اخر الاخبار

شون بيكر.. أمير الصعاليك الذي أصبح ملكاً

على مدار 25 عاماً، منذ فيلمه الأول Four Letter Words، عام 2000، وحتى فيلمه الأخير Anora، سعى صانع الأفلام شون بيكر، إلى شيئين: الاستقلال الفني والمالي عن أساطين وتجار هوليوود، ورصد حياة المهمشين والصعاليك بأنواعهم في نيويورك وخارجها.

في فيلمه الثاني Take Out، عام 2004، الذي قامت سلسلة “كرايتريون” بترميمه وإعادة إصداره في نسخة 4k و Blue-Ray ضمن كلاسيكيات السينما العالمية، يرصد شون بيكر حياة شاب صيني مهاجر بشكل غير شرعي في مدينة نيويورك، خلال يوم واحد.

يبدأ الفيلم باثنين من “البلطجية” يقتحمون مسكناً للعمال المهاجرين يبحثون بين النائمين عن شخص يدعى مينج دينج. إنه مدين لرجل عصابات بمبلغ اقترضه لكي يرسله إلى أمه في الصين، بعد أن قضى ستة أشهر في أميركا لم يستطع فيها توفير أي أموال، يهدده المقتحمان بأن المبلغ، وقدره 800 دولار، سوف يتضاعف إذا لم يقم بتسديده حتى المساء.

ويتتبع الفيلم رحلة الشاب على دراجته في شوارع نيويورك كعامل توصيل طلبات في مطعم صيني، بينما يبحث أيضاً عن شخص يقرضه المبلغ المطلوب، في نهاية اليوم بعد ان كاد يبلغ هدفه يتعرض للسطو على يد اثنين آخرين من المهاجرين.

بيكر الذي أنتج وكتب وأخرج الفيلم بمساعدة شريكته في ذلك الوقت شي شينج تسو، قام بالتصوير أيضاً مستخدماً كاميرا رقمية صغيرة محمولة على الكتف، كعادة الأفلام المستقلة في التسعينيات وبداية الألفية.

بهذا الفيلم الذي يستعيد روح مدرسة “الواقعية الجديدة” الإيطالية، خاصة رائعة فيتوريو دي سيكا Bicycle Thieves، وضع شون بيكر قدمه على الطريق الذي سيسلكه بعد ذلك وصولاً إلى Anora، الذي حظي عنه بأكبر عدد من جوائز الأوسكار يحصل عليها فنان عن فيلم واحد: الإنتاج والإخراج والتأليف والمونتاج، بجانب حصول الفيلم على أوسكار أفضل ممثلة لمايكي ماديسون أيضاً.

من المهاجرين الصينيين ينتقل بيكر في فيلمه التالي Prince of Broadway، عام 2008، إلى مهاجر إفريقي من غانا، يبيع البضائع المقلدة في شوارع مانهاتن، يكتشف فجأة أنه أب لصبي صغير، وكالعادة يفعل بيكر كل شيء من الإخراج والتصوير والمونتاج والمشاركة في الكتابة والإنتاج، أما بطل الفيلم، فيؤدي شخصيته الحقيقية، ما يكسر الخطوط بين الروائي والوثائقي، ويشيع نوعاً من الواقعية بات مميزاً لكثير من أفلام الألفية الجديدة (بعد أن راج في السينما الإيرانية، لظروفها الخاصة، خلال التسعينيات).

في فيلمه التالي Starlet، عام  2012، يروي بيكر قصة إنسانية تجمع بين شابة في العشرينيات وسيدة عجوز في منتصف الثمانينيات، غير أن الشابة تعمل في الأفلام الإباحية، وهو ما سيفتح الباب أمام بيكر لتناول هذه الفئة في أفلامه اللاحقة: Tangerine، Red Rocket و Anora، باستثناء The Florida Project الذي يرصد الحياة داخل أحد المجمعات السكنية الفقيرة.

بينما يرصد Tangerine، عام 2015، حياة عدد من البغايا والمتحولين جنسياً، يرصد Red Rocket، عام 2021، أزمة بطل أفلام إباحية في الأربعينيات يحاول البحث عن عمل آخر، متسكعاً لبعض الوقت في بيت زوجته التي كانت تمثل أيضاً في هذه الأفلام، وحالماً باستعادة شبابه وحياته من خلال علاقة بفتاة لا تتجاوز العشرين.

مزاج الفيلمان ونهايتهما تميلان للكآبة، بالرغم من أن الثاني، Red Rocket، كوميدي. ويبدو أن Anora يمثل مرحلة جديدة في أعمال شون بيكر، أكثر ميلاً للتفاؤل والخفة في طرح الموضوعات، وهي خفة قد تمثل ابتعاداً وتناقضاً مع الواقع، لكنها قادرة على جذب الجمهور ونيل إعجاب النقاد أكثر، بدليل حصول Anora على كل هذا التقدير والجوائز، أو ربما يمثل الفيلم لحظة نادرة يحلم بها كل سينمائي مستقل، وهي تحقيق المعادلة بين صنع ما يريده المرء فنياً وتحقيق النجاح الشعبي الضخم في الوقت نفسه.

يعيش شون بيكر، ويعمل في نيويورك، موقع معظم أفلامه، على الطرف الشرقي من الولايات المتحدة، بعيداً للغاية عن هوليوود الغربية، حيث يعيش وودي ألين ومارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا وغيرهم من الفنانين المستقلين عن هوليوود إنتاجياً وفنياً وفكرياً.

وينضم بيكر إلى هذه المدرسة المختلفة التي تغذي السينما الأميركية عادة بأعمال أكثر جدية وفنية، ونجاحه الهائل في حفل الأوسكار ليس فقط تتويجاً لمسيرته الطويلة الصعبة، ولكنها تتويج لمدرسة نيويورك كلها وأسلوبها في صنع الأفلام.

* ناقد فني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *