اخر الاخبار

صعوبات الحياة في المنفى.. اللغة ومشكلات تعلمها

أحمد عسيلي

تكلمنا في مادة سابقة عن الصعوبات التي تواجه السوريين الناجين من الحرب، والذين وصلوا إلى الغرب مع آمال كبيرة بحياة سعيدة، ففوجئوا بصعوبات قاسية، أدت بكثير منهم إلى الإحساس بالإحباط، الذي وصل إلى مراحل من الاكتئاب في بعض الأحيان، وما قد ينتج عن هذه الحالة من إدمان وعزلة اجتماعية وإحساس بالفشل.

سأتابع في هذه المادة الحديث عن واحدة من أهم الصعوبات التي تواجه السوري (أو أي مغترب) وصل في مرحلة عمرية متقدمة نسبيًا (أي بعد مرحلة الطفولة) ليعيش في بلد يتحدث لغة غريبة عنه، وأسلط الضوء على الصعوبات التي قد نواجهها في تعلم اللغة، مع بعض النصائح لفهم هذه المشكلة ومحاولة التغلب عليها، أو على الأقل التخفيف من حدتها.

أولًا: مشكلة تعلم اللغة

جاء معظم السوريون إلى بلاد اللجوء الأوربي، حاملين فكرة ثابتة، كانت تشكّل حقيقة بديهية لدى معظمهم، بأن تعلم لغة أجنبية قد يستغرق سنة أو سنة ونصفًا على الأكثر، كي نكون ضليعين بها، وقادرين على تحدثها بسهولة في حياتنا اليومية، ليعيش كثيرون الصدمة لاحقًا، نتيجة عدم تمكنهم من امتلاك زمام هذه اللغة الجديدة، حتى بعد عدة سنوات من دراستها، ورغم حصولهم على شهادات بإتقانها، ما شكّل حاجزًا بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه.

وزاد في تعقيدات هذا الجانب، نفور بعضهم من لغاتهم الجديدة المفروضة عليهم، نتيجة صعوبتها لناطقي العربية أحيانًا، أو عدم القدرة على الإحساس بجماليتها، أو محدودية انتشار هذه اللغة، واقتصار استخدامها على بلد واحد، بل أحيانًا على مقاطعة معينة من هذا البلد، نتيجة وجود عدة لهجات لها (كحال اللغة النرويجية مثلًا)، ما زاد في سوء العلاقة التي تربطه باللغة.

وقد حدثني كثير من السوريين عن مشكلاتهم وإحباطاتهم في التعامل مع لغة البلد الجديد، ما أثر في تقدير الذات لديهم، والإحساس المرير بالدونية، نتيجة عدم إتقانهم لها بالشكل الذي كانوا يأملونه.

فما الحل

أولًا: يجب أن ندرك أن اكتساب اللغة، بما فيها اللغة الأم، عملية تراكمية، لا تنتهي أبدًا، ربما نكون غير واعين لهذه الحقيقة في لغتنا الأم، لأننا دومًا نكتسب كلمات جديدة بشكل عفوي وتلقائي، سواء مصطلحات أكاديمية اختصاصية، أو مفردات عامية تستخدم في الشارع، ونكتشف بشكل شبه مستمر أخطاء نرتكبها، وخاصة في الكتابة واللغة الفصحى، وهذا الأمر ينطبق على جميع لغات العالم.

ومشكلة أكثرية السوريين في دراستهم للغات الأجنبية، أنها تشبه طريقة تعاملهم مع المقررات الدراسية حين كانوا طلابًا، وكأن هناك امتحانًا يجب أن يخوضوه ثم يتوقفوا بعدها عن التعلم، لاعتقادهم أنهم وصلوا لآخر درجات المعرفة، ويؤدي هذا التوقف عن عملية التعلم، مهما كان المستوى اللغوي متقدمًا، إلى التراجع التلقائي البطيء، أو أنهم يرهقون أنفسهم بشكل مستمر، سعيًا للوصول إلى مرحلة الكمال في اللغة، ما يضعهم في حالة ضغط متزايد، مدمر نفسيًا، ويفقد التعلم كل متعه، غير مدركين أن هذا الضغط سينعكس سلبًا على علاقتهم بتلك اللغة، وسترتبط عندهم بعملية أشبه ما تكون بالمنعكس الشرطي، بالتعب والإرهاق، لذلك، فالتعلم بعد مستوى معيّن يجب أن يأخذ شكل الخط الصاعد المستمر، لكن بسرعة تنسجم مع حالة كل شخص، وأن يرتبط هذا الخط بمتعة التعلم، فيختار كل واحد منا الوسيلة التي تناسبه، سواء بقراءة الكتب، أو حضور الأفلام، أو الألعاب في التطبيقات المختلفة، وغير ذلك من وسائل، قد تختلف من شخص لآخر.

ثانيًا: اللغة لا تعني كلمات وقواعد وجملًا فقط، بل هي ثقافة وحضارة وتراث، ومرجعيات مختلفة، ولأوضح الفكرة أكثر، أعطيكم مثالًا من لغتنا العربية، فمن أتقنها ولم يسمع أم كلثوم ولم يشاهد مسرحيات عادل إمام، لن يفهم عمق جملة “أغدًا ألقاك؟” لو قيلت له، وسيعتقد أنها مجرد سؤال عادي، ربما يجيب بنعم أو لا بكل فتور، ولن تصله الشحنة العاطفية لهذه الجملة، كذلك لن يفهم مثلا جملة “متعودة” ولن يستوعب سبب الضحك لو قيلت في سياق حديث ما. كذلك هي الحال في جميع لغات العالم، كلها لها مرجعياتها والكودات الخاصة بها، ومن أراد الفهم العميق لهذه اللغة، عليه بالمتابعة الدائمة، لكن مع إدراكه أنها عملية تستغرق وقتًا طويلًا، ربما تمتد على مسار حياتنا كلها لمن أراد التعمق.

ولي تجربة شخصية مع هذا الأمر في اللغة الفرنسية، فحين وصلت إلى فرنسا وبدأت التعرف إلى الناس والعمل كطبيب نفسي في مستشفياتها، كنت أسمع بعض المرضى، أو أحيانًا أصدقاء في العمل يقولون، “هذه المادلين الخاصة بي” (المادلين في الفرنسية هي أحد أشكال الحلوى)، لم أكن أفهم الأبعاد الحقيقية للجملة، رغم معرفتي لمعاني الكلمات، واستيعابي المبهم الباهت لها من خلال سياق الحديث، وتعني ما يخفف عني ضغوط الحياة، ويجعلني أعيش لحظتي المميزة.

بحثت لاحقًا عن أصل هذه الجملة، وعرفت أنها إشارة إلى مقطع من رواية “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست، حين تذوق المؤلف ذات صباح هذه الحلوى، فأعادته إلى زمن بعيد مضى، وجعلته يعيش لحظة هانئة مميزة. يُستخدم هذا التعبير كثيرًا من قبل الطبقة المثقفة في فرنسا، في سياقات مختلفة، ولن يفهم معاني هذه الجملة من لم يتعمق بالأدب الفرنسي أو من لم يكن على معرفة بذلك العمل الأدبي وتأثيره في اللغة، ولن يفهم الإشارات التي تحملها تلك الجملة، حتى لو عرف معنى كل كلمة منها على حدة.

كذلك الأمر مع الأغاني، والأمثال الشعبية، والمسلسلات التلفزيونية، فاللغة ليست مجرد رصف لكلمات وجمل، بل هي الحامل المعنوي لشخصية متحدثيها، وكل منا يقرر مدى إبحاره في هذه اللغة أو تلك، بحسب ما تسمح به ظروفه واهتماماته، وهو ما يقوم به حتى أبناء اللغة أنفسهم، فأنا إلى الآن أشاهد أفلامًا عربية جديدة، أكتشف أنها كانت يومًا ما علامات في السينما، نتعرف دومًا إلى كتّاب جدد، نسمع دومًا أمثالًا جديدة متداولة حتى في مناطقنا، كذلك الأمر سيكون مع أي لغة جديدة، طبعًا أتحدث هنا بعد مستوى لغوي معيّن، هو غالبًا “B1″، الذي يمكننا من تطوير مهاراتنا بعده بشكل مستقل.

وما الحل حين ينفر الإنسان من لغة ما

بداية يجب أن يفهم جيدًا سبب كرهه لها، هل هي صعوبتها؟ هنا يجب أن يعطي نفسه الوقت الكافي، ويبتعد عن تحديد إطار زمني محدد لهذا التعلم، حينها سيزول الضغط، وهو السبب الأكبر في هذا النفور، وعلينا دومًا أن نتخلى عن بعض الأفكار النمطية المحبطة، كفكرة أنه لا أحد يستطيع إتقان لغة مثل أهلها، أو أن هذه اللغة أو تلك معقدة وصعبة، لكن أحيانًا تكون عدم قناعتنا بها ناتجة عن كونها لغة محلية، مع أنه ينسى أنها محلية ربما على المستوى الدولي، لكنها لغة حياة بالنسبة له ولعائلته، ويمكن دومًا أن نجد ما يجذبنا لأي لغة، متابعة رياضتها مثلًا، أمثالها، موسيقاها، مطبخها، ومحاولة التعمق على الأقل فيما يجذبنا، وسيكون هذا التعمق هو الباب لبقية عناصر اللغة.

بقي أن أضيف، أن التحدث بأي لغة غير لغتنا الأم، عملية دومًا مرهقة وليست سهلة، وتستدعي التركيز المستمر، لذلك غالبًا لا نستطيع فهم الكلام الأجنبي إن لم نركز به، لكنه للأسف قدر الكثير منا أن نعيش هذه التجربة الصعبة، بل ربما هي أهون تجاربنا كسوريين.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *