جزئياً في سلال المهملات.
وقال خبراء إن “الفوضى قد تعرض ملاحقات أفراد نظام الأسد للخطر، وتجعل من الصعب على الأسر تعقب المفقودين”.
ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، اختفى ما يصل إلى 100 ألف سوري خلال الحرب الأهلية التي استمرت 13 عاماً وحدها.
جمع الأدلة
وقال ويليام ويلي، المدير التنفيذي للجنة العدالة والمساءلة الدولية، وهي منظمة غير حكومية تجمع الأدلة من داخل سوريا منذ عام 2011 “في حين أنه من المفهوم تماماً أن الأسر المنكوبة سارعت إلى محاولة العثور على أحبائها، فإن هذا سيجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لمهمة المساءلة الشاملة إذا فقدنا أجزاء رئيسية من الأدلة”.
وذكر ويلي أن “محققي لجنة العدالة والمساءلة الدولية كانوا ينقلون الوثائق بهدوء إلى مواقع آمنة داخل سوريا، وسيبدأون قريباً المهمة الضخمة المتمثلة في رقمنة الملفات”.
ولم يتم نشر العديد من الهيئات المماثلة ذات الخبرة اللازمة للتعامل مع كنز الأدلة في سوريا بعد، مستشهدة بالمشاكل الأمنية والتعقيدات القانونية للتعامل مع “هيئة تحرير الشام”، وهي جماعة موضوعة على قوائم الإرهاب وتخضع لعقوبات دولية.
وقالت السلطات المؤقتة إنها “تفتقر إلى القوة البشرية حالياً لتأمين المواقع بشكل كافٍ، بينما تعتني بسيل من الأولويات الأخرى في البلاد التي مزقتها الحرب”.
وفي المدن التي وصل إليها عناصر هيئة تحرير الشام أولاً، كانت المواقع أكثر تأميناً، ولكن في دمشق وصلوا ثانياً بعد الفصائل التي قدمت من الجنوب، الأمر الذي جعل المواقع عُرضة للنهب خلال أول 24 ساعة.
وقُتِل ما لا يقل عن نصف مليون شخص خلال الحرب، وكثير منهم داخل فروع المخابرات والسجون، وعلى الرغم من تقديرات الأعداد الكبيرة للذين اختفوا، لم يُعثر إلا على بضعة آلاف من السجناء أحياء.
التحقق من الوثائق
وفحصت “فاينانشال تايمز” مئات الوثائق التي وقعها مسؤولون من النظام والمتعلقة بالمعتقلين.
وشملت وثائق لأشخاص احتُجزوا في زنازين كريهة الرائحة في أقبية فروع المخابرات، واحتجزوا في بعض الأحيان لشهور، كضمان لانتزاع اعترافات من آخرين، وشملت هذه الوثائق بطاقات هوية لأطفال لا تتجاوز أعمارهم 6 سنوات.
وفي زنازين الاحتجاز وغرف الاستجواب، شاهدت “فاينانشال تايمز” أجهزة تعذيب، بما في ذلك ما يسمى “السجادة السحرية” وهي ألواح خشبية قابلة للطي يتم تقييد المعتقلين عليها، قبل أن يتناوب الحراس على مد أو سحب أطراف المعتقلين أو طي اللوح إلى نصفين.
كما كانت هناك أدلة واسعة النطاق على وجود أطفال صغار في زنازين احتجاز النساء، بما في ذلك أحذية الأطفال الصغار وحليب الأطفال، فضلاً عن حبوب منع الحمل.
وقال الخبراء إن هذه الأدلة تشير إلى أن الاعتداء الجنسي كان منتشراً كما زعم السجناء السابقون.
وقال وايلي: “كل هذا دليل أساسي ضروري للحفاظ عليه”.
وكانت فروع الاستخبارات، هي أصل نظام الاختفاء القسري، حيث تم استدعاء الأشخاص للإبلاغ عن بعضهم البعض، ومواجهة الاستجواب والتعذيب، وأحياناً الاعتراف زوراً بالجرائم، ليتم نقلهم إلى زنازين في الطابق السفلي، وأحياناً لعدة أشهر، قبل محاكمتهم في محاكم سرية بتهم زائفة وسجنهم.
إخفاء الجثث
وأظهرت وثائق اطلعت عليها “فاينانشيال تايمز”، أن بعض السجناء أعدموا أو ماتوا أثناء الاحتجاز، ونقلت جثثهم إلى المستشفيات قبل أن “تضيع” في متاهة من عمليات النقل والأوراق، وكثيراً ما صدرت أوامر بحجب الجثث عن عائلاتهم.
وأظهرت الوثائق زيادة في هذه الوفيات بعد عام 2019، حيث تم إرسال ما لا يقل عن 10 جثث من السجون إلى مستشفيات منطقة دمشق كل يوم.
وقال المستجيبون الأوائل من “الخوذ البيضاء” في سوريا إنهم “عثروا على ما لا يقل عن 536 رفات بشرية مجهولة الهوية منذ سقوط الأسد، والتي أشار إليها مدنيون اتصلوا بخط الإبلاغ الخاص بهم”.
وبينما يجمع عمال الطوارئ تلك الرفات، قالوا إنهم “يفتقرون إلى الخبرة اللازمة لاستخراج القبور الجماعية”.
وفي إحدى المقابر الجماعية خارج دمشق في منتصف ديسمبر، أزال المدنيون ألواحاً حجرية تغطي حجرات خرسانية، ورفعوا أكياساً من بقايا بشرية، بحثاً عن أقارب مفقودين.
حقيبة الرفات
وجاء محمود ليحصل على حقيبة رآها في تقرير لإحدى القنوات التلفزيونية، حيث قرأ اسم أخيه المفقود منذ أن اعتقلته قوات الأمن في عام 2012 وكلمة “سجين”، بعد أن تم العثور على حقيبة الرفات مدفونة مع 7 آخرين.
وأمضى أياماً في القيادة حول مستشفيات دمشق، من أجل الحصول على شخص لإجراء اختبار الحمض النووي، والتأكد من أن الرفات كانت لأخيه.
وأخبره العاملون الصحيون والخوذ البيضاء أنهم “لا يستطيعون الاحتفاظ بالأدلة بهذه الطريقة العشوائية”.
وقال العاملون الطبيون إن “الغارات الجوية الإسرائيلية دمرت موقع اختبار الحمض النووي الرئيسي في دمشق قبل أسبوع، وتفتقر المدينة إلى القدرة على اختبار مثل هذه البقايا المتحللة”.
وحذر الخبراء من أن “الأمر سيستغرق شهوراً أو سنوات لبدء اختبار الحمض النووي للجثث من المقابر الجماعية”.
وفي الوقت نفسه، تنتظر عائلات الضحايا والمفقودين بفارغ الصبر أن تهدأ الفوضى.
وقال محمود وهو يعيد الحقيبة إلى سيارته “لا أعرف ماذا أفعل ولا يوجد أحد لمساعدتي، أريد فقط أن أعرف إذا كان هذا أخي حتى أتمكن من دفنه”.