وسيم العدوي | محمد كاخي | أمير حقوق
منذ إقرار قانون “قيصر” عام 2019، شكّل هذا التشريع إحدى أبرز أدوات الضغط الأمريكي على النظام السوري السابق، مستهدفًا مؤسساته ومسؤوليه بتهم ارتكاب جرائم حرب، لكنه كان أيضًا مؤثرًا على المواطنين السوريين.
ومع سقوط النظام أواخر 2024، بدأت تتشكل بيئة سياسية جديدة دفعت نحو إعادة النظر في العقوبات، لتتحول القضية إلى محور نقاش واسع داخل الولايات المتحدة وخارجها، وينتهي المطاف بالقانون ملغى بأغلبية أصوات مجلس النواب الأمريكي، ليمر بعدها إلى مجلس الشيوخ والرئيس الأمريكي، قبل نهاية العام.
بدأت مسيرة إلغاء القانون فعليًا في حزيران 2025، حين قدّم النائب “الجمهوري” جو ويلسون مشروع قانون لإلغاء “قيصر”، لتبدأ سلسلة من التحركات الدبلوماسية والسياسية، انتهت بموافقة مجلس النواب الأمريكي على الإلغاء الشامل ضمن قانون الدفاع الوطني للعام 2026، وسط جدل بين مؤيدين من الحزبين “الديمقراطي” و”الجمهوري” على حد سواء، يرون هذه الخطوة دعمًا للشعب السوري، وبعض المعارضين الذين حذروا من فقدان ما وصفوها بـ”أداة ضغط مهمة”.
يحاول هذا الملف توضيح الإجراءات القانونية لإلغاء القانون في أروقة السياسة الأمريكية، والمطالب من دمشق بالتوازي مع إلغاء القانون، وأثر ذلك سياسيًا واقتصاديًا في سوريا.
بعد مشروع السيناتور جو ويلسون، تكثفت اللقاءات بين الإدارة الأمريكية والحكومة السورية الانتقالية، وأعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، دعمه للإلغاء، معتبرًا أن العقوبات فقدت جدواها بعد سقوط النظام السابق، وأصدر أوامر تنفيذية لتعليق أجزاء منها بانتظار قرار من الكونجرس بهذا الشأن.
في تشرين الثاني 2025، استقبل ترامب الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، بالبيت الأبيض، وأكد الطرفان أن رفع العقوبات شرط أساسي لإعادة الإعمار والاستقرار، وسارعت وزارة الخزانة الأمريكية بدورها إلى إصدار تراخيص عامة سمحت بمعاملات اقتصادية كانت محظورة، في خطوة اعتُبرت تمهيدًا للإلغاء النهائي.
إعادة إعمار سوريا من أبرز المهمات الصعبة بعد سقوط نظام الأسد – كانون الأول 2025 (LAURENCE GEAI/MYOP FOR LE MONDE)
عبر ميزانية “الدفاع”
لكن ذلك لم يكن كافيًا لإلغاء القانون، فقد أُدرجت عقوبات “قيصر” ضمن موازنة الدفاع الأمريكية (قانون الدفاع الوطني–NDAA) لأن الكونجرس عادة ما يربط التشريعات ذات الطابع الأمني أو الاستراتيجي بموازنة الدفاع، لضمان تمريرها بسرعة، ولإبراز أن العقوبات على سوريا لم تكن مجرد أداة اقتصادية بل جزءًا من السياسة الدفاعية والأمن القومي الأمريكي.
وقال الخبير القانوني في شؤون الكونجرس الأمريكي المحامي سمير صابونجي ل، إنه عندما أرادت الإدارة الأمريكية معاقبة النظام السوري السابق أعدّت مجموعة من العقوبات وأدرجتها تحت اسم “قيصر” ضمن مادة في قانون الدفاع الوطني الأمريكي، وعندما تم تشديد العقوبات أيضًا جرى ذلك بموجب مادة في القانون المذكور، لأن أسهل طريقة لإقرار قانون عقوبات مثل “قيصر” هي إدراجها في قانون أوسع يضم بنودًا ومواد عديدة مثل قانون الدفاع الأمريكي.
ولو أراد المشرّعون الأمريكيون إعداد عقوبات ضد النظام السوري، أو إلغاء للعقوبات، في قانون منفرد فهذا يتطلب جهودًا أكبر وستكون احتمالات التصويت على الفرض أو الإلغاء أقل من حالة إدراجه كمادة في قانون الدفاع الوطني، أوضح صابونجي، لأن قانون الدفاع عليه إجماع بشكل دائم، وسنويًا يوافق الكونجرس الأمريكي بشكل طبيعي على قانون الدفاع نظرًا إلى أهمية ميزانية وزارة الدفاع في الولايات المتحدة.
ويمثل النجاح في إدراج بند إلغاء قانون “قيصر” ضمن موازنة وزارة الدفاع الأمريكية دليلًا على رغبة من قبل مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين في إنجاح التصويت على هذا البند، وفقًا للخبير ذاته.
“صفر خلافات” في النواب الأمريكي
لساعات طويلة ناقش النواب قانون الدفاع الوطني الأمريكي ضمن جلسة مجلس النواب الأخيرة التي أقر فيها القانون، قال المحامي صابونجي، حيث طرحوا مواضيع متعددة، ولكن لم تكن هناك اعتراضات على إلغاء قانون “قيصر” بذاته، إذ يتضمن قانون الدفاع بنودًا كثيرة منها الميزانية وحجم الأموال التي سيتم صرفها على القضايا المتعلقة سواء بإسرائيل أو أوكرانيا أو تايوان، وغير ذلك من البنود التي تحتاج إلى نقاش.
ومن المؤكد وجود خلافات بالرأي بين “الديمقراطيين” و”الجمهوريين” حول الميزانية المطلوبة من قبل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ولذلك فإن الاعتراضات من الجانبين كانت منصبة على قضايا أخرى بعيدة عن “قيصر”، وغالبًا ما كانت النقاشات حول التسويات والتنازلات من الجانبين.
في حال عدم الالتزام
برايان ماست رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، وهو “جمهوري” من ولاية فلوريدا الأمريكية، كان يعارض إلغاء قانون “قيصر” بطريقة غير مشروطة، ثم عدل عن موقفه هذا، وقال ضمن جلسة النواب الأمريكي، “إننا نلغي العقوبات عن سوريا حتى نعطيها فرصة لبناء مستقبل أفضل في حقبة بعد الأسد”.
ولكنه ذكر أيضًا أن الكونجرس الأمريكي يعطي الرئيس الأمريكي القدرة على فرض عقوبات ضد أفراد في سوريا، في حال قرر الرئيس أن ذلك سيكون لمصلحة الولايات المتحدة.
وأشار صابونجي إلى أن هذا الموقف من النائب ماست يتوافق مع موقف الرئيس ترامب بضرورة إعطاء فرصة لسوريا لإعادة بناء ما دمره الأسد، أي أنه غيّر موقفه السابق بشكل شبه كلي.
وكشف المحامي الأمريكي أنه لم يتم وضع بند ضمن قانون إلغاء “قيصر” ينص على “عودة عقوبات قيصر مجددًا (Snapback Provision) في حال فشلت سوريا في تطبيق أي من المعايير المطلوب منها الالتزام بها”، ولكن تم إعطاء المرونة للرئيس الامريكي بفرض عقوبات محدودة تستهدف أفرادًا بعينهم فقط.
الجلسة شهدت تصويتًا بالموافقة بالأغلبية من قبل الحزبين “الجمهوري” و”الديمقراطي” على قانون الدفاع الوطني الأمريكي ومن ضمنه إلغاء “قيصر”، وهو ما يرى فيه الخبير صابونجي تغييرًا في الكونجرس بعد موقف الإدارة الأمريكية الداعم لرفع القانون.
وبعد مرور قانون موازنة وزارة الدفاع (ومن ضمنه إلغاء عقوبات قيصر) في مجلس النواب، سيمر إلى مجلس الشيوخ، ومنه إلى البيت الأبيض لتوقيعه، قبل نهاية العام.
“قيصر” أمام الشيوخ الأمريكي
ذكّر المحامي سمير صابونجي بما حدث سابقًا منذ عدة أشهر عندما صوّت مجلس الشيوخ الأمريكي لمصلحة نسخة من قانون الدفاع الوطني، وكان من ضمنها بند لإلغاء قانون “قيصر” بشكل غير مشروط، موضحًا أن ما سيحدث حاليًا هو إجراء مصالحة بين هذه النسخة والنسخة التي صوّت لمصلحتها مجلس النواب، مؤكدًا وجود توافق كبير بين مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين على أن إجراء التصويت هو روتيني ومن غير المتوقع حدوث تعطيل أو تعديل.
ويتوقع الخبير الأمريكي أن يحدث تمرير سريع من قبل مجلس الشيوخ لقانون الدفاع في جلسته المقررة بداية الأسبوع المقبل، وعندها ستتم إحالة القانون إلى الرئيس الأمريكي الذي سيوقع عليه، وبعد ذلك يدخل القانون حيز التنفيذ، ويتوقع أيضًا أن يكون ذلك قبل عطلة عيد الميلاد نهاية الشهر الحالي.
وردًا على صلاحيات الرئيس الأمريكي بالاعتراض على القوانين، أشار صابونجي إلى أنه إذا وافق مجلسا النواب والشيوخ على قانون وتمت إحالته للرئيس الأمريكي يمكن له الاعتراض على القانون من خلال رفض توقيعه، وعندها يحال إلى الكونجرس فإذا لم يحصل القانون على ثلثي أصوات الكونجرس يفشل إقرار القانون.
ولكن في حالة قانون الدفاع، فإن عدد النواب الموافقين على القانون في مجلس النواب يبلغ 312 نائبًا أي 74% من العدد الكلي للنواب، وهذه النسبة تقارب الأغلبية المطلقة، وحتى لو اعترض الرئيس الأمريكي على القانون، سيتم تمريره لأنه حاصل على الأغلبية في مجلس النواب وسيحصل على الأغلبية في الكونجرس، ومن المستبعد جدًا أن يعترض الرئيس الأمريكي على قانون الدفاع الوطني وهذا أمر لم يحصل سابقًا.

الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي أعضاء غرفة التجارة الأمريكية في واشنطن – 11 تشرين الثاني 2025 (رئاسة الجمهورية العربية السورية)
واشنطن تراقب ودمشق مطالَبة بالإثبات
إلغاء قانون “قيصر” ليس مجرد إجراء اقتصادي، بل يعكس حالة من تموضع استراتيجي يعيد رسم ملامح السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويعكس اعترافًا ضمنيًا بأن معادلات القوة والتحالفات قد تغيّرت.
وبينما تستعد سوريا لالتقاط أنفاسها بعد سنوات من العزلة، يبقى السؤال الأبرز: هل يحمل هذا التحول بداية إعادة دمج سوريا في المشهد السياسي العالمي، أم أنه مجرد خطوة تكتيكية في لعبة النفوذ الكبرى؟
تغيّر سياسة واشنطن لآليات الرقابة
الباحث في الشؤون العربية علي فوزي، يرى أن تصويت مجلس النواب الأمريكي بشأن قانون “قيصر”، يمثل تحولًا استراتيجيًا في مقاربة واشنطن للملف السوري، وتغير السياسة الأمريكية من العقوبات الشاملة نحو آليات رقابة وتقييم دوري، بما يسمح بإعادة إدماج سوريا تدريجيًا في محيطها السياسي والاقتصادي.
وأوضح فوزي، في حديث إلى، أن رفع “قيصر” لن يعني انتهاء الضغوط، بل إعادة تنظيمها وفق منهج “المشروطية السياسية”، عبر تقارير تصدر كل 180 يومًا لمدة أربع سنوات.
ويمنح ذلك دمشق فرصة لتحسين صورتها خارجيًا وتخفيف عزلتها، لكنه في الوقت نفسه سيخضعها لاختبار علني في واشنطن وأوروبا حول مدى التزامها بالمعايير الأمنية والحقوقية المطروحة، وفق ما ذكره فوزي.
تصويت مجلس النواب الأمريكي حول قانون “قيصر” يمثل تحولًا استراتيجيًا في مقاربة واشنطن للملف السوري، وتغيرًا في السياسة الأمريكية من العقوبات الشاملة نحو آليات رقابة وتقييم دوري.
علي فوزي
باحث في الشؤون العربية
دعم لدمشق وتقليص للتوتر
الصحفي والباحث السياسي فراس علاوي، يعتبر أن التصويت يشكّل رسالة سياسية أمريكية تعكس توجهًا داعمًا للحكومة السورية وللاستقرار الإقليمي، في إطار ما يبدو أنه استراتيجية جديدة لإدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تسعى إلى إعادة ترتيب المشهد في الشرق الأوسط.
ويشكّل إلغاء قانون “قيصر” خطوة مفصلية تفتح بابًا واسعًا أمام تغيّرات محتملة في الوضع السوري.
لكنه ليس حلًا سحريًا، وفق ما قاله الكاتب السياسي درويش خليفة، فـ”من جهة، يعيد الإلغاء جزءًا من الأمل للسوريين بإمكانية استعادة الاستقرار السياسي وتحريك النمو الاقتصادي، ومن جهة أخرى يضع البلاد أمام التزام ثقيل بضرورة إصلاحات داخلية عميقة تشمل مكافحة الفساد، وإعادة هيكلة مؤسسات الجيش والأمن والقضاء بما يضمن احترام حقوق الإنسان، والانفتاح على القوى المحلية لتوسيع المشاركة في الحياة السياسية”، بحسب ما قاله خليفة ل.
دوافع اقتصادية وأمنية وسياسية
بينما بدا قرار التصويت خطوة مفصلية في التحول الأمريكي تجاه دمشق، فإن فهم خلفياته يكشف أن الأمر لم يكن وليد لحظة سياسية عابرة، بل نتيجة تراكم اعتبارات معقدة وتشابك مصالح داخلية وخارجية.
ولم تتجه الإدارة الأمريكية نحو هذا المسار إلا بعد مراجعة شاملة لتداعيات استمرار العقوبات على مسار الاستقرار الإقليمي، وعلى موقع واشنطن نفسه في خريطة التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط، وفي هذا الإطار، تتقاطع عدة عوامل دفعت صناع القرار في واشنطن إلى إعادة حساباتهم وفتح الباب لنهج أكثر مرونة تجاه سوريا.
وحول الدوافع، أوضح الباحث في الشؤون العربية علي فوزي ثلاثة مسارات تقف خلف القرار الأمريكي:
- اعتبارات اقتصادية تتعلق برغبة واشنطن في فتح باب الإعمار وإحياء الاقتصاد السوري بما يخدم مصالح إقليمية ودولية.
- ضرورات أمنية تمنع ترك الساحة السورية لفراغ قد تستغله الجماعات المتطرفة أو قوى إقليمية منافسة.
- حسابات سياسية داخلية تميل لإعادة ضبط أعباء السياسة الخارجية، إلى جانب ضغوط أوروبية وتركية وخليجية لتحريك الملف السوري نحو تسوية جديدة.
استعادة التوازن السياسي
في حديثه إلى، يرجح الصحفي والباحث السياسي فراس علاوي أن رفع العقوبات عن دمشق يُنظر إليه كمدخل لاستعادة التوازن الاقتصادي والسياسي في سوريا، بما يسمح بإعادة انفتاح دولي عليها بعد سنوات من القيود التي فرضها قانون “قيصر” ومنع أي تعامل رسمي مع الحكومة السورية.
ويرى “الجمهوريون” أن تحقيق الاستقرار في المنطقة يمرّ عبر الملف السوري تحديدًا، ما دفعهم لدعم الإدارة الأمريكية في خطوة رفع العقوبات بعد أكثر من أربعة عقود من إجراءات العزل الاقتصادي، ويهدف هذا المسار إلى إعادة تنشيط العلاقات بين واشنطن ودمشق وتقليص نقاط التوتر بما يخدم الرؤية الأمريكية لمنطقة أكثر استقرارًا وأقل استنزافًا.
اختبار لدمشق
بحسب مسودة وثيقة أُعدت في إطار قانون تفويض الدفاع الوطني، فإن رفع القانون يتطلب مراجعة الوضع في سوريا كل 180 يومًا على مدى أربع سنوات، لضمان اتخاذ دمشق الإجراءات المناسبة.
وحددت المادة المجالات التي يجب على الحكومة السورية التقدم فيها، وهي:
- العمل مع الولايات المتحدة للقضاء على تنظيم “الدولة” ومنع عودته.
- إبعاد المقاتلين الأجانب من المناصب العليا في الحكومة والأجهزة الأمنية.
- حماية الأقليات الدينية والعرقية وضمان تمثيلها بشكل عادل.
- الامتناع عن أي عمل عسكري غير مبرر ضد الدول المجاورة.
- تنفيذ اتفاق 10 من آذار (بين الحكومة السورية و”قسد”) بما في ذلك الإجراءات الأمنية والسياسية.
- مكافحة غسل الأموال، وتمويل الإرهاب وأنشطة الانتشار.
- محاكمة الأفراد المسؤولين عن انتهاكات “جسيمة” لحقوق الإنسان، منذ 8 من كانون الأول 2024.
- اتخاذ خطوات يمكن التحقق منها لوقف إنتاج وتهريب المخدرات، بما في ذلك “الكبتاجون”.
ويرى الباحث في الشؤون العربية علي فوزي أن البنود التي حدّدتها مسودة القانون، تشكّل معايير رقابية واضحة قابلة للقياس، لكن تنفيذها، بحسب فوزي، يواجه جملة من التحديات، أبرزها:
- هشاشة المؤسسات الرسمية واستمرار نفوذ المجموعات المسلحة.
- الارتباطات الإقليمية لبعض القوى داخل سوريا، ما يعرقل إعادة هيكلة مراكز القرار.
- الفساد الاقتصادي واحتكار شبكات النفوذ لملفات الإعمار.
- انعدام الثقة بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والمكوّنات المحلية، مما يجعل اتفاق 10 من آذار بحاجة لضمانات دولية حقيقية.
وأشار فوزي إلى أن واشنطن ستنتقل من سياسة “المحاسبة عبر العقوبات” إلى “الإدارة عبر التقييم”، بينما ستتعامل أوروبا بتفاوت بين دول منفتحة على إعادة العلاقات تدريجيًا وأخرى ستربط أي خطوة بملفات حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية.
واعتبر أن مجمل التحركات من شأنها إعادة صياغة المشهد السوري خارجيًا، بحيث تكون العودة التدريجية مشروطة بمدى التزام الحكومة السورية بخريطة المطالب الدولية.
ترتيب البيت الداخلي
أما الكاتب السياسي درويش خليفة، فيعتقد أن العامل الحاسم في رفع العقوبات نهائيًا، هو ترتيب البيت الداخلي، في ظل تشتت جغرافي ومجتمعي، وانتشار السلاح، وتعدد التدخلات الخارجية.
ويرجح أن ضبط هذه العناصر شرط أساسي لعودة مسار الدولة لتتقاطع فيها القوى المتحركة مع الطريق المؤدي إلى دمشق.
ربما تتباطأ الحكومة في تطبيق مطالب الولايات المتحدة، تحت ذرائع عدة، منها مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وضعف الإمكانات الذاتية، لكن هذا سيرتب عليها ضغوطًا متزايدة، وخاصة أن إصدار تقريرين سلبيين من الرئيس الأمريكي للكونجرس سيؤدي إلى تغير في العلاقة مع السلطات السورية، حسب تعبير خليفة.
انفتاح مشروط
بدوره، يعتقد الصحفي والباحث السياسي فراس علاوي، أن الانفتاح الأمريكي مشروط بعدم إشعال المنطقة أو الدفع نحو صدامات، ولا سيما مع إسرائيل، إلى جانب ضمان عدم عودة الوجود الإيراني والميليشيات الموالية له إلى سوريا.
هذا التحول يُعدّ مؤشرًا على انتقال الدبلوماسية السورية نحو مقاربة أكثر انفتاحًا على الغرب، بعد أن كانت لسنوات مرتبطة بالمحور الشرقي، وبذلك تقترب دمشق اليوم من السياسات الغربية وتخرج من تصنيفات ومحاور الصراع التقليدية، قال علاوي.
ولا يتوقع علاوي حدوث مراجعات جوهرية للسياسات الجديدة، إذ يقتصر الدور الأمريكي على مراقبة الأوضاع الميدانية والتدخل عند أي خرق للتفاهمات.
وتراهن واشنطن على قدرة الحكومة السورية على تعزيز السيطرة داخل البلاد، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتهيئة مناخ يسمح بدخول الشركات والاستثمارات بما يخفف من أي تبعات مستقبلية محتملة، بحسب ما أوضح علاوي.

المجلس السوري الأمريكي يلتقي عضو مجلس الشيوخ السيناتور كريس فان هولن لمناقشة إلغاء قانون قيصر ـ 21 تشرين الثاني 2025 (محمد علاء غانم/فيسبوك)
رغم أن التصويت على رفع قانون “قيصر” شكّل تحولًا لافتًا في الموقف الأمريكي، فإن ذلك لا يعني أن الطريق بات مفتوحًا بلا شروط أمام دمشق.
فالإلغاء، حسب الباحث في الشؤون العربية علي فوزي، بقدر ما يمثل انفراجًا اقتصاديًا وسياسيًا، يأتي مقرونًا بتوقعات واضحة من واشنطن والمجتمع الدولي لضمان استقرار ما بعد العقوبات.
وبذلك، ينتقل العبء الآن إلى الجانب السوري، الذي يجد نفسه أمام مرحلة اختبار حقيقية تتطلب خطوات ملموسة لتعزيز الثقة، وتأكيد الجاهزية للانخراط في مرحلة جديدة من العلاقات الإقليمية والدولية.
الحكومة السورية أمام اختبار كبير، ونجاحها في تحويل التصويت الأمريكي إلى مكسب سياسي واقتصادي يعتمد على اتخاذ سلسلة خطوات عاجلة، بحسب فوزي، أبرزها:
- إطلاق عمليات ميدانية حقيقية ضد فلول تنظيم “الدولة”، وإتاحة تقارير موثوقة حول النتائج.
- إبعاد المقاتلين الأجانب من مواقع القرار وإعلان خطة تنفيذية واضحة بشأنهم.
- تطبيق اتفاق 10 من آذار مع “قسد” بصورة شفافة، بما يشمل الإجراءات الأمنية والسياسية المطلوبة.
- إصدار قرارات تضمن حماية الأقليات وتفعيل آليات شكاوى مستقلة.
- مكافحة الفساد وفتح عطاءات الإعمار بآليات شفافة وخاضعة لرقابة محلية ودولية.
- التحرك دبلوماسيًا لشرح خطة الاستجابة للشركاء في الكونجرس والعواصم الأوروبية.
ويخلص فوزي إلى أن القرار الأمريكي يفتح نافذة سياسية نادرة لسوريا، لكن استثمارها يتوقف على الإرادة الواقعية لدى دمشق، فالفرصة متاحة لإعادة بناء الدولة واقتصادها، أما تجاهل الشروط فسيعيد البلاد إلى دائرة الضغط والعقوبات بشكل أشد تنظيمًا.
يُنتظر من الحكومة السورية تسريع إصدار التشريعات الاقتصادية، وتطوير بيئة عمل أكثر مرونة لجذب الشركات ورؤوس الأموال، إلى جانب الاستثمار في البنية التحتية لتهيئة الظروف الملائمة لإعادة الإعمار.
ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية العقوبات على دمشق، تأثرت مختلف قطاعات الاقتصاد السوري بشكل كبير، ما جعل من مسألة رفع هذه العقوبات أو تعديلها موضوعًا بالغ الأهمية للمستقبل الاقتصادي للبلاد.
الحد من هيمنة السوق السوداء
قال حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، في 16 من أيلول الماضي، إن الحوالات المالية إلى سوريا تمثل “شريان حياة” للاقتصاد السوري، وإن التحويلات من الإمارات العربية المتحدة وحدها تتراوح بين 700 و800 مليون دولار سنويًا.
وتوقع الحصرية نموًا “كبيرًا” في القطاع المصرفي السوري خلال السنوات الخمس المقبلة، وأن عدد المصارف سيصل إلى ما بين 30 و35 مصرفًا محليًا وأجنبيًا وعربيًا، وأكد أن سوريا ستمتلك حينها سياسة نقدية فعالة قادرة على تحقيق النمو واستقرار الأسعار، مع عودة واسعة للاستثمارات والمشاريع الكبرى.
الباحث الاقتصادي والمحلل الأول في مركز “كرم شعار للاستشارات” بنجامين فيف، يرى أن الانتقال لن يكون سريعًا، فالمصارف المراسلة ستتحرك بحذر نتيجة سياسات الحد من المخاطر وتكاليف إعادة فتح العلاقات الدولية، إلى جانب الحاجة الملحّة لتطوير أنظمة الامتثال مثل: اعرف عميلك (KYC) واعرف عملك (KYB).
ومع ذلك، أشار فيف إلى وجود اتجاه واضح نحو إعادة تفعيل القنوات الرسمية، مع مؤشرات على عودة استخدام نظام “سويفت” وتوسّع المنظومة الرقابية، ما يمهّد لانتقال تدريجي من الحوالات غير الرسمية إلى قنوات مؤسساتية أكثر شفافية.
ويذهب الدكتور في الاقتصاد عبد الحكيم المصري، في الاتجاه نفسه، ويرى أن رفع العقوبات سيمنح الجهاز المصرفي فرصة للاندماج مجددًا في البيئة المالية الإقليمية والدولية، بشرط أن ترافقه إصلاحات داخلية حقيقية.
ويشير المصري إلى أن تحديث البنية التحتية المصرفية، وتعزيز آليات التحقق من العملاء ومكافحة غسل الأموال، هي الخطوة الأولى نحو إعادة تفعيل القنوات الرسمية، ما يقلل تدريجيًا من الاعتماد على الحوالات غير المنظمة.
ويتقاطع ذلك مع تقدير الباحث والدكتور في الاقتصاد عبد المنعم حلبي، الذي اعتبر في حديثه إلى أن رفع العقوبات يوفّر فرصة مهمة للجهاز المصرفي كي يعيد بناء مكانته، بشرط أن ترافقه إصلاحات جدية في البنية التقنية والقانونية، وتعزيز إجراءات مكافحة غسل الأموال.
ويرى حلبي أن استقلالية مصرف سوريا المركزي ووضوح سياسته النقدية عنصران مهمان لاستعادة الثقة وتخفيف دور السوق السوداء، وأن أي تحول حقيقي يتطلب أيضًا تطوير الكوادر المصرفية وتحديث الأنظمة التشغيلية.
وبرأي الخبراء، فإن إنهاء هيمنة “السوق السوداء” لن يكون بضربة واحدة، لكنه مسار تدريجي يرتبط بمدى قدرة المؤسسات الرسمية على تقديم بدائل موثوقة وآمنة للمواطنين وللمتعاملين الماليين داخل البلاد وخارجها.

الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي أعضاء غرفة التجارة الأمريكية في واشنطن – 11 تشرين الثاني 2025 (رئاسة الجمهورية العربية السورية)
تأثير الإلغاء على قيمة الليرة السورية
ارتفعت قيمة الليرة السورية بعد تصويت مجلس النواب الأمريكي، في 10 من كانون الأول، بالأغلبية على مشروع قانون موازنة الدفاع، لكنها عاودت التراجع مجددًا مع افتتاح السوق في 13 من كانون الأول.
وأوضح المحلل والباحث الاقتصادي بنجامين فيف، أن رد الفعل الأول للسوق يرتبط عادة بالانطباعات الإيجابية، وهو ما يفسر الارتفاع السريع الذي سجلته الليرة مع تقدم التصويت الأمريكي باتجاه الإلغاء، لكن فيف يشير إلى أن هذا التحسن لا يمكن اعتباره مؤشرًا كافيًا على التعافي، إذ يبقى تأثيره مرهونًا بمدى قدرته على الاستمرار، وبوجود تدفقات مالية حقيقية عبر قنوات رسمية وسياسات نقدية موثوقة تدعم الاستقرار.
ويرى فيف أن تحسن الليرة، رغم فوائده في تخفيف التضخم المستورد وبث بعض الثقة في الأسواق، قد يحمل آثارًا جانبية إذا تجاوز حده الطبيعي، مثل تراجع القيمة المحلية للتحويلات الخارجية أو تأثر القدرة التنافسية للمنتجات السورية، لذلك، تبقى “الاستدامة” هي الاختبار الأهم، بحسب فيف، فغياب الثقة أو استمرار غياب التدفقات المنظمة قد يجعل التحسن مؤقتًا، ويعيد الأسواق إلى حالة القلق نفسها التي سبقت القرار، في وقت يبحث فيه المستثمرون عن استقرار يمكن توقعه بدلًا من القفزات المفاجئة.
تحسين الواقع المعيشي؟
مع الاتجاه نحو رفع العقوبات، يتساءل الشارع السوري حول الكيفية التي سينعكس بها ذلك على حياتهم اليومية، في ظل تدهور طويل أصاب مستويات الدخل والقدرة الشرائية.
يرى الباحث والدكتور في الاقتصاد عبد المنعم حلبي، أن التحسن المعيشي لن يتحقق بمجرد تخفيف القيود، بل يتطلب عامًا على الأقل من العمل المتواصل لإعادة تنشيط القدرات الإنتاجية المحلية، خصوصًا في القطاعات الزراعية والصناعات الغذائية التي يعتمد عليها الأمن الغذائي.
ويشير حلبي في حديثه إلى إلى أن الاستثمار في إنتاج القمح والشعير والزيتون، وتوسيع مشاريع الطاقة الجديدة، وإعادة تأهيل شبكات الاتصالات، يمكن أن يزيد الإيرادات العامة ويتيح خيارات استيراد أكثر توازنًا، بما يخفف الضغط على الأسعار ويحمي المنتجات المحلية في الوقت نفسه.
من جانبه، يربط الدكتور في الاقتصاد عبد الحكيم المصري، بين رفع العقوبات وبين قدرة المواطنين على تحسين مستوى معيشتهم من خلال خلق بيئة استثمارية أكثر نشاطًا، فمع عودة التحويلات عبر القنوات الرسمية وتراجع الاعتماد على السوق السوداء، يتوقع المصري انخفاض تكاليف التحويلات وسرعتها، ما ينعكس مباشرة على دخل الأسر.
كما يرى المصري أن دخول الشركات الجديدة وزيادة المنافسة سيؤثر على الأسعار نحو الانخفاض، بينما يسهم تشغيل اليد العاملة في رفع الدخل وتحريك السوق، وقد تكون إزالة “العقبة الخارجية”، المتمثلة بالعقوبات، الخطوة الأولى فقط، إلا أن تحسين الواقع المعيشي يتطلب استقرارًا داخليًا وتشريعات واضحة تشجع المستثمرين على العمل داخل البلاد، حتى تتحول هذه التوقعات الاقتصادية إلى تحسن ملموس يشعر به المواطن.

موظف في مكتب صرافة في دمشق – 16 نيسان 2025 (فرانس برس/ لؤي بشارة)
السوريون متفائلون
يتفاءل الشارع السوري بتحسن الواقع الاقتصادي في سوريا مع إلغاء العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر”، وبحسب استطلاع إلكتروني أجرته على موقعها الإلكتروني، يعتقد 54% من المصوتين الـ552 أن الواقع الاقتصادي في سوريا سيتحسن بشكل ملحوظ بعد رفع عقوبات “قيصر”.
بينما يعتقد 27% بأن التحسن سيكون محدودًا بسبب الأزمات الداخلية التي لا تزال تعيشها سوريا، و20% فقط من المصوتين رأوا أن رفع العقوبات لن يؤثر أبدًا على الواقع الاقتصادي السوري.
من مذكرات تفاهم إلى مشاريع على الأرض
وثق مركز “كرم شعار للاستشارات” مذكرات تفاهم بقيمة لا تقل عن 25 مليار دولار أمريكي في 31 من تشرين الأول الماضي، وبلغ عدد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقعتها سوريا منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في كانون الأول 2024 نحو 50 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات النقل الجوي والمواني والجسور والطاقة والصحة والتعليم والزراعة والإغاثة.
ومع تراجع العقبات الخارجية التي كان أبرزها قانون “قيصر”، تبدو مذكرات التفاهم الموقعة خلال الفترة الماضية أمام فرصة حقيقية للانتقال من الأدراج إلى التنفيذ الفعلي، بحسب ما يرى الدكتور في الاقتصاد عبد الحكيم المصري.
ومن المتوقع أن يفتح رفع القيود عن التحويلات المالية الطريق أمام بدء تنفيذ مشاريع متوقفة خلال أشهر قليلة، شرط استكمال المسار الإجرائي الذي يفرض على الحكومة السورية رفع تقارير دورية كل ستة أشهر لضمان الالتزام بالمعايير المطلوبة.
ويرى المصري أن هذه الرقابة تمنح المستثمرين درجة أعلى من الاطمئنان، بعد ما كانت العقوبات السبب المباشر في تجميد عدد كبير من الاتفاقيات.
لكن تحويل هذه المذكرات إلى مشاريع ناجزة يتطلب، وفق الباحث والدكتور في الاقتصاد عبد المنعم حلبي، إصلاحات أعمق داخل البيئة التشريعية والإدارية في سوريا، فغياب الشفافية وضعف الحوكمة كانا من أبرز الأسباب التي جعلت الاستثمار متوسط وطويل الأجل محفوفًا بالمخاطر.
ويرى حلبي أن تحسين بيئة الأعمال لن يتحقق دون مراجعة القوانين الناظمة، وتسهيل الإجراءات البيروقراطية، وتطبيق معايير مكافحة غسل الأموال، إضافة إلى تفعيل دور غرف التجارة والصناعة ومجالس الأعمال، مقابل تقليص الدور التنفيذي للحكومة مع بقاء دور إشرافي ورقابي وتخطيطي حكومي، معزز بصلاحيات واضحة للجان المختصة في مجلس الشعب القادم.
وبرأي حلبي، فإن نجاح هذه المنظومة شرط أساسي لانتقال مذكرات التفاهم من مرحلة التوقيع إلى واقع اقتصادي يمكن قياسه على الأرض.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي
