خالد المطلق
في تحول تاريخي عميق انتقلت سوريا إلى مرحلة فارقة بعد سقوط بشار الأسد ونظامه إذ لم يمثل هذا السقوط نهاية للصراع الممتد بل أطلق فصلًا جديدًا من التنافس المحتدم على النفوذ والسيطرة، مخلفًا تداعيات واسعة النطاق على المشهدين الإقليمي والدولي، والسؤال الجوهري المطروح الآن هو: هل ستتحول سوريا إلى ساحة تنافس دولي جديدة؟ أم ستتمكن من صياغة أفق مستقر؟
تبرز تحديات جمة أمام السوريين والقوى الفاعلة تشمل إعادة بناء الدولة المدمرة والتعامل مع الانقسامات العميقة التي خلفتها سنوات الصراع الطويلة، وفي الواقع نرى هذا المشهد الجديد صراعًا متعدد الأبعاد، حيث يتشابك التنافس بين الفصائل المحلية المدعومة إقليميًا ودوليًا مع النفوذ المستمر للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران، بينما تظل قضايا إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية ومعالجة الانقسامات الاجتماعية هي الأولويات الملحة لضمان مستقبل مستقر.
وإذا بحثنا في المشهد السياسي والأمني الجديد نرى أن سوريا شهدت بعد رحيل الأسد إعادة تشكيل جذرية لخارطة السيطرة والنفوذ حيث لم تعد السلطة مركزية على النقيض من مرحلة النظام البائد إذ تشتتت السيطرة بين فصائل متعددة وقوى إقليمية ودولية تسعى كل منها لفرض أجنداتها الإستراتيجية، ومن هنا نرى أن المشهد السوري بات على الأرض عبارة عن فسيفساء معقدة من مراكز القوة المتباينة، ففي المناطق الشمالية والغربية والوسطى والبادية والجنوبية حتى أرياف السويداء هيمن الجيش السوري على جزء كبير من هذه المساحات، وفي المقابل تحتفظ “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة بشكل رئيسي من الولايات المتحدة بسيطرتها على مناطق شاسعة شمال شرقي البلاد، بالإضافة إلى أهميتها الاستراتيجية حيث تتركز في هذه المناطق غالبية الثروات النفطية والموارد الزراعية ، أما السويداء فما زالت تحت سيطرة ميليشيات الهجري المدعومة من إسرائيل، وبنتيجة هذه الديناميكية تستمر التجزئة وتعدد مراكز القوة مما يعيق توحيد القرار السياسي والأمني في البلاد.
التحديات الخارجية
يتسم المشهد السوري بوجود عسكري أجنبي كثيف ومؤثر وهو ما يعكس الأهمية الاستراتيجية لسوريا في المعادلات الإقليمية والدولية:
• الولايات المتحدة: تُثبّت وجودها عبر قواعد عسكرية متعددة شمال شرقي سوريا في مناطق سيطرة “قسد” ويهدف هذا الوجود إلى دعم حلفائها المحليين ومكافحة الإرهاب إضافة إلى موازنة النفوذ الإقليمي.
• روسيا: على الرغم من خسارتها لحليفها الرئيسي تسعى روسيا بإصرار للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية خاصة قاعدتيها في طرطوس وحميميم اللذين يمنحانها منفذًا حيويًا إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط.
• تركيا: تواصل تركيا تعزيز نفوذها في الشمال عبر دعم فصائل المعارضة وضمان أمن حدودها من التهديدات الكردية، وهذا يخلق فعليًا منطقة نفوذ تركية مباشرة.
• إيران: رغم تراجع نفوذها المباشر الذي كانت تمارسه عبر النظام، ما زالت إيران تسعى لترسيخ وجودها ومصالحها عبر دعم بعض الميليشيات والجماعات على الرغم من تقلص فرص السيطرة الكاملة التي كانت تطمح إليها.
• إسرائيل: تتكثف المخاوف الإسرائيلية بشأن أي تهديدات أمنية محتملة مما يدفعها لشن غارات جوية استباقية على أهداف محددة لترسانة الجيش السوري وبعض القواعد التي تقيمها تركية علاوة على ذلك أقامت إسرائيل مناطق عازلة في الجولان، مما يمثل انتهاكًا لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 بالإضافة إلى دعمها للهجري في السويداء.
التحديات الداخلية
تواجه سوريا تحديات داخلية هائلة بالتوازي مع التنافس الخارجي تتطلب هذه التحديات إطلاق جهود مضنية لإعادة بناء الدولة وتضميد الجراح الاجتماعية والسياسية.
أما إعادة الإعمار والاقتصاد المنهك فقد دمرت سنوات الحرب الطويلة البنية التحتية السورية بالكامل مؤدية إلى انهيار شبه تام في الاقتصاد، إذ تحتاج البلاد إلى ضخ استثمارات ضخمة وجهود دولية منسقة لإعادة الإعمار وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، غير أن الفساد المتراكم في القطاع العام والعقوبات الدولية يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي ويستدعي تطبيق إصلاحات هيكلية وجذرية للقضاء على الفساد أولًا.
أما ما يتعلق بالمصالحة الوطنية ومعالجة الانقسامات يُعد تجاوز الانقسامات الاجتماعية والسياسية والعرقية والطائفية تحديًا محوريًا لا يمكن تجاوزه، وقضايا مثل مصير المعتقلين والكشف عن المقابر الجماعية وعودة ملايين النازحين واللاجئين كلها قضايا إنسانية وسياسية بالغة الإلحاح وتتطلب حلًا عادلًا وشاملًا.
وفي ضوء ذلك يمثل تحقيق المصالحة الوطنية وبناء دولة ديمقراطية عادلة تضمن تمثيل جميع الأطراف السبيل الوحيد نحو استقرار مستدام وطويل الأمد.
وفيما يتعلق بالجيش السوري من الأهمية بمكان إعادة هيكلة هذا الجيش ليصبح مؤسسة تحوله إلى جيش وطني مهني بدلًا من أن يكون أداة قمع للشعب. كذلك يجب تأسيس مؤسسات سياسية واقتصادية مستقرة وقادرة على تمثيل جميع أطياف المجتمع السوري لتفادي العودة إلى دوامة العنف والصراع.
السيناريوهات المستقبلية
تتعدد السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا والتي تتراوح بين التفتت والهشاشة وبين الانتقال التدريجي نحو نظام ديمقراطي مستقر.
يمكن إيجاز السيناريوهات المحتملة في ثلاثة مسارات رئيسية:
1. التفتت والتقسيم: إذا استمرت الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية قد تتمزق البلاد إلى مناطق نفوذ شبه مستقلة ما يعيق نهائيًا بناء دولة موحدة.
2. الانتقال الديمقراطي التدريجي: وهو السيناريو الأكثر تفاؤلًا حيث تُكلَّل جهود المصالحة الوطنية وبناء المؤسسات الديمقراطية بالنجاح بدعم وإسناد من المجتمع الدولي.
3. نموذج الهشاشة (على غرار العراق): وهو سيناريو يشبه العراق في تقاطعاته الطائفية والسياسية حيث تتواصل التوترات والصراعات الداخلية والسياسية على الرغم من وجود حكومة مركزية شكلية.
دور المجتمع الدولي وإعادة الاندماج الإقليمي
يظل دور المجتمع الدولي حاسمًا خاصة الأمم المتحدة في دعم عملية سياسية شاملة وحماية حقوق الإنسان بالتوافق مع قرار مجلس الأمن “2254”.
وفي خطوة موازية شهدت الفترة التي تلت سقوط الأسد تحركات دبلوماسية مكثفة لإعادة تفعيل علاقات سوريا مع الدول العربية، وقد تجسدت هذه الخطوات في العودة الرمزية والمهمة إلى جامعة الدول العربية وإعادة فتح السفارات وتبادل الزيارات الدبلوماسية مع دول خليجية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر، مما يشير إلى رغبة متبادلة في تطبيع العلاقات ودعم جهود الاستقرار.
وعلى صعيد آخر تستمر القوى الإقليمية في تعديل دورها المؤثر في سوريا فتركيا تركز على تأمين حدودها وإيران تسعى للحفاظ على شبكة حلفائها بينما تراقب دول الخليج الوضع عن كثب لتوازن النفوذ التركي ودعم الاندماج العربي.
أول انتخابات برلمانية وقضايا العدالة الانتقالية
تمثل أول انتخابات برلمانية، التي جرت منذ عدة أيام، خطوة مهمة نحو إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية، إلا أنها تواجه تحديًا كبيرًا لضمان تمثيل جميع الأقليات ونزاهتها.
ومن جانب آخر تتضمن تحديات بناء الديمقراطية معالجة قضايا العدالة الانتقالية مثل محاسبة المسؤولين عن الجرائم وتوفير التعويضات للضحايا، هذه الخطوات ضرورية لإرساء أساس راسخ لمجتمع مبني على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
في الختام، يظل مستقبل سوريا بعد سقوط النظام البائد محفوفًا بالغموض لكنه يحمل في طياته آمالًا مضاعفة تتمثل تحقيق الاستقرار الذي يتطلب معالجة جذرية وحاسمة للتحديات الداخلية المتمثلة في الانقسامات وإعادة الإعمار وبناء مؤسسات ديمقراطية قوية.
الأهم من ذلك، يجب على القيادة السورية الجديدة أن تتحلى بالحكمة في إدارة النفوذ الإقليمي والدولي المتنافس لضمان سيادة القرار السوري وتنفيذ المصالحة الوطنية التي يجب أن تكون فوق كل اعتبار، فالطريق نحو دولة سورية موحدة ومستقرة وديمقراطية سيكون طويلًا ومليئًا بالصعوبات، ومع ذلك بالإرادة الوطنية ودعم دولي فعال يصبح هذا الهدف المستدام ممكن التحقيق.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي