بعد أيام على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خلال زيارته إلى كوريا الجنوبية للمشاركة في قمة أبيك (APEC) الأسبوع الماضي، منح سول موافقة على بناء غواصة تعمل بالطاقة النووية، تصاعدت التكهنات بشأن إمكانية تنفيذ هذا التعهّد فعلياً وما قد يترتب عليه من انعكاسات إقليمية وأمنية.
وتواجه الصفقة عقبات محتملة، رغم وجود سيناريوهات لتجاوزها، وسط مخاوف من أن تؤدي إلى تسريع سباق التسلّح في منطقة متوترة، واحتمال أن تثير ردّ فعل حساساً من الصين، خاصة بعدما أعربت اليابان عن رغبتها في بحث امتلاك سلاح مماثل.
ولكن، على الرغم من إعطاء ترمب الضوء الأخضر، أعقبها تأكيدات هذا الأسبوع من وزير الحرب الأميركي بيت هيجسيث، أن الطريق لا يزال طويلاً قبل أن تمتلك سول فعلياً غواصات تعمل بالطاقة النووية.
والجمعة، قال مسؤول في مكتب رئيس كوريا الجنوبية، إن سول تريد الحصول على يورانيوم مخصب من الولايات المتحدة لاستخدامه كوقود لغواصة تعمل بالطاقة النووية تعتزم إنتاجها.
وبعيداً عن العناوين البرّاقة حول “الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية”، يُظهر الاتفاق أيضاً تقارباً أوثق بكثير بين المجمع الصناعي لبناء السفن الحربية في كلٍّ من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
وكان ترمب كتب على منصته “تروث سوشيال”، الأسبوع الماضي، أنه أعطى الموافقة لسول لبناء غواصة تعمل بالطاقة النووية، وأنه من المقرر بناؤها في حوض بناء السفن المملوك لكوريا الجنوبية في فيلادلفيا.
10 سنوات من العمل
ويقول الزميل البارز في مركز “إيست-وِست” للتبادل الثقافي والتقني، ديني روي، لـ”الشرق”، إن “الحد الأدنى المفيد فعلياً سيكون، على الأرجح، 6 غواصات، لكن ذلك يعتمد على عدد الغواصات الصينية والكورية الشمالية التي يحتاج الكوريون الجنوبيون تعقبها”، مشيراً إلى أن وزير الدفاع الكوري الجنوبي وضع جدولاً زمنياً مدته 10 سنوات لبناء أولى هذه الغواصات.
أما أقرب نموذج أميركي لما يُحتمل أن تبنيه كوريا الجنوبية فهو غواصة الهجوم من فئة (فيرجينيا – VIRGINIA CLASS)، والتي يجري بناؤها على دفعات في حوضي بناء سفن أميركيين.
ويستغرق أحد الحوضين نحو 9 سنوات لدخول أول ثلاث غواصات الخدمة، و13 سنة لإتمام الدفعة الكاملة المكوّنة من 6 غواصات.
وعانى برنامج غواصات فيرجينيا من تأخيرات متكررة وتجاوزات في التكاليف، إذ تبلغ تكلفة الغواصة الواحدة حالياً نحو 4.3 مليارات دولار عند تجهيزها بالكامل.
أما الغواصات التي تُنتجها كوريا الجنوبية محلياً فهي أرخص بكثير من ذلك، فقد بلغت تكلفة غواصات فئة (جانج بوجو – Jang Bogo) التي صدّرتها كوريا الجنوبية إلى إندونيسيا حوالي 350 مليون دولار لكل غواصة في عام 2011، في حين بلغت تكلفة غواصات فئة (دوسان آن تشانج-هو – Dosan Ahn Changho) الأحدث والأكبر حوالي 850 مليون دولار في عام 2021.
لكن المقارنة بين هذه الأنواع ليست عادلة، لأن الغواصتين الكوريتين أصغر من غواصات فئة “فيرجينيا”، ولا تعمل بتقنية الدفع النووي الباهظة الكِلفة.
وحول قدرة كوريا الجنوبية على بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية بكِلفة أقل بكثير من الولايات المتحدة، فيعتمد ذلك على عوامل عدة، منها: حجم البناء الذي سيتم في الولايات المتحدة، وحجمه في كوريا الجنوبية، ومدى قدرة شركة هانوا (Hanwha) على تبسيط وتسريع عملية الإنتاج.
حوض بناء الغواصات ليس جاهزاً
وذكر ترمب في منشوره على “تروث سوشيال” أن الغواصات ستُبنى في حوض بناء السفن في فيلادلفيا (Philly Shipyard)، الذي اشترته مؤخراً مجموعة هانوا (Hanwha Group) الكورية الجنوبية.
ومع ذلك، فإن هذا الحوض يحتاج إلى إعادة تهيئة ليصبح قادراً على بناء الغواصات، كما أن البحرية الأميركية لديها بالفعل تراكم في الطلبيات التي بموجب القوانين الأميركية، يجب أن تُبنى داخل الولايات المتحدة، وهو ما يضغط بشدة على أحواض بناء السفن الحالية إلى أقصى حدودها.
ويقول ديني روي إن الصفقة الخاصة بالغواصات قد تُسهم على المدى الطويل في زيادة القدرة الإنتاجية لأحواض بناء السفن الأميركية، مضيفاً: “إذا كانت الفكرة هي زيادة القدرة الأميركية على بناء الغواصات من خلال استثمار كوريا الجنوبية في تطوير الحوض، فإن ذلك نظرياً يمكن أن يساعد على معالجة مشكلة نقص القدرة التصنيعية في الولايات المتحدة”.
لكن صفقة اقتناء الغواصات ليست اتفاقاً منفصلاً، بل هي جزء من استثمار كوري جنوبي ضخم في الولايات المتحدة، يشمل 150 مليار دولار مخصصة لقطاع بناء السفن.
أكثر الصفقات تعقيداً
ويصف معهد لوي (Lowy Institute) للأبحاث في مقال هذه الصفقة بأنها “إحدى أكثر الخطوات الاستراتيجية- الصناعية تعقيداً في التاريخ الحديث”، مشيراً إلى أن كوريا الجنوبية لا تشتري الحماية الأميركية فحسب، بل تدمج صناعتها مع الصناعة الأميركية لتشكيل كتلة استراتيجية-اقتصادية واحدة مترابطة إلى حد يصعب معه انفصالها أو فشلها.
ومع ذلك، لا تزال هناك عوائق كثيرة يجب تجاوزها قبل دخول أول غواصة كورية جنوبية تعمل بالطاقة النووية الخدمة.
ويقول ديني روي إن الخطة قد تواجه انتكاسات بسبب “نقص العمالة الماهرة ذات الخبرة الكافية في الولايات المتحدة، وعدم قدرة سلاسل الإمداد على تسليم المكونات بالسرعة المطلوبة”، وذلك نتيجة مشكلات هيكلية عميقة في قطاع بناء السفن الأميركي.
رهان أميركي على الكفاءة الكوريّة
وتأمل شركة هانوا (Hanwha)، أن يساعد الاستثمار في الأتمتة والذكاء الاصطناعي بحوض بناء السفن في فيلادلفيا، وعبر قطاع بناء السفن الأميركي بشكل عام، في تخفيف بعض هذه المشكلات.
فإذا تمكن حوض فيلادلفيا من إنتاج الغواصات بكفاءة، فقد يُسهم ذلك في إعادة بناء أسطول الغواصات الأميركي، بل وتمكين الولايات المتحدة من تصدير الغواصات العاملة بالطاقة النووية إلى حلفاء آخرين مثل أستراليا.
وقال ديهَان لي الزميل غير المقيم في منتدى المحيط الهادئ لـ”الشرق”، إن أكبر التحديات قد تكون قانونية وسياسية داخل الولايات المتحدة، موضحاً أن “المدرسة الأميركية لمنع الانتشار النووي، والقوانين واللوائح ذات الصلة، لا تفضل نقل التقنيات النووية، وتميل إلى الحفاظ على الوضع القائم”.
وأثار المكون النووي من الصفقة قلقاً واسعاً، لأن الوقود النووي المخصب اللازم لتشغيل الغواصات يخضع لضوابط صارمة بموجب قواعد منع الانتشار النووي واتفاق التعاون النووي الثنائي بين واشنطن وسول، الذي سيحتاج إلى تعديل.
ويرى ديهان لي أن اتفاقيات تحالف أوكوس مع أستراليا وهي (اتفاقية الأمن الثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عام 2021)، قد شكّلت سابقة في هذا المجال، وينبغي أن تساعد في إزالة الالتباسات حول سعي كوريا الجنوبية لامتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية.
ومع ذلك، توجد اختلافات جوهرية بين الحالتين، إذ إن أستراليا ستشتري الغواصات جاهزة، في حين أن كوريا الجنوبية ستقوم ببنائها بنفسها.
وعلى المستوى الأميركي، قد يساعد الاستثمار الكوري الجنوبي المقترح في قطاع بناء السفن الأميركي في تأمين الدعم السياسي اللازم من المشرعين الأميركيين لإقرار هذه الصفقة.
موقف الصين واليابان
ويتوقع مدير مركز دراسات الصين في المعهد الكوري لأبحاث الأمن القومي، البروفيسور تشو جاي، في حديثه إلى “الشرق”، أن تُبدي الصين ردّ فعل “حساساً” على الصفقة.
فيما أثارت خطوة سول، اهتماماً متزايداً لدى طوكيو في الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، فقد أعلن وزير الدفاع الياباني شينجيرو كويزومي، في مطلع نوفمبر، أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة لتعزيز القدرات الدفاعية لليابان، بما في ذلك استخدام الطاقة النووية لدفع الغواصات اليابانية، في ضوء البيئة الأمنية متزايدة الخطورة.
ويقول البروفيسور تشو إن نهج سول في التعامل مع هذه المسألة يبدو معكوساً، إذ كان ينبغي لها إعادة التفاوض على اتفاق التعاون النووي الثنائي أولاً، بدلاً من الإعلان عن نيتها للعالم، في حين أن الهدف النهائي المتمثل في امتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية لا يزال بعيد المنال.
وأوضح أن بناء الغواصات قد يواجه تحديات، بينها النقص الحاد في اليد العاملة والخبرة في مجال بناء السفن في الولايات المتحدة حالياً، في حين أنه من غير المُرجّح أن تمنح واشنطن تصاريح أمنية للعمال الأجانب اللازمين للعمل على المكونات النووية الخاصة بالغواصات.
هل تحتاج كوريا الجنوبية إلى غواصات نووية؟
كما شكك بعض المنتقدين في مدى حاجة كوريا الجنوبية أصلاً إلى غواصات نووية، مشيرين إلى أن تتبع الغواصات الكورية الشمالية يمكن تحقيقه بوسائل أقل كلفة، وأن الغواصات الكورية الجنوبية تعمل أساساً حول شبه الجزيرة الكورية، ولا تحتاج إلى المدى البعيد الذي توفره الغواصات النووية.
إلا أن الغواصات العاملة بالطاقة النووية أكثر هدوءاً، ويمكنها البقاء في البحر لفترات أطول، مما يتيح لها مراقبة الخصوم دون الحاجة إلى العودة إلى الميناء للتزود بالوقود.
كما يشير لي ديهان إلى أن امتلاك كوريا الجنوبية لغواصات تعمل بالطاقة النووية سيسمح لها بأداء مهام أكبر ضمن التحالف الكوري الجنوبي-الأميركي ( US ROK-ALLIANCE )، مما يقلل من العبء العملياتي عن واشنطن.
وفيما يتعلق باحتمال إشعال الصفقة سباق تسلّح إقليمي، فقد فرضت بكين بالفعل عقوبات على شركة (هانوا أوشن – Hanwha Ocean) قبل إعلان ترمب عن صفقة الغواصات.
ويشير لي ديهان إلى أن كوريا الشمالية تعمل بالفعل على تطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية الخاصة بها لضمان قدرتها على توجيه ضربة ثانية، مما يعني أن سباقاً للتسلّح بالغواصات النووية في شمال شرق آسيا جارٍ بالفعل، سواء سعت سول إلى امتلاك غواصات نووية أم لا.
وكانت الإدارات الأميركية السابقة قد تساءلت عمّا إذا كانت سول بحاجة فعلاً إلى غواصات تعمل بالطاقة النووية، لكن سعي دول أخرى في المنطقة لامتلاك هذا النوع من الغواصات ربما غيّر هذه المعادلة.
ونظراً إلى الإطار الزمني الطويل قبل دخول هذه الغواصات الخدمة الفعلية، فليس مستبعداً أن تتغيّر هذه المعادلة مجدداً.
