لم يكن فرح أحد مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي مجرد مناسبة اجتماعية عابرة، بل تحوّل إلى مشهد كاشف لأزمة عميقة في الذوق العام ومنظومة القيم داخل المجتمع. ما جرى من تجاوزات لفظية وسلوكيات غير لائقة، وما صاحبه من احتفاء واسع على المنصات الرقمية، لا يمكن التعامل معه كحادث فردي أو «تريند» مؤقت، بل كعرض صريح لتحول خطير في مفهوم القدوة ومعايير النجاح والشهرة.
هذا المشهد يدفعنا إلى مقارنة موجعة بين ما كنا عليه وما صرنا إليه. فقد عرفت مصر زمنًا كانت فيه القامة الفكرية والثقافية هي مرجع المجتمع وبوصلته. طه حسين جسّد مشروع التنوير والعقل النقدي، ونجيب محفوظ عبّر بعمق عن الإنسان المصري وحصل على نوبل عن جدارة، وكان الشعراء من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأمل دنقل يصوغون الوعي العام بلغة راقية ومسؤولية تاريخية. وفي الفن، رفعت أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب الذائقة الموسيقية، وكان الإبداع هو الطريق الوحيد إلى القلوب والخلود.
اليوم، يتراجع هذا الإرث الثقيل ليحل محله صعود نماذج صنعت حضورها من الضجيج والاستعراض والإثارة الرخيصة. أسماء بلوجرات التيك توك وأمثالهم التي لم تصبح معروفة بسبب قيمة فكرية أو إبداع فني أو رسالة اجتماعية، بل بفضل القدرة على جذب الانتباه بأي ثمن، حتى لو كان على حساب الكرامة العامة والذوق واللغة والأخلاق. الأخطر أن هذه النماذج باتت تُقدَّم، بشكل مباشر أو غير مباشر، كقدوة لجيل يتشكّل وعيه داخل منصات سريعة لا تعترف إلا بعدد المشاهدات.
الفرح الذي شغل الرأي العام لم يكن مجرد احتفال خاص خرج عن السيطرة، بل نموذجًا صارخًا لكيف تحوّلت الحياة الشخصية إلى مادة استهلاكية، وكيف أصبح الإسفاف قابلًا للتسويق والتطبيع. حين تُنقل التجاوزات إلى ملايين الشاشات، ويجري التعامل معها كنوع من «الجرأة» أو «النجومية»، فنحن أمام خلل جماعي لا يمكن تجاهله أو تبريره.
هذه الظاهرة لم تنشأ من فراغ. إنها نتاج تراجع دور المؤسسات الثقافية والتعليمية، وغياب المشروع التنويري، وهيمنة إعلام يلهث خلف التريند، واقتصاد انتباه يكافئ الصراخ لا القيمة. ما يُسمّى بـ«بكابورتات التيك توك» لم يصنع الأزمة، بل كشفها واستثمر في فراغ أخلاقي وثقافي تركناه يتسع عامًا بعد عام.
المسألة لم تعد مسألة أذواق شخصية، بل قضية وعي ومسؤولية مجتمعية. فحين تختفي القدوة الحقيقية، يتصدر المشهد من يملأ الفراغ، أيًا كانت أدواته أو رسالته. وحين يُهمَّش المثقف والمبدع الجاد، يصبح الإسفاف هو الصوت الأعلى، لا لأنه الأقوى، بل لأنه الوحيد المتروك في الساحة.
نحن في حاجة حقيقية إلى مراجعة شاملة تعيد الاعتبار لمعنى القدوة، وتزرع في الأجيال الجديدة القدرة على التمييز بين القيمة الحقيقية والضجيج المؤقت. نحتاج إلى إعلام أكثر وعيًا بدوره، وتعليم يعيد بناء الذوق والضمير، وأسرة تدرك خطورة ترك أبنائها رهائن لخوارزميات لا تعرف سوى الأرقام.
مجتمع أنجب طه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ لا يمكن أن يُختزل في مشاهد فوضوية عابرة. ما حدث يجب أن يُقرأ كجرس إنذار لا كفضيحة مؤقتة، ودعوة صريحة لاستعادة البوصلة الأخلاقية والثقافية. فالقدوة لا تُقاس بعدد المتابعين، بل بما تضيفه للإنسان، والذوق العام لا يُبنى بالصخب.
المصدر: صدى البلد
