غزوان قرنفل

بعد عام واحد فقط بلا الأسد ومنظومته العسكرية والأمنية، تبدو سوريا وكأنها تدخل طورًا جديدًا من التصدع البنيوي، لا يقل خطورة عمّا شهدته خلال العقود الماضية، فالأوضاع التي تعيشها البلاد اليوم ليست مجرد امتداد لسياسات القمع والاستبداد التي حكمت سوريا لأكثر من نصف قرن، بل هي نتيجة مباشرة لتحويل الدولة إلى فضاء مفتوح لإعادة اقتسام النفوذ والثروة والسلطة، وكأن البلاد غنيمة حرب تتناهشها القوى المختلفة المحلية والإقليمية والدولية.

في هذا السياق، يمكن ملاحظة تحولين جوهريين يجعلان من إعادة بناء الوطنية السورية على أساس المواطنة المتساوية تحديًا يقارب المستحيل في المدى المنظور.

التحول الأول يتعلق بالانتماء الوطني وتصدع البنية المجتمعية، فقد كان يفترض أن يشكل غياب الأسد وعصبته عن السلطة فرصة لإطلاق مسار وطني يعيد لحمة السوريين التي مزقتها آلة الحرب، غير أن ما حصل على الأرض كان يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا، فغياب أجندة العمل الوطنية وتفرد القوى المنتصرة، وانفلات القوى المحلية المسلحة، كل ذلك أدى إلى خلق أزمة وطنية استغلتها أطراف متعددة لتصفية حسابات قديمة، أو لفرض واقع جديد على مجتمعات محلية أنهكتها الحرب، فالسوريون الذين عاشوا عقودًا ضمن بنية وطنية هشة أصلًا، يجدون أنفسهم اليوم أمام جروح جديدة تضاف إلى تراكمات الماضي، فالمجازر التي ارتكبت ضد المدنيين في الساحل وفي السويداء خلال الأشهر الماضية، وما يشاع عن تحضيرات لعمل عسكري في شمال شرقي سوريا، كلها وقائع تعيد إلى الأذهان أكثر المراحل ظلامية في تاريخ البلاد، وتدفع قطاعات واسعة من السوريين إلى الانكفاء نحو هوياتهم الأولية ما دون الوطنية، من طائفية وعشائرية ومناطقية.

غني عن القول إن هذه التطورات والمؤشرات، لا تسهم بأي شكل في بناء وطن جديد يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، بل على العكس، هي تعزز فرص الانقسام وترسم ملامح خريطة داخلية هشة يسهل دفعها نحو التقسيم الفعلي إذا ما توفرت الظروف، كما أن غياب العدالة واستمرار عمليات الثأر الجماعي الأعمى يزرع بذور اقتتال أهلي قد يمتد لسنوات طويلة ويتجاوز الصراع السياسي التقليدي إلى صراع وجودي بين الجماعات المحلية.

إن وطنًا تُرتكب فيه الجرائم الجماعية دون محاسبة جدية، وتُستباح فيه المدن والقرى تحت ذريعة بسط سلطة الدولة، لن يتمكن من لملمة شتاته بسهولة، وما يحدث اليوم يؤشر إلى عملية إعادة هندسة للوعي الجمعي السوري يتم فيها تفكيك الروابط الوطنية لمصلحة هويات فرعية متناحرة، وهو ما يشكل تهديدًا وجوديًا لسوريا ككيان سياسي وجغرافي وكدولة قابلة للحياة.

أما التحول الخطير الآخر فيتعلق ليس فقط بما يفترض أنه علاقة بين المواطن والدولة، بل بمفهومي المواطن والدولة ذاتهما، والتي غالبًا لم يعد أو لن يكون لهما وجود في المدى المنظور مع التحولات الاقتصادية التي تقوم بها السلطة والتي تتجه لجعل الدولة مجرد شركة قابضة، الطبقة الحاكمة مالكون لها ومستثمرون فيها، والتي ستجعل السوري مجرد زبون يشتري الخدمة من الشركة/الدولة بدلًا من كونه مواطنًا له حقوق يفترض أن ترعاها الدولة وتؤديها له.

فمع ضعف مؤسسات الدولة وغياب الرقابة، اندفع أصحاب رؤوس الأموال، سواء من الشركات الوطنية الكبرى أو الشركات الأجنبية أو أثرياء الحرب الجدد، للسيطرة على ما تبقى من الاقتصاد الوطني، وما يتم التسويق له تحت عنوان الخصخصة أو تشجيع الاستثمار ليس سوى وسيلة للهيمنة على الموارد والثروات العامة، وتحويلها إلى أدوات لجني الأرباح على حساب بؤس السوريين الذين سيتحولون إلى مجرد عمال بالسخرة، يعملون مقابل الحد الأدنى من الطعام والشراب دون أي أفق لتحسين حياتهم أو استعادة كرامتهم. وقد بدأت حقًا تظهر بوضوح معالم اقتصاد جديد تتزاوج فيه سلطة المال مع سلطة السلاح بحيث يتحول العمل إلى شكل من أشكال الاستعباد الحديث، يجبر فيه المواطن على قبول شروط لا إنسانية في سوق العمل، لأنه ببساطة لا يملك بديلًا آخر.

إن إعادة هندسة البنى الاجتماعية السورية التي تجري اليوم، تقوم على احتكار السلطة والثروة معًا، ومن الواضح أن طبقة جديدة من المسيطرين على موارد البلاد، شبيهة إلى حد كبير بطبقة الإقطاع السياسي- الاقتصادي التي تشكلت في المراحل الأولى من حكم الأسد الأب بدأت بابتلاع البلاد ومواردها، لكن يبدو أن النسخة الحالية أكثر خطورة وتوحشًا، لأنها تأتي بعد حرب طويلة أنهكت المجتمع، وجعلت الملايين من السوريين تحت خط الفقر، غير قادرين حتى على الاحتجاج أو المطالبة بأبسط حقوقهم.

سوريا اليوم تُدار كما لو كانت غنيمة حرب تتقاسمها القوى النافذة، لا وطنًا يسعى إلى النهوض بعد الدمار، فالتحولان الخطيران اللذان يمر بهما المجتمع، انهيار الانتماء الوطني وتحويل المواطنين إلى عبيد في اقتصاد مسلح فاسد، سيتركان آثارًا طويلة الأمد، وقد يمنعان أي جيل قريب من أن يختبر دولة عادلة أو يعيش في مجتمع متماسك، وما لم يعد الاعتبار لفكرة المواطنة، وما لم يُبنَ نظام سياسي جديد قائم على العدالة والمساواة، فإن البلاد ستتجه إلى مزيد من التفكك والصراع المفتوح، وغالبًا إلى تقسيم فعلي يصبح أمرًا واقعًا لا يمكن التراجع عنه.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.