اخر الاخبار

ظاهرتان تستحقان التأمل

أحمد عسيلي

شهد المجتمع السوري ثلاثة أحداث تتعلق بالأمن العام خلال الفترة الماضية، الأول جرى في مدينة صحنايا بريف دمشق، حين قيل إن بعض سكان المدينة ترجع أصولهم إلى مدينة السويداء اعتدوا على أخ وأخته ترجع أصولهما إلى دير الزور، ما دفع بعشيرة الضحايا للاستنفار، حدثت بعض المناوشات الخفيفة بين الجهتين، انتهت الحادثة بصلح بين أولياء الطرفين، وتم حل القضية بالتراضي، ولم تسجل أي حالة أذية جسدية خطيرة، بحسب ما صدر عن المراكز الطبية الموجودة في المنطقة.

الحدث الثاني كان توقيف حاجز أمني في مدينة حمص بعض الناشطين التابعين لأحد التيارات السياسية في السويداء، في أثناء توجههم لمدينة الرقة من أجل ورشة عمل سياسية، واحتجازهم لعدة ساعات، مع تعريضهم للضرب والإهانة حسب شهادة بعض الموقوفين، ما دفع بعض فعاليات المدينة للاحتجاج في أثناء استقبالهم لمحافظ السويداء الجديد المعيّن من قبل القيادة السورية، مصطفى بكور، وبالرغم من الاستقبال المميز الذي حظى به المحافظ الجديد من قبل الشيخ الهجري، أحد زعماء المنطقة، فإن جلسته مع بعض فعاليات المدينة كانت حامية نوعًا ما، على خلفية تلك الحادثة، وقد انتهت أيضًا بشكل جيد، حين وعد بكور بمتابعة القضية بنفسه ومع القيادة في دمشق، وأنه لن يقبل متابعة عمله دون أخذ حق الموقوفين، وهو ما قوبل بالترحاب على ما يبدو من أبناء المنطقة.

الحدث الثالث والذي لا تزال تداعياته مفتوحة، هو قيام بعض فلول النظام السابق في أثناء أحداث الساحل، باختطاف أحد المسؤولين الأمنيين في الدريكيش، يلقب بـ”أبو العز”، وترجع أصوله إلى إحدى قبائل إدلب، وبالرغم من انتهاء عمليات التمشيط في المنطقة، لم يعثر على هذا القائد الأمني، ما دفع بأهله وبعض أفراد عشيرته لمتابعة القضية، وتهديد الخاطفين إذا لم يفرجوا عنه أو على الأقل كشف مصيره، الذي لا يزال إلى الآن غير معروف، وقد بث بعض ناشطي منطقة الدريكيش بعض التسجيلات التي تدعي بأنهم تلقوا تهديدات من بعض أفراد تابعين لعشيرة “أبو العز”، وهو ما تم نفيه تمامًا من قبل هذه العشيرة.

ثلاثة أحداث متفرقة، انتهى الأول بالصلح بين جميع الأطراف، الثاني بتعهد من محافظ المدينة بمتابعة القضية بنفسه، والثالث لا تزال تداعياته مفتوحة على كل الاحتمالات.

بالتزامن مع هذه الأحداث الأمنية الثلاثة، انشغل السوريون بحدثين إعلاميين مهمين، الأول لقاء رجل الأعمال أيمن الأصفري على قناة “سوريا”، وحديثه الهادئ والصريح عن رأيه في القيادة السورية الجديدة، أما الثاني، فهو مقطع مسرب من السويداء، انتشر بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي لمجريات اجتماع المحافظ مع الأهالي، كان الانتشار الأكبر من حظ الجزء الذي تظهر به السيدة غادة الشعراني أمام المحافظ، فقد اختلف السوريون بشكل كبير حول هذا المقطع تحديدًا، فمنهم من رآها حالة صحية وضرورية في التعامل بين الناس وسلطة دولتهم، ومنهم من رآها نوعًا من التطاول على أحد رموز الدولة في المحافظة أو على الأقل عدم احترام في أثناء عرض تلك القضية.

الجزء المهم من كل ما حدث والذي يجب علينا التنبه له كثيرًا في هذه المرحلة من بناء الدولة ما بعد مرحلة الأسد، هذا الوضوح الصارخ للانتماءات ما دون الدولة داخل المجتمع السوري، فكل شخص صار يعتمد على مجموعته الخاصة، سواء العشائرية أو الطائفية، لتحصيل حقوقه والحفاظ على أمنه، وفي هذا مؤشر خطير لتراجع دول الدولة، وانحسار مفهوم المواطنة والمساواة بين الناس، هذه الحالة موجودة جزئيًا في المجتمعات الغربية، لكنها غالبًا ما تكون مميزة للسود ولذوي الأصول العربية، والذين فعلًا يتعرضون لنوع من التمييز في بعض البلدان، وهو مؤشر على ضعف ثقة الناس بأجهزة الدول من شرطة وقضاء، ربما نتفهم هذا الأمر جزئيًا هذه الأيام نتيجة عدم اكتمال تشكل جميع الأجهزة، ولظروف انهيار جميع المؤسسات مع هروب بشار، لكن يجب العمل وبشكل إسعافي كي نتجاوز هذه المرحلة بسرعة، لأن تكرارها المتزايد سيؤدي إلى تجذرها في المجتمع، وبالتالي ضعف الانتماء للدولة الوليدة ككل،  فنظرة الناس وطريقة تعاملهم معها لا تزال في طور التشكل (لدى الأغلبية على الأقل) وبالتالي هناك إمكانية لتغيير هذه الانطباعات، لكن أعتقد أن الوقت يداهمنا.

القضية الثانية التي أود الإشارة إليها، هي سبب هذا الانتشار الواسع لكلمة السيدة غادة، بالرغم أنها لم تكن الوحيدة التي تحدثت في تلك الجلسة، ولا الأشد عنفًا، ولا الأكثر توثيقًا، وليست الأنثى الوحيدة التي تحدثت، فلماذا هذا الانتشار والنقاش الواسع الذي حدث بعد كلمتها هي تحديدًا؟

الجواب بكل بساطة، هو انعكاس الصورة البصرية لهذا التسجيل، وخاصة حين وقفت السيدة الشعراني واقتربت من المحافظ صارخة في وجهه، هنا في هذه اللحظات تجمعت كل التناقضات، وإذا كان الإنسان يتعرف إلى صورته صغيرًا من خلال النظر في المرآة، وكبيرًا من خلال النظر في عيون الآخرين (حسب لاكان) فهنا نحن أمام حالة مماثلة ومعاكسة في نفس الوقت، فلو تخيلنا أن هناك حاجزًا وهميًا فاصلًا بين بكور والشعراني، لأصبح كلاهما ينظر في المرآة ليرى عكسه هذه المرة وليس ذاته، لنعدد بعض هذه التناقضات اللانهائية، هي واقفة وهو جالس، هي تتحدث بسرعة وهو صامت، هي عابسة وهو مبتسم، هو سلطة وهي ضد السلطة، هو أكثرية وهي أقلية، هي امرأة وهو رجل، هي تتحدث بصوت عالٍ وهو بصوت منخفض، هي من أهالي المدينة وهو الغريب القادم من مكان آخر، هي بين أهلها وناسها وهو الوحيد، تناقضات يمكن لنا أن نستمر بتعدادها عبر صفحات وصفحات، صورة معكوسة تمامًا، لن تمر بصريًا دون أن يتوقف عندها دماغ الناظر، سواء أدرك هذا التناقض أو لم يدركه، فهم أنه أمام حالة مرآة تعكس النقيض أو لم يفهم، لكننا هنا سنرتبك قليلًا في النظر إليهما، ثم نحدد موقفنا سريعًا بناء على معطيات واحدة من جزيئات هذه التناقضات اللانهائية.

صورة أعتقد أنها ستبقى لفترة طويلة في ذاكرة الكثيرين، وسيتأملونها كثيرًا.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *