قال البروفيسور البريطاني نيك ماينارد، الجراح الاستشاري المتطوع في غزة منذ 15 عاماً، إن الأطباء في القطاع “لا يحصلون أبداً على فرصة للراحة”، مضيفاً أنهم يعيشون داخل المستشفى على مدار 24 ساعة، ويُستدعون في أي لحظة لعلاج أعداد هائلة من المصابين، وأن هذا الواقع مستمر منذ عامين، ما يجعل صمودهم “أمراً مذهلاً حقاً”.

وفي ظهوره على برنامج “Frankly Speaking” الذي تبثه “عرب نيوز”، قدّم البروفيسور ماينارد، الذي عمل مع منظمة “الإغاثة الطبية الفلسطينية”، واحدة من أكثر الشهادات المباشرة قسوة.

وقال ماينارد لمقدم البرنامج علي عيتاني: “يا إلهي، أستطيع أن أقضي ساعات وأنا أحكي لكم عن لحظات لا تزال تطاردني”.

وأشار ماينارد إلى أنه في بداية الحرب، كانت معظم الحالات التي يعالجها إصابات ناتجة عن القنابل والقذائف والطائرات المسيّرة. لكن مؤخراً، قال: “شهدنا زيادة هائلة في إصابات الطلقات النارية”.

وأضاف: “غالبية هؤلاء كانوا فتياناً مراهقين صغاراً، في سن 11 و12 و13 و14 عاماً، تعرّضوا لإطلاق النار عند نقاط توزيع الغذاء التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية”.

وتابع: “كنت أرى هذه الإصابات بالرصاص بشكل شبه يومي. والرواية التي كنا نسمعها من الضحايا وعائلاتهم، وحتى من زملائي من العاملين في قطاع الصحة في غزة الذين كانوا يذهبون بأنفسهم لتلك المواقع للحصول على الطعام لعائلاتهم الجائعة، كانت متطابقة: هؤلاء الفتية الذين خرجوا لجلب الطعام لعائلاتهم كانوا يُستهدفون من قبل الجنود الإسرائيليين. وهذه كانت إصابات مروعة”.

وخلال يومه الثاني أو الثالث في مستشفى ناصر، توفي صبي يبلغ من العمر 12 عاماً على طاولة العمليات بين يديه. وقال البروفيسور ماينارد: “لم نتمكن من إنقاذ حياته بسبب خطورة إصاباته، بعد أن أطلق عليه جندي إسرائيلي النار”.

وأشار إلى أن ما صدمه أكثر كان نمط الإصابات. وقال البروفيسور: “في يوم واحد رأينا أربعة فتيان صغار جميعهم أُصيبوا بطلقات نارية في الخصيتين”.

وأضاف: “كان تكرار هذا النمط من الإصابات لافتاً لدرجة أن الأمر بدا أبعد من مجرد صدفة … وكأنه تدريب على الرماية بالنسبة للجنود الإسرائيليين”.

وإلى جانب إصابات الحرب، أصبح الجوع يحصد الأرواح. وقال ماينارد: “سوء التغذية الذي رأيته كان مروّعاً. أطفال رُضّع يموتون جوعاً، أطفال يموتون جوعاً، وبالغين يموتون جوعاً”.

قصة زينب وحبيبة

وتذكر ماينارد طفلتين بشكل خاص: “زينب، رضيعة عمرها سبعة أشهر، توفيت لأنه لم يكن هناك حليب أطفال على الإطلاق في مستشفى ناصر. وبينما كانت تحتضر، كان زملاء أميركيون لي يجلبون حليب الأطفال في حقائبهم إلى غزة، لكن جنود الحدود الإسرائيليين صادروا كل علبة. كل علبة من هذا الحليب كان يمكن أن تنقذ حياة زينب”.

أما حبيبة، 11 عاماً، فقد قال: “قضيت ليلة كاملة وأنا أصلح مريئها، لكنها توفيت بعد أربعة أسابيع لأننا لم نتمكن من توفير التغذية اللازمة لها”.

وأشار إلى أن آثار أزمة الجوع ستكون كارثية على المدى البعيد، وأضاف: “حتى لو دخلت كميات غير محدودة من الطعام إلى غزة اليوم، فستبقى العواقب المدمرة لسوء التغذية الحالي لسنوات عديدة مقبلة”.

ورفض البروفيسور ماينارد مزاعم إسرائيل بأن ضرباتها على مستشفيات غزة تستهدف مقاتلين من “حماس”. وقال: “كنت في غزة في مايو 2023، قبل أحداث السابع من أكتوبر بخمسة أشهر، ذهبت لإجراء عمليات جراحية لمرضى السرطان، وتعرضنا لقصف جوي مكثف من إسرائيل عندما كانت حركة (الجهاد الإسلامي) تطلق صواريخ. رأينا بأعيننا مدى دقة استهداف القصف الإسرائيلي”.

وتابع: “لكن بعد السابع من أكتوبر، رأينا مجتمعات بأكملها، مدناً كاملة، مخيمات تُدمّر بالقصف العشوائي. هذا ليس قصفاً دقيقاً، هذا ليس لحماية المدنيين. هذا هجوم واسع على البنية التحتية للحياة في غزة”.

وعن النفي المتكرر من المسؤولين الإسرائيليين لوجود مجاعة أو استهداف للمدنيين، قال ماينارد بلهجة حادة: “إنها أكاذيب. وأعتقد أن الإعلام العالمي يجب أن يواجه هذه الأكاذيب صراحة، لا أن يستمر في إعطائهم منبراً لتكرارها”.

وأضاف: “لدينا شهادات مباشرة من عاملين في القطاع الصحي من الخارج، عادوا ومعهم أدلة مصورة وشهادات موثقة. يجب مواجهة إسرائيل بالحقيقة والقول لها إننا نعلم أنكم تكذبون”.

وقال البروفيسور مارينارد إن الحكومات والمؤسسات الغربية خذلت الفلسطينيين، وقال: “المؤسسات الأكاديمية والطبية في بلدي، وفي الغرب عموماً، فشلت في نصرة غزة، فقد ظلّت في الغالب صامتة”.

وقارن برد هذه المؤسسات مع الحرب في أوكرانيا قائلاً: “ازدواجية المعايير والنفاق صارخان”.

ويعتقد مارينارد أن القادة الغربيين “متواطئون” في أفعال إسرائيل، وقال: “يتم تدمير سكان غزة، والعالم الغربي وحكوماتنا يسمحون بحدوث ذلك. أنتم جميعاً متواطئون في هذه الجريمة”.

وقال ماينارد إن الأطباء لا يمكن أن يبقوا صامتين، وتابع: “أعتقد أن لدينا واجباً بأن نروي ما نراه ونُعلم العالم بما يجري، لأن حكوماتنا لا تفعل ذلك، وإعلامنا لا يُسمح له بفعل ذلك”.

وتابع: “غزة تعرضت لخذلان عميق من الإعلام الغربي؛ وتتعرض لخذلان عميق من حكوماتنا الغربية”.

قصف المستشفيات

ماينارد الذي عمل في غزة منذ فرض إسرائيل حصارها المفتوح على القطاع منذ 2007، وشهد موجات تصعيد متعددة، قال إن الدمار في العامين الماضيين تجاوز كل ما رآه من قبل.

وتابع: “في رحلتي الأخيرة قبل أسابيع قليلة، كان النظام الصحي مدمراً تقريباً بالكامل، حتى مستشفى ناصر، آخر مستشفى كبير ما زال يعمل، لم يكن يعمل سوى جزئياً. كل مستشفى في غزة تعرض لهجمات من الجيش الإسرائيلي. وقد تعرّض مستشفى ناصر للقصف عدة مرات”.

وقال ماينارد: “الهجوم الأخير وقع مباشرة بعد مغادرتي. ورغم أنهم زعموا أنهم استهدفوا مقاتلين من (حماس)، فإنهم في الحقيقة قصفوا سقف وحدة العناية المركزة وسقف مجمع غرف العمليات. لقد دُمّر جزء كبير من مستشفى ناصر”.

ويزيد النقص الحاد في الموارد من حجم الكارثة. وقال ماينارد: “الوقود اللازم لتشغيل المستشفى يكاد ينفد كل أسبوع. لا نعلم إن كنا سنتمكن من تشغيل أجهزة التنفس الصناعي أو الإضاءة أو غرف العمليات أو الحاضنات”.

وتابع: “المواد التي نستخدمها في غرفة العمليات، مثل الأغطية المعقمة، والأثواب والقفازات المعقمة، تعاني نقصاً شديداً. غالباً ما تنفد كلها، ونضطر لاستخدام معدات أخرى كبدائل لتعويض غياب الأدوات المعقمة”.

وأضاف: “الأدوات الجراحية التي نستخدمها تتعرض للأعطال، وأحياناً نُجبر على إجراء العمليات باستخدام أدوات غير مألوفة على الإطلاق. الوضع مأساوي، ولا نعرف من يوم لآخر إن كانت ستتوفر معدات كافية لعلاج المرضى في اليوم التالي”.

وقال ماينارد: “لا تحصل أبداً على فرصة للاسترخاء، لأنك لا تعرف متى ستُستدعى. أنت تعيش داخل المستشفى، ما يعني أنك عملياً في الخدمة على مدار 24 ساعة، ويمكن أن يُوقظوك في أي لحظة لعلاج عدد كبير من المصابين”.

وأضاف: “كل يوم كان لدينا أعداد هائلة من المصابين، وأحياناً مرتين أو ثلاث مرات في اليوم الواحد. لذلك لا توجد أي فرصة للراحة”.

لكن ماينارد سارع للتأكيد على أن هذا هو واقع الحياة اليومية بالنسبة للأطباء في غزة منذ ما يقارب العامين: “لقد عاشوا كل ثانية من حياتهم على هذا النحو، وطريقة صمودهم أمام ذلك أمر مذهل حقاً”.

وأكد أنه يعتزم العودة إلى غزة رغم المخاطر: “ما يجعلني أواصل هو حبي لشعب غزة… إنهم الشعب الأكثر بطولة وإلهاماً ممن قابلتهم في حياتي”.

ورغم حجم الدمار، يظل ماينارد مقتنعاً بأن النظام الصحي في غزة قادر على التعافي إذا أُتيحت له الفرصة: “لديهم قدرة مذهلة على إعادة بناء هذه المؤسسات. نعم، بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق النار، وبمساعدة المجتمع الدولي، سيتمكنون بالتأكيد من إعادة بنائها”.

وختم بتحذير: “حتى ذلك الحين، ما نقوم به لا يمثل سوى قطرة في بحر مقارنةً بالفظائع التي تستمر يوميا”.

شاركها.