عالم من المفاجآت والتقلبات في “تحت سابع أرض”

يأتي مسلسل “تحت سابع أرض” ليلفت الأنظار ويثير الشبهات ويطرح الأسئلة بشكل غير مباشر حول الكثيرين من رجال نظام الأسد، وتورطهم في قضايا الفساد وتزوير الدولارات؛ خاصة إنه في الآونة الأخيرة تم الكشف عن مصانع أُقيمت في سوريا لتزوير العملات الأجنبية المختلفة، خصوصاً الدولار الأميركي.
المسلسل سلط الضوء على التحديات التي يعيشها السوريون في ظل الظروف المعيشية الصعبة؛ باقترابه من قضايا الفساد وتزوير العملة والصراعات الاجتماعية في أحد الأحياء الشعبية في دمشق.
الخط الرئيسي في مسلسل “تحت سابع أرض” يتناول ثاني أقدم مهنة في العالم وهي التزوير.
الأفلام التي اقتربت من عالم تزييف الأموال عديدة، منها Project Gutenberg” (2018)، “Farzi” (2023)، “Dirty Money” (2014)، “Amohom” (2022)، “The Counterfeiters” (2007)، “The Whore” (1976)، “Big Fear” (1964)، “Dirty Angels” (2024)، “The Seven Ups” (1973)، “The Goonies” (1985).
نجح المخرج سامر برقاوي في جعل المشاهد يشتم رائحة الفساد في جميع أركان النظام السابق، والذي جعل سوريا في الصدارة، كواحدة من أكثر البلدان فساداً في العالم.
“تحت سابع أرض” يكشف من خلال حلقاته فساداً ممنهجاً هيمن على كل مفاصل المنظومة الأمنية. عالم فساد رجال الشرطة، وتعاونهم مع الخارجين عن القانون شاهدناه في أفلام مثل “Touch of Evil” (1950)، “Prince of the City” (1981)، “Violent Cop” (1989)، “L.A. Confidential” (1997)، “Serpico” (1973)، “The Professional” (1994)، “Bad Lieutenant” (1992).
الظروف الاقتصادية الصعبة
المحرّك الأساسي للأحداث في المسلسل هو المال والمعاناة اليومية في تحقيق احتياجات الشخص الأساسية، وقد طُرح هذا من خلال عائلة تعيش حياة متوسطة قبل أن تدفعها الظروف الاقتصادية الصعبة خلال الحرب إلى مسارات الفساد وفقدان القيم الاجتماعية والأخلاقية.
الشخصيات تسير في طرق مليئة بالمخاطر، وتدفع ثمنها بشتى الطرق، بداية من التحول السلبي في الشخصية وانتهاءً بالسجن أو الموت.
شخصية “موسى”نموذج درامي صارخ لانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان واستغلال السلطة لمكاسب شخصية. فالشخصية التي كُتبت بإتقان كان لديها كل التبريرات الحاضرة التي استخدمها كوسيلة للتغطية على فساده؛ وسط تنامي انحدار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
إنه ضابط الأمن الجنائي، الممنوع من الترقية لسنوات؛ بسبب مواجهاته المستمرة مع رؤسائه، يعيش في دوامة من الأحداث الصادمة التي غيّرت مسار حياته، وكان أخطرها عندما اكتشف أن أقرب الناس إليه متورطون في قضايا تزوير العملة؛ مما أدخله في صراعات أخلاقية غيّرت مجرى الأحداث.
دلائل على أفكاره ومشاعره
تألق تيم حسن في دور “موسى”، بطرقه الملتوية وغير القانونية، وابتزاز ضحاياه أو التخلص منهم. لقد أعطت تعبيراته الجسدية دلائل على أفكاره ومشاعره ورغباته، واستخدم عينيه بفعالية، وإيماءات يديه. ركّز “موسى” دوماً على أعين الذي أمامه، لينقل القوة، بدلاً من تحويل نظره من عين إلى أخرى.
سر تعلق الجمهور بمسلسل “تحت سابع أرض” يرجع إلى نجاح الكاتب عمر أبو سعدة في خلق شخصية رئيسية محببة، مثيرة للاهتمام، ومعقدة؛ شخصية يتعاطف معها المشاهد، ويرغب في الوثوق بها، والشعور بألمها وخيبات أملها، والتعاطف معها طوال حلقات المسلسل.
سمات غريبة الأطوار
الرائع أن البناء الدرامي لم يقتصر على الشخصية الرئيسية فحسب، بل شمل أيضاً جميع الأدوار، الذين يحتاجون جميعاً إلى سمات قابلة للتصديق، حتى لو كانت غريبة الأطوار.
يبدو أن الكاتب عمر أبو سعدة رسم دائرة، ووضع كل شخصية في مركزها، ثم رسم خطوطاً درامية حولها وطرح سلسلة من الأسئلة المفتوحة حول كل منها.
رسم لمحات موجزة عن كل شخصية من الشخصيات الرئيسية والثانوية، قد يكون بعضها أكثر تفصيلاً من غيرها، لكن جميعها ينبض بالحياة، حيث يتجولون ويتفاعلون مع الناس.
نحن أمام شخصية “بلقيس” التي قامت بها كاريس بشار، صاحبة محل لبيع الملابس المستعملة، عاشت تجربة عاطفية فاشلة نتج عنها ابنة، تحاول أن تخلق لها حياة مرفهة بالعمل في تزييف العملات الأجنبية. علاقتها بموسى متوترة، وترى أنها جاءت في الزمن الخطأ؛ ومع ذلك تعيش معه قصة عاطفية، وتحلم بإنجاب طفل له.
“بلقيس” غير قادرة على بناء علاقة صحية، خاصة مع عودة الشخص الذي يسيء معاملتها، ويُظهر باستمرار من حين إلى آخر. إنها تعاني اختلال التوازن الداخلي، لا تملك أجواء الصفاء والثقة؛ لذلك ترقص بلقيس لموسى بعد زواجه، على أنغام أغنية “هتجوز” لسعد الصغير، ويتبع ذلك طلبها من موسى أن يطلقها.
المقدم “فجر” نقيض شخصية “موسى”، رحيله كان مؤثراً ومحزناً، حيث فارق المقدم فجر الحياة، تاركاً وراءه شعوراً بالحزن والأسى لدى المشاهدين. ولا شك أن هذه الشخصية قد تركت بصمة واضحة في المسلسل، مما جعل رحيلها صادماً ومؤلماً.
السيناريو أيضاً أكد على أن علاقة الأخوة بين موسى وشقيقه زين (أنس طيارة) وشقيقته رنا (رهام قصار) وحدها لا تكفي، وليست سبباً وجيهاً للغفران؛ فالأهم هو اتفاقهم على كيفية بناء علاقة صحية، والالتزام المتبادل بها، ومتى واجهتهم صعوبة، هل يرغبون في بذل الجهد للحفاظ على علاقة الدم؟
دوافع الشخصيات
نجح المخرج في جعل أفعال الشخصيات هي المحرك للحدث بمزيد من المفاجآت والمنعطفات والتقلبات، وكلها نابعة من دوافع الشخصيات، حيث وُضعت في مواقف صعبة وغير عادية؛ فراما تقدم فيديوهات مخلة على السوشيال ميديا لتحصل على المال. ويتخلص موسى من كمال في السجن. وعندما يشك نزار بموسى، الذي طلب منه أن ينقل إليه أي معلومات يعرفها عن التزوير، يتخلص منه موسى، رغم العلاقة الإنسانية القوية التي كانت بينهما، ويدفنه موسى وزين.
بل إن التأثير الكبير في شخصية موسى يحدث عندما يُحكم عليه بثلاثة أشهر لإخفائه مرضه الذي يؤثر في عمله؛ فيطلب التسريح من الخدمة. ومن المنعطفات الهامة للمسلسل عندما تتعرض حياة راما (سارة بركة) للخطر عن طريق العجان، وينقذها موسى ويتزوجها من أجل الجنين.
مفردات الخيانة والغدر
“منير العجان” الذي يؤدي دوره الفنان تيسير إدريس، بدأ في ملاحقة الضابط “موسى”، لإبعاده عن طريقه ظناً منه أنه لن يسمح لشقيقه “زين” بالاستمرار في التزوير، ثم تحول إلى صراع على النفوذ في عالم تزوير العملات. إنه صراع حمله السيناريو الكثير من مشهيات الإثارة، وخاصة أن شخصية “منير العجان” تحوي كل مفردات الخيانة والغدر.
استخدم المخرج سامر برقاوي “استراتيجية الشاهد”، لينقل ما حدث في سوريا من تدهور اجتماعي وسياسي وأخلاقي من خلال الأحداث المعروضة على الشاشة؛ فعرض وقائع وأحداثاً من الماضي، بالإضافة إلى شظايا من الواقع الحالي، عندما سُحق الإنسان السوري، نتيجة معركة سياسية طاحنة، وواجهوا أعراض الفقر والعوز والفساد في كل مكان.
يمكننا رؤية المسلسل بالنظرة المباشرة التي تشير إلى حكاية تحوّل إنسان له قيم مثل “موسى” إلى مزور وقاتل وأناني؛ لا يفكر سوى في مصالحه الشخصية. أو الابتعاد إلى أهداف أهم أرادها سامر برقاوي بعيدة عن السرد المباشر للأحداث السياسية، ليعطي المشاهد مساحة للتأمل في تأثير ما فعله النظام السوري السابق على المجتمع والأفراد.
استفاد المسلسل من سقوط النظام، في حصوله على قدر كبير من الحرية في تناول شخوصه، ولكن أعتقد أنه إذا أتيح للسيناريست عمر أبو سعدة الوقت الكافي لإظهار بشاعة هذا النظام على المجتمع، كان سيحمل شخوصه الدرامية الكثير من الأفكار
* ناقدة فنية