في خطوة تهدد بإعادة رسم التوازنات العسكرية والسياسية في شرق المتوسط والشرق الأوسط، تصاعد الحديث عن مساعي أنقرة لاستعادة صفقة مقاتلات F35 الأمريكية بعد أعوام من استبعادها بسبب أزمة منظومة S400 الروسية.
وبينما تسعى تركيا لإحياء الصفقة عبر قنواتها مع إدارة ترامب، تكشف تقارير إسرائيلية عن قلق تل أبيب العميق من امتلاك أنقرة لهذه المقاتلات المتطورة، ما قد يؤثر على تفوقها الجوي ونفوذها الإقليمي، ويعيد خلط أوراق عدة ملفات حساسة في المنطقة.
مشروعان طويلان يتصادمان
يقول الدكتور مهند أوغلو، الباحث في الشأن التركي، لوكالة ستيب نيوز: إن “التنافس بين مشروعين بعيدي المدى بين تركيا وإسرائيل في المنطقة يفرض هذا القلق الإسرائيلي. مشروع تركيا فيه تفاهمات أولية ومهمة مع الدول العربية، وهذا يجعل موقف إسرائيل لاحقًا ضعيفًا، لذلك تريد تل أبيب أن تأخذ خطوات مسبقة كي لا تكون في وضع حرج”.
ويضيف: “بالرغم من أن هناك حديثًا عن اتفاقات أمنية قد تصل إلى سلام بارد مع إسرائيل، لكنها وبحكم أنها قامت على أراضٍ محتلة تتخوف دائمًا. F35 فضلًا عن أهميتها العسكرية، فامتلاكها هو موقف سياسي وتأخذ منحى أبعد وأكبر منها عسكريًا، لذلك تتخوف إسرائيل”.
وتعتبر تل أبيب أن أي سلاح نوعي يدخل إلى جيوش دول المنطقة يشكل تهديدًا لميزان القوى الذي حافظت عليه منذ عقود، خصوصًا أن طائرات F35 تمثل عمودًا أساسيًا في استراتيجية الردع العسكري الإسرائيلي، بقدراتها على الاختفاء من الرادارات وتنفيذ عمليات دقيقة بعيدة المدى، دون اعتراض فعّال من منظومات الدفاع الجوي التقليدية.
عقدة S400 لم تعد مستعصية
وبشأن العقدة الأساسية التي عطّلت الصفقة منذ عام 2019، وهي شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي S400 من روسيا، يرى أوغلو أن هذه العقبة بات حلها موجودًا حاليًا.
ويوضح: “حل S400 موجود أصلًا، لكن واشنطن كانت تتعمد إثارته ضد تركيا في مرحلة سابقة. الآن اختلفت خارطة التحالفات الإقليمية والدولية، وعليه لن يكون هذا الملف عائقًا كبيرًا أمام استعادة تركيا للصفقة”.
وكانت إدارة ترامب قد أعادت فتح النقاش مؤخرًا حول عودة تركيا إلى برنامج F35، وسط مؤشرات على احتمال قبول واشنطن بحل وسطي يضمن تعطيل المنظومة الروسية أو وضعها تحت إشراف أمريكي مباشر داخل القواعد التركية، مقابل استعادة أنقرة لحقها بالحصول على هذه المقاتلات، خاصة أنها دفعت مسبقًا قرابة 1.4 مليار دولار كثمن جزئي لها قبل إخراجها من البرنامج.
وتشير تقارير أمريكية إلى أن موقف الكونغرس لا يزال متحفظًا، بسبب عدم الثقة الكاملة في نوايا تركيا وارتباطها بملفات أخرى مثل العلاقة مع روسيا، وسلوكها العسكري في سوريا وشمال العراق، لكن إدارة ترامب تميل إلى إغلاق هذا الملف لصالح استعادة تركيا بشكل أقوى ضمن حلف الناتو، لا سيما بعد تنامي التهديدات الروسية في البحر الأسود والبلقان.
علاقة ترامب ونتنياهو.. منفعة مؤقتة أم خلاف متوقع؟
وحول انعكاس هذه الصفقة على علاقة ترامب ونتنياهو، خاصة في ملفات حساسة مثل غزة وسوريا، يرى أوغلو أن “علاقة ترامب بنتنياهو علاقة الآمر مع المنفذ.. لذلك اليمين المتطرف في إسرائيل يعلم أن هناك مصالح عليا لأمريكا تتقاطع معها في كثير من الأحيان مصالح إسرائيل. وبالتالي هي علاقة مؤقتة وفق معطيات سياسية وأمنية ليس إلا”.
ويشير مراقبون إلى أن هذه العلاقة، رغم قوتها الظاهرية، قد تمر باضطرابات تكتيكية إذا شعرت إسرائيل بتراجع مكانتها الاستراتيجية لصالح تركيا، خصوصًا إذا ربطت ذلك بتنامي العلاقات التركية وعدة دول عربية، وهو ما تعتبره تل أبيب تهديدًا طويل المدى يوازي تهديدات إيران.
ماذا عن اليونان والعداء المزمن؟
وفي السياق الإقليمي، لا يغيب ملف العلاقة التركية اليونانية عن تداعيات صفقة F35، إذ تمتلك أثينا بالفعل هذه الطائرات ولها خلافات واسعة مع أنقرة حول الحدود البحرية وشرق المتوسط.
يقول أوغلو: “اليونان تريد تأليب الدول الأوروبية خصوصًا على تركيا، سواء عبر F35 أو حتى شرق المتوسط وبحر إيجة. لذلك هي رأس حربة لأوروبا ضد تركيا، وكذلك ليبيا ومصر.. وعليه فإن التوتر والعداء بين أثينا وأنقرة لن ينتهي، بل يُدار ثم يتحسن ثم يشتد صعودًا وهكذا دواليك”.
وتخشى اليونان من أن يؤدي حصول تركيا على F35 إلى إضعاف قدرتها الردعية، خاصة مع استمرار أنقرة في تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية، بما فيها مشروع مقاتلة الجيل الخامس الوطنية “TFX” التي تتوقع تركيا إطلاق أول نسخها القتالية خلال الأعوام المقبلة.
هل تركيا بحاجة فعلية لهذه المقاتلات؟
ورغم القدرات العسكرية الكبيرة التي تمتلكها تركيا حاليًا، فإن أوغلو يرى أن هذه الصفقة تحمل بعدًا استراتيجيًا يتجاوز مجرد تعزيز القوة الجوية. ويوضح: “هي مهمة، لأن الخطط العسكرية والسياسية على مستوى (ب) يجب أن تكون تركيا لديها هذه الطائرات.. هي أشبه بسلاح نووي رادع، وإن استخدم فهو مقبول دوليًا حسب مسار تطور الأحداث أمنيًا”.
وتسعى تركيا في السنوات الأخيرة إلى بناء شبكة تحالفات واسعة، مدفوعة بتغير توازن القوى الدولي بعد حرب أوكرانيا، وتسعى بالموازاة لتعزيز قدراتها العسكرية الجوية والبحرية والبرية، بهدف تأكيد مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة في القوقاز والبلقان وشرق المتوسط والشرق الأوسط.
وتبدو صفقة F35 التركية الأمريكية أمام مسار معقد يتداخل فيه السياسي والعسكري والاقتصادي، وسط رفض إسرائيلي متزايد وتحفظات في الكونغرس، ومع ذلك، فإن تغير خارطة التحالفات الدولية وصعود تركيا كلاعب مستقل ووازن، يجعل حصولها على هذه المقاتلات مسألة وقت وحسابات، لا رفض دائم، ووفق مراقبين، فإن الأسابيع القادمة ستحدد إن كانت إدارة ترامب ستمضي في الصفقة، أم ستؤجلها لتجنب صدام مباشر مع تل أبيب، بينما تبقى عيون أنقرة على مقعد متقدم في سباق التفوق العسكري الإقليمي.
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية