اخر الاخبار

“سيرة مغيّب”.. مأساة المعتقل السوري مازن الحمادة

في صيف عام 1977، ولد مازن الحُمادة في دير الزور السورية، وكان يفترض أن يعيش حياة عادية، وأن يتزوج بعد تخرّجه من معهد النفط في سوريا، وخصوصاً أنه حصل على وظيفة جيدة في شركة فرنسية.

شاب ذو ملامح هادئة، كان بإمكانه أن يجلس في مقهى يحتسي قهوته، ويسمع فيروز تغني، وينتظر أطفاله العائدين من المدرسة. فهو كان من هؤلاء “العاديين”، الذين لا يخططون أن يصبحوا أبطالاً، ولا يتوقعون أن تتداول نشرات الأخبار أسماءهم.

لكن البطل التراجيدي لا يحتاج سوى إلى غلطة بسيطة، كأن ينتهي من رشف قهوته، ثم ينتبه وهو من أبناء دير الزور، إلى تظاهرة في الشارع. 

وبدافع خفي، يتحرّك مع أجساد الناس، وبحكم أنه ما زال شاباً في الرابعة والثلاثين، فقد صدّق الشعارات. إذ ليس هناك ما هو أسوأ من تصديق شعارات العدالة والحرية والكرامة، داخل كابوس دموي أشعله فرد واحد كي يهزم شعباً.

ربما لم يندفع بجسده النحيل وسط المظاهرة، وإنما احتفظ لنفسه بمسافة آمنة مكتفياً بتصوير مقطع فيديو بهاتفه على سبيل الذكرى.

كان هذا كافياً كي تنتبه له أعين الأمن اليقظة، فتعتقله هو وهاتفه كي يقضي أسبوعاً خلف أسوار المعتقل، ثم يتم يُعتقل لأسبوعين آخرين.

ربما لو غضّت عين الأمن طرفها عنه، لأكمل مازن طريقه إلى بيته محاذراً، كي لا يتورّط في شيء. وربما استمرّ حياً يمارس حياته كإنسان عادي. لكن القدر رتب له شيئاً آخر.

لا يمكن بسهولة قراءة كتاب “لم يعد معنا: سيرة مغيّب”، الصادر عن دار الجديد في بيروت، لأنها جارحة في صدقها. سيرة تفجر أسئلة ووجعاً في قلب من يقرأها. لماذا حدث كل هذا؟ وبأي منطق يرتكب الناس هذا الشر كله؟

قميص وخاتم ذهبي

يحكي مازن عن أيامه اعتقاله الأولى: “وصلتُ بقميصي المميّز ماركة “ستيفانيل”، وخاتمي الذهبي، ومحفظتي. وصلت “أنيقاً” إلى القسم. نظروا إلى هندامي وضربوني، وهم يفكّرون في أن مرتباتهم الوضيعة لا تتيح لهم شراء قميص مثله، وأنه بعد قليل سيصبح حقاً لهم”.

واجهوه بمقاطع الفيديو التي بثّها على صفحته في الفيسبوك، أطفأوا السجائر في ساقه وصعقوه بالكهرباء، أجبروه أن يعترف بقتل جنود وتفجير قنابل وامتلاك أسلحة.. داسو عليه فانكسرت ضلوعه، وبقي لأسابيع يتنفّس بصعوبة.

يقول: “التعذيب فن. يرغمك السجّان على الاعتراف، ثم يطلب منك التوقيع على إفادتك. أنت لا تعرف على ماذا ستوقّع، لكنهم يحذرونك: إن كررت شنيعتك فلا مفر من الموت”.

يصعب ذكر تفاصيل العبارات والمواقف المفجعة التي عاشها مازن، وآلاف غيره، وكيف تحوّل إلى الرقم “1858”، وحين ساءت حالته تمّ نقله إلى مستشفى يوسف العظمة العسكري.

هولندا المفرّ

بين عامي 2011 2013، اعتقل أكثر من مرّة، وأفرج عنه أحياناً بلا محاكمة، وحين أطلق القاضي سراحه نجح في المغادرة عبر البحر مخاطراً بحياته، ليصل لاجئاً إلى هولندا عام 2014.

 هناك قضى مازن بضع سنوات مصرّاً أن يوصل “صوت المعذّبين في سوريا إلى العالم الحرّ في أوروبا وأميركا”. تحدّث عن قصص المعتقلين والموتى تحت التعذيب، شارك في مؤتمرات وجلسات استماع وأفلام وثائقية عدّة.

أحياناً كان مازن يتألم ويتقيأ، وأحياناً فكّر في النأي بنفسه، كما خطر في باله أن يعود ويشارك في التغيير من الداخل، لكن الأهل والأصدقاء حذّروه: “من الأفضل أن تبقى في الخارج كي تدافع عن القضية”. 

عام 2020  تلقّى مازن إشارة من أفراد تابعين لنظام الأسد، ترحّب بعودته إلى سوريا مقابل الإفراج عن معتقلين، فذهب إلى السفارة السورية في برلين، وأخذ جواز سفر، لكن الدعوة كانت بمثابة “فخ” له، فقبضوا عليه فور عودته إلى مطار سوريا، ليبدأ الفصل الثالث والأخير من رحلته المأساوية التي قاربت 15 عاماً.

قال مازن لأحد الأصدقاء: “سأضحّي بنفسي كي أضع حداً لحمام الدم. هذا كل ما في الأمر”. بحث الزملاء والأصدقاء عنه، ثم أدلى أحد المعتقلين بشهادة، أكد فيها أنه رآه في فرع المخابرات الجوية الذي اعتقلوه فيه من قبل.

توثيق الألم

بذلت الصحافية الاستقصائية الفرنسية غارانس لوكان، جهداً واضحاً في تجميع شهادات مازن بين 2011 و 2020، فضلاً عن جهودها في “وثائقي قيصر”. ونُسب الكتاب في ترجمته العربية إليهما معاً، فمنذ التقته للمرة الأولى عام 2015، اتفقت معه أن يكتبا كتاباً معاً.

أشارت الصحافية الفرنسية في تقديمها للكتاب، “أن الغرب نفسه كان مهتماً بروايات التعذيب الخاصة بالجماعات الإرهابية، أكثر مما يرتكبه نظام الأسد، مع ذلك تشبّث مازن بفضح آلة التعذيب الرسمية، والوفاء لذكرى الضحايا، قائلاً: “لقد دمّروا ذاكرتنا، بيد أني أستمدّ قوتي من ذاكرة وجعي”.

تصف لوكان مازن قائلة: “كانت قصّته في كثير من الأحيان مفككة، ومتأرجحة بين ذهاب وإياب، وفوضوية. إنه رجل محطّم، جرى تعذيبه وتجريده من إنسانيته. لم يكن دقيقاً في التواريخ، كنا نسأله العودة إلى سنوات خلت كي يفتش في ذكرياته: مشاعره، والروائح، والألم. أما الحنين إلى الفرات فهو ما كان يطفو دائماً”.

اختارت الصحافية أن تقسّم كتابها إلى أربعين فصلاً، هي أقرب إلى مقاطع قصيرة وشذرات والتماعات تذكّر، فضلاً عن ربط تجربة اعتقاله بغيرها من التجارب العالمية المشابهة.

رشا الأمير

من جانبها، أشادت ناشرة الكتاب رشا الأمير “بجهود الصحافية غارانس لوكان، وتوثيقها لتسريبات “قيصر”، المصوّر السوري الذي عمل طويلاً مع النظام، ثم تمكّن من تهريب الصور إلى الخارج، قبل أن يكشف اسمه الحقيقي مع سقوط النظام، حيث نشرت غارانس كتاباً عبارة عن حديث مسهب معه، ومن بعدها اهتمّت بقصة مازن الحُمادة”.

أضافت الناشرة في تصريح لـ “الشرق”: “حين فُتحت السجون السورية بعد أن فرّ الأسد، وسقط نظامه، تمّ العثور على جثّة مازن في برّاد أحد المشافي”. 

وعن سبب اهتمامها كناشرة بتلك القصّة المأساوية قالت: “دار الجديد” مهتمّة منذ سنوات بالشأن السوري. نشرنا مجموعة من الكتب حول الموضوع. وغارانس من صديقات الدار، وتحيّة لها ولمازن، قرّرنا ترجمة الكتاب كي يعود إلى لغته”.

وأوضحت “أن صديقاً كويتياً قرّر أن يحمل نسخاً من الكتاب إلى سوريا، وهكذا فعل. نحن نعيش في زمن “الفظيع”، ما يحدث لنا في غزّة وسوريا ولبنان واليمن والسودان وليبيا لا يُحتمل”.

أضافت: “دار الجديد” تقف بلا هوادة مع الضحية ضدّ جلادها. مع الضحية التي لا تطمح أن تصير جلاداً. ولذلك نشرنا الكتاب بالمجان في موقعنا بصيغة (PDF).

العثور على الجثة

ربما ثمّة حاجة إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب، تتضمن ما جرى لمازن في سنواته الخمس الأخيرة، مختفياً في سجون نظام الأسد.

واستكمالاً لما ذكرته رشا الأمير، نشرت وسائل الإعلام ومنصّات التواصل، تفاصيل مهمة حول كيفية وقوع مازن ضحية لمخطط، دبّره جهاز مخابرات النظام السابق، الذي استعان بشبكة تجسّس تعمل من هولندا، لاستهداف المعارضين بقيادة العميل “ماجد”، الذي أقنعه بالعودة إلى سوريا بعد أن حصل على اللجوء في هولندا.

استغلّ “ماجد” موجة اللجوء السوري إلى أوروبا، وعرض خدماته على النظام، فتولى مهمة إقناع المعارضين بالعودة إلى وطنهم، وأخبر مازن بأنه سيكون في أمان، مع التهديد بأن شقيقته ستتعرض للاعتقال إذا رفض العرض.

وفّر له أحد مساعدي “ماجد” جوازاً مزوّراً، مستخدماً اسماً مستعاراً، لتمكينه من العودة عام 2020، لكن أثره اختفى إلى أن وجدوا جثته في مستشفى “حرستا” في ريف دمشق، وسط عشرات الجثث التي يعتقد أنها نقلت من سجن صيدنايا الرهيب، مع الترجيح بأنه قضى نحبه قبل أسبوع فقط من سقوط نظام الأسد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *