عاصفة “الفتنة” تمرّ بجرمانا فمن أشعل الشرارة ومن المستفيد؟.. خبراء يكشفون ما يجب القيام به

شهدت مدينة جرمانا في ريف دمشق، مساء الإثنين، أحداثًا دامية إثر انتشار تسجيل صوتي منسوب لأحد أبناء الطائفة الدرزية يتضمّن إساءة للنبي محمد، ما أدّى إلى توترات شعبية واشتباكات مسلّحة أوقعت عددًا من القتلى والجرحى، وسط تحذيرات رسمية ودينية من مخاطر إشعال الفتنة الطائفية وتهديد السلم الأهلي في البلاد.
الداخلية السورية تفتح تحقيقًا وتحذّر من التصعيد
في أول رد فعل رسمي، أعلنت وزارة الداخلية السورية أنها تتابع التحقيقات حول التسجيل الصوتي المتداول، مؤكدة أنه لم يُثبت بعد نَسْبه إلى الشخص المتهم، وأن التحريات مستمرة للكشف عن الفاعل وتقديمه إلى العدالة.
وشدد بيان الداخلية على أن الدولة لن تتهاون مع أي إساءة للمقدسات أو خرق للأمن والنظام، محذّرة من الانجرار وراء ردود الفعل التي تهدد الأرواح والممتلكات، ومؤكدة أن الجهات الأمنية ستتعامل بحزم مع أي تجاوز للقانون.
من جهته، أكّد محافظ السويداء مصطفى البكور أن الفتنة لن تمر، وأن ما صدر لا يُمثّل الطائفة الدرزية، مشددًا على أن كل من يُسيء للرموز الدينية سيُحاسب وفق القانون، دون تحميل مجتمع بأكمله تبعات فعل فردي مشين.
موقف حاسم من مشايخ الدروز.. “فتنة مدفوعة من الخارج”
أصدرت الهيئة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز في جرمانا بيانًا شديد اللهجة، استنكرت فيه ما وصفته بـ”الإساءة للنبي الكريم”، واعتبرت أن التسجيل الصوتي محاولة مدروسة لإشعال فتنة بين أبناء الوطن الواحد. وفي الوقت ذاته، أدانت الهيئة الهجوم المسلح الذي استهدف أحياء المدينة، وأسفر عن مقتل وإصابة عناصر من الأمن العام كانوا في مواقع عملهم.
كذلك، أصدرت مضافة الكرامة، الممثلة بالشيخ ليث البلعوس، بيانًا استنكر فيه التسجيل المشين، مؤكدًا أن التصرف لا يُمثّل أهل السويداء المعروفين بتاريخهم الوطني، متّهماً جهات خارجية مشبوهة بالوقوف وراء هذه المحاولة الخبيثة لزرع الانقسام بين السوريين.
تصعيد ميداني في جرمانا.. قتلى من الأمن والمهاجمين
وفقًا لمراسل وكالة “ستيب الإخبارية“، اندلعت اشتباكات عنيفة في جرمانا، لا سيما في حي النسيم ومحيط منطقة المليحة، بين مجموعات مسلّحة بعضها من خارج المدينة. وتوسّعت الاشتباكات لتصل إلى مناطق أخرى مثل القوس في أشرفية صحنايا.
وأسفرت الاشتباكات عن مقتل 6 عناصر من قوات الأمن والجيش، بينهم من أبناء جرمانا الذين انضموا لقوات الأمن العام، بالإضافة إلى مسلحين اثنين من الفصائل المهاجمة، وإصابة 8 آخرين.
وردًّا على التصعيد، دفعت وزارة الدفاع السورية بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى جرمانا، وفرضت طوقًا أمنيًا شاملاً حول المنطقة.
وقال مصدر خاص لـ”وكالة ستيب الإخبارية” إن فصيل “فيلق الرحمن”، الذي يُفترض أنه انضمّ لوزارة الدفاع السورية، هو من بادر إلى مهاجمة نقاط في مدينة جرمانا، بينما عملت قوات الأمن السوري على فض الاشتباكات دون التحيّز لأي طرف، وحاولت منع التصعيد.
وفصيل “فيلق الرحمن” تشكّل عام 2013 وقاتل قوات النظام البائد في ريف دمشق، إلا أنه دخل بصراعات مع فصائل أخرى بالمنطقة أبرزها جيش الإسلام، وكان ذلك قبل عام 2018 حيث غادر بعدها مقاتلوه إلى الشمال السوري بعد فرض سيطرة النظام البائد على الغوطة وريف دمشق بدعم روسي، وفي الشمال السوري انضم مقاتلو “الفيلق” إلى الفصائل المدعومة من تركيا، قبل أن يعودوا إلى مناطقهم بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر العام الماضي.
من المستفيد من الفتنة الطائفية؟
في حديث لـ”وكالة ستيب الإخبارية” مع الكاتب والباحث السياسي، الدكتور مالك الحافظ، يقول: “ما حدث في جرمانا هو انعكاس لمجموعة من العوامل المتداخلة التي تزاوجت في فترة حرجة تمر بها سوريا”، مشيرًا إلى ضرورة النظر في طريقة التعامل مع هذه القضية من قبل السلطات.
ويضيف: “السلطة، بصفتها الجهة المعنية بتأمين الاستقرار في البلاد، يجب أن تتخذ خطوات استباقية لاحتواء الأزمات الطائفية ومنع تفجّرها قبل أن تصبح تهديدًا للوحدة الوطنية. المسؤولية ليست فقط على الجهات الأمنية أو السياسية في السلطة الانتقالية، بل أيضًا على آلية التواصل والتنسيق بين مختلف الأطراف في السلطة الحالية”.
ويتابع: “المستفيد من مثل هذه الأزمات هو بكل تأكيد من يسعى لإحداث فوضى من أجل تقويض أي فرصة للتقدم، سواء كان داخليًا أو خارجيًا، مما يعكس ضعف قدرة السلطة الانتقالية على لعب دور الحامي لوحدة البلاد”.
بدوره، يرى السياسي السوري، فراس الخالدي، خلال حديث مع “ستيب الإخبارية”، أن ما جرى في جرمانا لا يمكن اعتباره بداية لحدوث صدامات أوسع على المستوى الطائفي، لأن “السوريين يمتلكون الوعي وقادرون على ضبط تصرفاتهم في اللحظات الحرجة”.
ويقول: “المشكلة فقط في فهم الأولويات ما بين الحكومة والشعب، فالحكومة تريد ضبط الأمن وتوحيد السلطة بحيث يمكنها لاحقًا إصلاح أي خلل، والوقوف على أي مشكلة وحلّها، بينما الشعب يريد حلًا للمشكلات العالقة منذ سنوات طويلة بأسرع وقت ممكن، بالإضافة إلى حلّ المشاكل الخدمية المأساوية، مدفوعًا بالآمال الكبيرة التي سيطرت على الجميع بمجرد رحيل النظام المجرم”.
ويوضح “الخالدي” أن “المستفيد بلا أدنى شك هم أعداء التغيير، وعلى رأسهم إيران التي تريد أن تقول للعالم: ها هي سوريا بدون الأسد وبدون وجود إيران”.
حصر السلاح من مهمّة إلى واجب وضرورة
يؤكد الحافظ أن “الوضع الحالي يعكس خللاً بنيويًا في كيفية إدارة السلطة الانتقالية للمجموعات المسلحة التي تتبع لها”، مشيرًا إلى أن “فصائل محسوبة على الحكومة كانت في مرحلة معيّنة جزءًا من المعادلة الأمنية، ولكن تحوّلها إلى أدوات لا تخضع لسيطرة الدولة الوليدة هو نتيجة لتراكم ممارسات غابت عنها الرؤية الشاملة للسيطرة السياسية والميدانية”.
ويقول: “القصور هنا يكمن في أن وزارة الدفاع، على الرغم من محاولاتها، لا تمتلك القدرة على فرض سلطة حقيقية على هذه الفصائل في ظل غياب التنسيق الداخلي وانقسام الأهداف بين الفصائل وأهداف الدولة”.
بينما يشير “الخالدي” إلى أن “الخطوة الأولى على طريق ضبط السلاح قد اتخذتها الحكومة بمجرد إعلانها عن توحيد جميع الفصائل تحت مظلة وزارة الدفاع، لكن ما لا يُخفى على أحد أن عملية تحرير سوريا من نظام الأسد لم يكن في حسبان من قام بها أن النظام سينهار بهذه السرعة، ولذلك فإن الحكومة تحتاج إلى وقت كافٍ لنقل فكر الفصائل من حالة تحالف يحفظ لكل فصيل استقلاليته إلى الحالة التي يذوب فيها الجميع في بوتقة واحدة تتمثل بوزارة الدفاع السورية”.
ويقول: “إلى أن تنجح الحكومة بإيصال هذه الفكرة للجميع، وحصر التمويل والإعداد والتجهيز والتسليح والتذخير، فنحن بحاجة لتشجيع الوحدة والدمج بدلاً من بث روح الفرقة والفتنة بين الفصائل عبر المفاضلات الإعلامية والتركيز على الأخطاء فقط دون النظر إلى الإيجابيات”.
أطراف خارجية تحرّك أذرعها
ولا يخفى أن هناك أطرافًا خارجية مستفيدة من استمرار توتر الأوضاع الأمنية وتصعيدها نحو انفلات أمني كبير ربما يدعم مصالحها.
ويقول الحافظ: “من غير الممكن أن نغفل أن أطرافًا خارجية تسعى إلى زعزعة استقرار سوريا تُساهم بشكل أو بآخر في تأجيج الشحن الطائفي، لكن يجب أن نعترف بأن المسألة أعمق من مجرد تدخلات خارجية. هناك حقيقة مؤلمة تتمثل في أن ضعف إدارة السلطة الانتقالية للأزمات الداخلية سمح لتلك الأطراف الخارجية بالتدخل واستغلال هذه الفجوات”.
ويشدّد على أنه لتطوير سوريا، لا بد من استراتيجية وطنية من قبل السلطة الانتقالية تعزّز التفاهم الداخلي وتمنع أي استغلال خارجي، بدلاً من ترك الأوضاع تتفاقم لتصبح ساحة خصبة للتدخلات الأجنبية.
ويضيف: “من غير المستبعد أن هناك أطرافًا قد تسعى لتوسيع الشرخ الطائفي من خلال دفع بعض الأطراف إلى التصعيد. لكن الأهم من ذلك هو الفهم الأعمق للحالة السورية اليوم”.
ويتابع: “إذا استمرت السلطة الانتقالية في سياسة التأجيل والتراخي في اتخاذ مواقف حاسمة تجاه هذه الأزمات، فقد تجد نفسها أمام فوضى أكبر بكثير من مجرد تصعيد طائفي أو مناطقي”.
ويوافق الخالدي الرأي، مشيرًا أيضًا إلى أنه “من غير المستبعد أن يكون التصعيد مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بأطراف خارجية، خاصة مع وجود قوى لا تريد استقرار سوريا، مثل إيران وحزب الله والحشد الشيعي العراقي وفلول النظام”.
ويقول: “هناك من يحاول دفع الإخوة الدروز إلى الصدام، لكنّ الإخوة الدروز على قدر كبير من الوعي والثقافة والحكمة، وأعتقد أن من استطاع أن ينجو من فتنة إيران ونظام الأسد خلال 14 سنة، لقادرٌ اليوم أيضًا على النجاة من فتنة تقسيم سوريا، ولن يقبلوا أن يتشاركوا مع فلول النظام وإيران في الحساب على فاتورة الدم التي سيدفعها هؤلاء المجرمون الخائفون على مكتسباتهم التي ضاعت وعلى مستقبلهم في البلاد التي أجرموا بحقها”.
ويختم: “الدروز أهل النخوة والعروبة، يعرفون كيف يأخذون حقهم ممن يسيء إليهم بجلسة عرب وطنية، توضع فيها النقاط على الحروف دون أن يتسبّب ذلك بجرّ البلاد نحو فتنة طائفية، أو نحو التقسيم الذي سينهي معه فيما لو حصل لا سمح الله أحلامنا بسوريا المستقبل التي شارك السوريون جميعًا في دفع أثمان الوصول إليها”.
وبالنظر إلى ما شهدته مدينة جرمانا من أحداث، تتأكد الحاجة الملحّة اليوم إلى تعزيز لغة العقل والحوار بدلًا من الانجرار وراء ردود الفعل الانفعالية التي قد تجر البلاد نحو منزلقات خطيرة، وإن مواجهة الفتن، أيّاً كان شكلها أو مصدرها، لا تكون إلا بوحدة الصف، وبتفعيل دور الدولة في فرض القانون وضبط السلاح، وبتحكيم القيم الوطنية والدينية التي تجمع السوريين ولا تفرّقهم، فما جرى ليس مجرد حادث عرضي، بل إنذار واضح بضرورة الإسراع في بناء دولة مؤسسات تحمي الجميع، وتقطع الطريق أمام المتربصين بوحدة البلاد ومستقبلها.

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية