اخر الاخبار

سيدة البهجة لالا بادي.. تترك “التيندي” في عهدة الأجيال

يشكّل الطوارق الذين يتوزّعون على الجزائر وليبيا وتشاد والنيجر ومالي، أمّة لها لغتها وثقافتها وحضارتها وموسيقاها، التي منها “التيندي”، وهي موسيقى  مرتبطة بالأرض بروحيها الأمازيغية والأفريقية. وليس أدل على ذلك من كون اسمها منقولاً عن اسم جبل، على الحدود الجزائرية الليبية. 

تستخدم أغنية “التيندي” إحدى لهجات الطوارق الثلاث، “تاماشق” و”تماهق” و”تماجق”، وهي كلها من اللغة الأمازيغية التي تملك أبجدية مستقلة تسمى “تيفيناغ”. 

تميل كلماتها إلى التغنّي بالأرض، روحاً ومعنى وخيرات وطقوساً وأمجاداً، حتى يظن المستمع إليها أن الطوارقي، الذي يُعرف بـ”بالرجل الأزرق”، لميله الدائم إلى هذا اللون في لباسه، هو الإنسان الوحيد الذي يملك أرضاً فوق الكوكب. 

ولأن الأرض والمرأة واحد، في المخيال الأمازيغي، فلا تجد الفنانة الطوارقية، صعوبة في إقناع أسرتها ومحيطها، بالانخراط في الغناء، بصفته صوتاً يعبّر عن روح الأرض. بل إن العزف على آلة “الإمزاد” الوترية، ظل حكراً عليها، فلا يقربه الرجل، ولا يُقبل منه. 

قمر الطوارق

ثمّة مقولة يرددها طوارق الجزائر، مفادها أن كل مغنّيات “التيندي” نجمات، ووحدها لالة بادي بنت سالم، التي رحلت قبل أيام عن عمر ناهز 88 عاماً، هي القمر المنير.

لم تكن لالة معلمة النساء فقط، بل الرجال أيضاً، إذ اعترف نجم الأغنية الطوارقية عثمان بالي، بأنه أخذ عنها الإيمان بهذه الموسيقى والشجاعة في مواجهة الجمهور، وكان أكثر من أخرجها من محليتها إلى العالم، قبل أن يرحل عام 2005.

ولدت لالة بادي عام 1937 في منطقة “عين قزام”، جنوب الجزائر العاصمة، أي في قلب العزلة والفقر، اللذين أثمرتهما ثنائية الجغرافيا والاحتلال الفرنسي، الذي لم يكن يرى في الأرض وإنسانها إلا الثروات والجهود المبذولة لأجله. 

ولأن الأم الطوارقية تعدّ أولادها الذكور لبطولات العيش، وتعدّ بناتها الإناث لبطولات الفن، فقد عملت أم لالة بادي على أن تهيئ ابنتها، ما إن بلغت العاشرة، لأن تكون مغنية متميّزة ومهيمنة، فلم تخذلها وشرعت في لفت الانتباه إليها، خلال الأعراس والمناسبات العامة. 

موسقة الألم

يقول الكاتب والناشط الثقافي في ولاية تمنرست، إحدى حواضر الطوارق في الجزائر، مولود فرتوني، “إن لالة بادي كانت تغني في البدايات انطلاقاً من جرح خاص يتعلق بمعيشها، فكانت تستفزّ في مستمعيها المحليين أوجاعهم وأحلامهم، ثم باتت تغني انطلاقاً من جرح حضاري يتعلق بهويتها، فصارت تستفز في مستمعيها الغربيين، إعجابهم بفنون أفريقيا”.

ورأى أن الفنانة الراحلة عرفت متأخرة أن العالمية تبدأ من عتبة البيت، فتخلّصت من عقدة الضعف أمام الآخر، وانطلقت إليه بكل خصوصياتها الجزائرية والإفريقية والصحراوية، فاستقبلها بصفتها إضافة، ومنحها ما تستحقه الإضافات من ضوء وتقدير”. 

جرأة العصرنة

ويشير الفنان سعيد، عضو فرقة “تيكوباوين”، أشهر الفرق الفنية الطوارقية، إلى أن لالة بادي “كانت من السبّاقين إلى التجرؤ على إثراء موسيقى “التيندي” بآلات جديدة، فلم تعد مقتصرة على آلاتها التقليدية، مثل الطبل والإمزاد والقرقب، إذ أدخلت القيثارة الكهربائية أيضاً”.

ويركد أنه “لم يكن سهلاً إقناع المركزية الثقافية الطوارقية المحافظة، باستضافة آلات غريبة عن الذائقة العامة، إذ كان الحكم عليها بكونها ستخرّب الهوية الموسيقية المحلية جاهزاً، غير أن الثقة التي كانت تتمتع بها لالة بادي لدى الطوارق، جعلتهم يغّضون الطرف عن نزعتها نحو عصرنة موسيقاها، ثم انخرطوا في الإعجاب بها، بما فتح المجال أمام الفرق الشبابية الجديدة”.  

يعتبر المسرحي حبيب بوخليفة، أن لالة بادي “تموقعت في مقام موسيقي يمثّل الروح المشتركة بين أفريقيا والعالم، فوجد في موسيقاها نفسه، حتى إن فرقاً مسرحية أوروبية وظّفتها في عروضها، في إطار مسرح ما بعد الدراما، بما وفّر الإضافة للطرفين”. 

“التذكار”

وعلى الرغم من الشهرة التي حظيت بها لالة بادي، داخل وخارج الجزائر، على مدار نصف قرن، إذ أسست عام 1990 فرقة “إساكتا”، وتعني بالطوارقية “التذكار”، إلا أنها لم تصدر ألبومها الأول إلا عام 2017. 

 صدر الألبوم عن “دار “بابيدو”، وضم تسع مقطوعات زاوجت بين  التيندي التقليدي والتيندي بالقيتارة الكهربائية، فكأنها أرادت القول إنها لا تجد نفسها إلا داخل دائرة التنوّع، الذي أسست له وتحدّت لعقود من أجله. 

كانت أغنية “أميدينين إبنو أشير”، وهي الأولى في الألبوم الذي حمل اسم المغنية، ملخّصاً جمالياً لمسيرتها وفلسفتها وهويتها، تؤثثه الروح الاحتفالية والتصفيقات المرتفعة والآهات العميقة، بما ذكّر محبيها بالطريقة التي كانت تغني بها في فرقة “التيناريوين”.

لم تخاطب أم الطوارق في هذا الألبوم طوارق الجزائر فقط، بل خاطبت أيضاً طوارق النيجر ومالي وبوركينا فاسو، حيث عاشت سنوات هناك، وتعاملت مع نخبة موسيقية منها. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *