خارج متحف جبلي غمرته الأمطار، حيث خاضت القوات الصينية معركة حاسمة ضد اليابان عام 1940، ظهرت على شاشة عملاقة لقطات للرئيس شي جين بينج خلال زيارة قام بها الشهر الماضي.

وأظهر الفيديو، المُصور من زيارة شي إلى مدينة يانجتشيوان في مقاطعة شانشي، الزعيم الصيني وهو يخاطب طلاباً اجتمعوا في المعرض قائلاً إن “الحزب الشيوعي الصيني كان العمود الفقري لحرب المقاومة الوطنية” ضد اليابان.

ويُعد قرار شي إحياء ذكرى 17 ألف قتيل وجريح صيني بعد 85 عاماً جزءاً من حملة أوسع لإعادة صياغة النقاش العالمي بشأن الحرب العالمية الثانية.

ومن خلال تسليط الضوء على تلك التضحيات، يسعى شي إلى ترسيخ صورة الحزب الشيوعي باعتباره منتصراً في الحرب على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، رغم أن الحزب لم يصل إلى السلطة إلا بعد 4 سنوات من استسلام اليابان، حسبما ذكرت “بلومبرغ”.

وعلى غرار ما يفعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوظف شي التاريخ لتحقيق أهدافه وحشد المشاعر الوطنية في بلد يعاني من ضعف سوق العمل وأزمة إسكان.

ويستهدف شي من خلال حملته تعزيز مطالبة بكين بالسيادة على تايوان المتمتعة بحكم ذاتي، وتكريس موقعها كركيزة في النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، في وقت يبتعد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب ببلاده عن المؤسسات التي هيمنت عليها الولايات المتحدة لعقود.

وتتجلى هذه الحملة، الأربعاء، عندما يشرف شي على عرض عسكري في بكين لإحياء الذكرى الـ80 لاستسلام اليابان رسمياً.

ويمثل الحدث امتداداً لمشروع سياسي أطلقه شي منذ عقد تقريباً، ففي عام 2014، أعلنت أعلى هيئة تشريعية في الصين يوم 3 سبتمبر عيداً للنصر” على اليابان، وأعقبه تنظيم أول عرض عسكري من نوعه لإحياء المناسبة.

حرب ذاكرة

وقال الباحثان كاينان جاو ومارجريت بيرسون في دراسة نشرها معهد “بروكينجز” الأسبوع الماضي: “إلى جانب الاستعراضات العسكرية والتذكير البصري بمساهمات هذه الدول في المجهود الحربي، فإن العروض جزء من حرب ذاكرة مستمرة”. 

وأضافا أن “تذكير الغرب بالتضحيات الصينية المنسية، ولا سيما تلك التي قدمها الحزب الشيوعي، يُعتبر دعماً للمطالبة بتصحيح أخطاء الماضي”. 

وسيُظهر مشهد اجتماع شي وبوتين إلى جانب الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون والرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان في ساحة تيان آن مين “نظاماً دولياً متغيراً”، حيث تجد مثل هذه الأنظمة مساحة أوسع للمناورة ضمن تكتلات لا تشمل الولايات المتحدة.

ويأتي العرض بعد أيام من قمة استضافها شي، استغلها لترميم علاقاته مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي يتجاهل التحذيرات الغربية بشأن دعمه لروسيا عقب غزوها أوكرانيا. 

ومن خلال تسليط الضوء على تضحيات الصين، تسعى بكين أيضاً إلى تأكيد مكانتها كركيزة شرعية في النظام العالمي لما بعد الحرب. ففي لقائه مع بوتين، الثلاثاء، أشاد شي بمشاركة كل منهما في عروض الآخر العسكرية هذا العام، إذ نظمت روسيا عرضها في مايو الماضي، معتبراً ذلك دليلاً على “العزم الراسخ على الدفاع عن الرؤية الصحيحة للتاريخ في الحرب العالمية الثانية”.

وأضاف شي أنه يعمل مع “دول متشابهة التفكير” لبناء نظام أكثر “عدلاً وإنصافاً” للحكم العالمي.

خلافات حول التاريخ

وقالت “بلومبرغ” إن استخدام التاريخ كسلاح لا يقتصر على الصين. فقد سعى بوتين إلى استغلال تاريخ سوفييتي مشترك لحشد التأييد الشعبي لغزوه أوكرانيا عبر تصوير الحكومة في كييف على أنها خاضعة لـ”الفاشيين”. أما ترمب فأكد أن الولايات المتحدة “قدمت أكثر من أي دولة أخرى، وبفارق كبير، لتحقيق النصر”. 

وتكتسب طريقة صياغة الصين لرواية الحرب أهمية في آسيا؛ لأنها تؤثر على النزاعات الإقليمية والدبلوماسية الراهنة، ففي قلب هذا الجدل سلسلة من الاتفاقات المبرمة إبان الحرب العالمية الثانية، تقول بكين إنها تمنحها حقاً مشروعاً في تايوان.

ولا تميل الحكومات الغربية إلى التركيز على الإعلانين اللذين تفضلهما بكين، بل تعترف بمعاهدة سان فرانسيسكو للسلام الموقعة عام 1951 التي أنهت الحرب رسمياً. وتنص المعاهدة على أن اليابان “تتنازل” عن أراضٍ، دون أن تُلزمها بإعادتها إلى الصين، مما ترك مسألة تايوان غامضة.

وكانت جمهورية الصين الوطنية التي يقودها القوميون قد سيطرت على تايوان بعد استسلام اليابان عام 1945.

نبرة تصالحية

واتسمت احتفالات بكين قبل عقد بنبرة “تصالحية” تجاه تايوان، ففي خطابه عام 2015، تجنب شي التمييز بين الحزبين، مكتفياً بالإشارة إلى “انتصار الشعب الصيني”.

وكانت العلاقات حينها في أفضل حالاتها منذ عقود، وكان شي يستعد للقاء نظيره عبر المضيق، ما عزز دوافعه للتأكيد على الوحدة. لكن العلاقات تدهورت منذ ذلك الوقت، مع عدم وجود مؤشرات على أن شي يخطط لغزو قريب، رغم الأسلحة الجديدة المتوقع كشفها.

وأثارت مواقف الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان غضب بكين، إذ يعتبر أن الجزيرة مستقلة بحكم الأمر الواقع، ولا تتبع لجمهورية الصين الشعبية.

ومع تصاعد التوتر عبر المضيق وتكثيف الصين ضغوطها العسكرية على الجزيرة، يبدو أن الطرفين يوظفان السرديات التاريخية لخدمة أهدافهما السياسية.

وأدان مجلس شؤون البر الرئيسي التايواني الحزب الشيوعي الصيني؛ بسبب “ادعائه زوراً” أنه قاد الحرب ضد اليابان، كما حظر الرئيس لاي مشاركة المسؤولين الحكوميين التايوانيين وكبار القادة العسكريين والاستخباراتيين والدبلوماسيين السابقين في العرض العسكري ببكين.

وفي المقابل، ستشارك هونج هسيو-تشو، أول امرأة تتولى رئاسة حزب “الكومينتانج” المعارض الرئيسي في تايوان، في العرض العسكري، في إشارة إلى رغبة بعض الأوساط بالجزيرة في تعزيز الروابط. 

وردت تشو فنجليان، المتحدثة باسم مكتب شؤون تايوان في بكين، باتهام لاي بـ”تشويه تاريخ الحرب العالمية الثانية”، لتقويض النظام الدولي لما بعد الحرب والسعي نحو الاستقلال.

وفي مؤشر على رغبة الحزب الشيوعي في تعزيز مكانته داخلياً وخارجياً، حتى حزب “الكومينتانج” الذي حرصت بكين على دعمه سياسياً، لم يسلم من الانتقاد، فقد نشر “معهد أبحاث التاريخ الصيني”، وهو مركز أبحاث رسمي أُنشئ عام 2019 برعاية شي، تعليقاً الشهر الماضي ينتقد ما وصفه بـ”تمجيد” قيادة القوميين خلال الحرب. 

ويخدم ذلك رواية مفادها أن “الحزب الشيوعي هو الذي تصدى لليابان منذ البداية”، بحسب إميلي ماتسون، أستاذة بجامعة جورجتاون ومؤلفة دراسات حول هذه التحولات. 

وفي يانجتشيوان، يستمر بث تقرير زيارة شي على الشاشة العملاقة في الساحة وأخرى أصغر في الداخل، لتكرار الرسالة القائلة إن هزيمة اليابان وازدهار الصين الحالي يعودان إلى قيادة الحزب، في عام 1940 كما في 2025. 

شاركها.