بعد مرور عام على سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، تقف المرحلة الانتقالية في سوريا أمام مفترق حاسم، حيث تتقاطع الفرص الجديدة مع تحديات كبيرة، فيما تواصل حكومة الرئيس أحمد الشرع، جهود إعادة ربط الدولة بالمجتمع الدولي، وتخفيف العقوبات، وجذب تمويلات جديدة لدعم الاقتصاد المتعثر.

وبعد مساهمته في الإطاحة بنظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، حصل الشرع على دعم شعبي قوي، وسط حفاوة دولية، أعقبت سنوات من العزلة السياسية.

على الصعيد الداخلي، بدأت الحكومة السورية بجهود ملموسة في مجال العدالة والمساءلة، من خلال إنشاء الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والتحقيق في انتهاكات نظام الأسد، فضلاً عن محاكمات علنية لأول مرة منذ عقود.

كما شكلت لجان للتحقيق في أعمال العنف الطائفي بعد سقوط الأسد، بينما تستمر الجهود الخارجية في متابعة محاكمات مسؤولي النظام السابق المقيمين في أوروبا وأميركا.

وخلال هذا العام، شهدت سوريا تغييرات مختلفة في معظم الأصعدة، تبدأ من الوضع المعيشي الذي كان أشبه بقبضة تخنق المواطنين في سوريا، إلى تحديات تتعلق بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وسط تغييرات على مستوى الإدارات، والموظفين، وجميع مفاصل الدوائر الحكومية. 

تحديات داخلية

بعد توليه السلطة، سعى الرئيس السوري إلى طمأنة الشارع من خلال الدعوة المشتركة إلى معالجة كل التحديات، وقال في خطاب في يوليو الماضي، إن “هناك الكثير من المشكلات في سوريا. الشيء المهم والأساسي هنا هو تقسيم هذه المشكلات وحل كل مشكلة على حدة”، في إشارة إلى أن وزارات مختلفة ستعمل في الوقت نفسه، “حتى نصل إلى نتائج أكثر واقعية”.

كما أوضح الشرع في بداية الفترة الانتقالية، أن “سوريا بحاجة إلى إعطاء الأولوية لبناء الدولة وإنشاء مؤسسات عامة تخدم جميع السكان”. 

وواجهت السلطات السورية الجديدة، مهمة شاقة لبناء المؤسسات على بقايا المؤسسات السابقة في عهد الأسد، التي كانت “فاسدة ومجردة”، وفق ما صرح به وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، خلال جلسة حوارية بمنتدى الدوحة 2025.

تحديات تواجه “سوريا الجديدة”

  •  7.4 مليون نازح داخلي، بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
  • أكثر من 300 ألف لغم غير منفجر منذ الحرب، وفق منظمة الدفاع المدني السوري.
  • 90% فقر (منظمة فاو)، 70% اعتماد على المساعدات الإنسانية، 65% بطالة.
  •  تدمير 30% من البنية التحتية السورية.
  • تعطّل 35% من البنية التحتية التعليمية.

تُقدّر تكلفة إعادة إعمار سوريا، وفق تقديرات البنك الدولي، بين 200 و400 مليار دولار.

وسعى الشرع إلى ترسيخ الاستقرار وبناء الثقة من خلال حكومة “شاملة ومسؤولة”، على حد وصفه، بينما تتطلب المرحلة الانتقالية، دعماً دولياً ثابتاً لتقوية جهود التعافي. 

بدأت الحكومة السورية، بخطوات أولية تهدف لتسيير عجلة الاقتصاد، إذ كلفت ميساء صابرين لتكون أول امرأة تتولى منصب حاكم مصرف سوريا المركزي قبل استقالتها في مارس الماضي، كما تمت إعادة العمل بأجهزة الصراف الآلي، وألغت تجميد معظم الحسابات المصرفية، واستأنفت المطارات الرئيسية في سوريا عملها، وعادت الشاحنات القادمة من الأردن للدخول إلى الأراضي السورية، ما أنعش سعر صرف العملة المحلية لتُتداول عند مستويات ما قبل سقوط الأسد.

ويتراوح معدل صرف الليرة السورية حالياً ما بين 11.5 و13 ألف ليرة للدولار، ولكنها لا تزال بعيدة جداً عن مستويات ما قبل الحرب، عندما كان الدولار يتداول عند نحو 47 ليرة.

وعلى صعيد المؤسسات الحكومية وإعادة بنائها، قال خبراء لـ”الشرق”، إن عملية إعادة البناء تجري ببطء بسبب ما خلفه النظام السابق من بيروقراطية، بالتزامن مع خبرة الموظفين الجدد “الضعيفة” في مفاصل العمل الحكومي، الأمر الذي يؤخر صناعة القرار، ويشكل عقبةً في طريقه.

وفيما يرى سوريون، بعض التحسن في الوضع المعيشي، بانفراجة في توفر السلع والخدمات، يشكل ارتفاع أسعارها والتي كان آخرها “تسعيرة الكهرباء”، هاجساً جديداً في أحاديث السوريين. 

“بطء” إعادة بناء مؤسسات الدولة

الدبلوماسي السوري، بسام بربندي، قال في تصريحات لـ”الشرق”، إن “الحكومة السورية تواجه اليوم مشكلة حقيقية في ما يتعلق بالمؤسسات وقوانينها والعاملين فيها”، مشيراً إلى أن الموظفين “ينتمون إلى مرحلة من الجمود الفكري في عالم المؤسسات، وهم غير مهيّئين للتعامل مع متطلبات المرحلة الحالية، إضافة إلى أن الذين التحقوا بالدولة خلال مرحلة (ردع العدوان) غير مؤهلين لإدارة شؤونها”.

وقال إن سوريا “تمرّ بعملية إعادة بناء مؤسساتي تسير بخطوات بطيئة لكنها ثابتة، إلا أنها تفتقر إلى خبرات إدارة الدولة، والموظفين من ذوي الكفاءات في مختلف القطاعات، فضلاً عن النظم القانونية والرؤية الواضحة لدور المؤسسات. وهو ما يشكل تحدياً كبيراً وحقيقياً أمام الحكومة السورية”.

وأشار بربندي، إلى أن هناك “جهوداً ونية واضحة لدى الحكومة لمعالجة المشكلات، خاصة أن 90% من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر، وأن 60% من البنى التحتية مدمرة، ما يستدعي وجود فريق حكومي متطوّر”.

وأضاف أن “جزءاً كبيراً من الموظفين ما زالوا يسعون فقط إلى الحفاظ على مناصبهم ورواتبهم، وهو ما يسهم في إبطاء العمل”.

ولفت إلى أن “إعادة تعريف الدولة من جهاز أمني إلى جهاز خدماتي شفاف خالٍ من الرشوة تُعد من أكبر التحديات، وأن البلاد لا تزال في بداية هذا الطريق”، مشدداً على ضرورة طرح تساؤل “حول مدى التقدم كل ستة أشهر لتقييم سير العملية”.

رحلة البدء من الصفر

مدير مركز “تقدم” للحوار والتنمية وبناء السلام، عبد الله الغضوي، أشار في تصريحاته لـ”الشرق”، إلى أن الواقع الحالي “لا يشير إلى اكتمال في مؤسسات الدولة السورية، حيث تعمل السلطات على إعادة هيكلة بعضها، وأخرى تبقيها على حالها لفهم واقعها وإعادة تطويرها، ما يفسر حالة الارتباك في مؤسسات دون أخرى”.

وأوضح أن “التطور الهيكلي يحتاج إلى فترة زمنية طويلة؛ بسبب ترهل مؤسسات الدولة تاريخياً، الأمر الذي يحتاج إلى نظام حوكمة جديد، ولم يكن موجوداً سابقاً فيها”، مضيفاً: “إعادة بناء مؤسسات الدولة لم يكتمل على الإطلاق، وبدأ من الصفر”.

واعتبر الغضوي أن “أكبر تحد تواجهه مؤسسات الدولة السورية، هو كيفية الدمج بين الموجة الجديدة في الدولة الجديدة، وعقلية النظام القديم وتفكيره، وكيفية التخلص بين البيروقراطية والصراع بين الجيلين، إذ يشكل عقبة في صناعة القرار بالدولة السورية الجديدة”.

الساحل السوري.. الأكثر تضرراً

ولفت الغضوي إلى أن “هناك تحسناً طفيفاً على صعيد الخدمات، وهو غير واضح إلا في بعض المناطق، وأبرزها محافظة ريف دمشق التي تسلمتها المحافظة بصفر ميزانية مالية”، لكنه أشار إلى أن “أكثر التحديات التي يعاني منها السوريون اليوم، هي في مناطق الساحل السوري”.

وأوضح أن هناك أزمات اقتصادية في تلك المناطق؛ بسبب تسريح الآلاف من العاملين سابقاً في قطاعات الأمن، والجيش، والشرطة، والموظفين في القطاعات الأخرى، والذين خسروا الكثير من الوظائف، معتبراً أن ذلك يمثل “إحدى المشكلات الأساسية في الاستقرار الداخلي بسوريا”.

واعتبر الغضوي، أن مناطق الساحل السوري هي “أكثر المناطق تضرراً” بعد سقوط نظام الأسد.

تقدم جزئي في تحرير السوق

الأكاديمي والمستشار الاقتصادي، زياد عربش، قال في تصريحات لـ”الشرق”، إن “سوريا، وبعد عام على التغيير، تشهد تقدماً جزئياً في تحرير السوق دون إصلاحات هيكلية شاملة”، مشدداً على الحاجة إلى “خطة اقتصادية تصاغ من قبل كل ممثلي الفعاليات، في ظل غياب إطار تنموي يغطي مجمل النشاط الاقتصادي، والخلل الذي أحدثه الانزياح المؤسسي عبر بروز مؤسسات جديدة وتغييب أخرى”.

وذكر عربش، أن الحكومة السورية “أدخلت إصلاحات ليبرالية مثل إلغاء ضوابط الاستيراد والتصدير، وتعزيز استقلالية البنك المركزي، لكن غياب خطة متكاملة لإعادة الإعمار ما يزال يعيق الاستقرار الاقتصادي، ويسمح بعودة ممارسات غير حميدة”.

وأشار إلى ضرورة إجراء مراجعة شاملة للقوانين، ولا سيما تلك التي تم صياغتها بعد عام 2020، والتي وُضعت لخدمة النظام السابق بما تحتويه من فجوات تسمح بـ”عقاب غير الموالين والاستحواذ على المكاسب”.

استثمارات أولية بـ16 مليار دولار

ولفت عربش إلى أن “سوريا حققت تقدماً في تسهيل التعامل بالدولار، وحرية الاستيراد والتصدير، مع إعادة ربط النظام المصرفي بنظام سويفت (للتحويلات المالية الدولية)، ورفع جزئي للعقوبات الأميركية والأوروبية في مايو 2025، ما أسهم في جذب استثمارات أولية بقيمة 14–16 مليار دولار. كما تم إصدار مراسيم عدة أبرزها إنشاء المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية”.

ورغم زيادة الرواتب بنسبة 200%، إلا أن الاقتصاد السوري، بحسب عربش، “مثل الإسفنج مهما وضعت فيه يمتص كل شيء”، نظراً لكبر حجم الاحتياجات. 

وأشار إلى أن منظمات المجتمع المدني، “لم تُفعّل بشكل كامل” في صياغة السياسات، رغم الدعوات لاعتماد سياسة “الباب المفتوح”.

وبحسب عربش، ما زال الاقتصاد يعاني تضخماً ونمواً متواضعاً مع نسب للبطالة تصل إلى 25%، وفق تقارير البنك وصندوق النقد الدوليين. 

وفي تقييمه لمدى تنفيذ الوعود الحكومية، قال عربش إن “الجهات المعنية لم تنفذ الوعود بالكامل، سواءً في إنهاء الفساد أو جذب الاستثمارات الأجنبية. ورغم تراجع الدور الأمني على الصناع والتجار، وزيادة حرية التجارة، إلا أن فتح باب الاستيراد والتصدير بالكامل، فاقم العجز التجاري، فيما بقيت السيولة ضعيفة مع استمرار جزء من العقوبات”.

وتوقع عربش صدور خطة شاملة لإعادة الإعمار، في 2026 تركز على القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة والطاقة المتجددة، إلى جانب تعزيز الشفافية في صندوق الثروة السيادي وإشراك المجتمع المدني لتجنب الإقصاء المؤسسي.

وأشار إلى ضرورة “الإصلاح المصرفي، والاستفادة من التحويلات المالية في المشروعات الإنتاجية بدلاً من الاعتماد على المساعدات، مع حماية الفئات الضعيفة من التضخم وارتفاع أسعار الكهرباء وإعادة تفعيل الممرات التجارية، خاصة الطريق البري عبر سوريا والأردن إلى الخليج لخفض تكاليف النقل”.

تحركات طموحة بوتيرة محدودة

وفي تعليق على مستجدات الأوضاع المعيشية في سوريا، قال “أبو سامر”، وهو أحد البائعين في دمشق القديمة: “لا يمكن إنكار أن هناك محاولة جدية لإعادة ترتيب مؤسسات الدولة من الداخل، لمسنا ذلك في بعض الوزارات الخدمية، حيث تغيّرت آليات العمل، وتسارعت بعض الإجراءات مقارنة بسنوات سابقة. صحيح أن النتائج لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب، لكن إعادة التنظيم وسط هذا الكم من التحديات ليست أمراً سهلاً”.

ومن الساحل السوري، تحدث مدرّس (لم يذكر اسمه) في مدينة اللاذقية قائلاً: “بناء مؤسسات الدولة ما زال بطيئاً جداً إذا ما قيس بحجم الانهيار السابق، نعم، هناك تغييرات إدارية، لكن المشكلة أعمق من تبديل أشخاص أو قرارات، نحن نتحدث عن بنية منهكة تحتاج لإعادة بناء كاملة، في الخدمات، الوضع متقلب؛ يوم تتحسن ويومان تتراجع”.

وأضاف المدرس: “الوعود كثيرة لكن التنفيذ محدود، وغالباً ما يصطدم بالعجز المالي وضعف الإمكانات. الشارع اليوم لا يطلب المستحيل، بل الحد الأدنى من العيش الكريم، وهذا لم يتحقق بعد بالشكل الكافي، في مناطق الأقليات، لا سيّما قرى الساحل السوري الوضع أكثر هشاشة، من ناحية الاستثمار وفرص العمل وحتى الأمان الاقتصادي. هناك شعور بأن هذه المناطق غالباً تُترك للنهايات”.

فيما عبر طالب الجامعة “هارون”، من السويداء، عن استيائه من الوضع الحالي، قائلاً: “الواقع المعيشي يزداد صعوبة، والأسعار تسبق أي قرار أو زيادة رواتب بخطوات كبيرة بظل حالة الضياع، والفوضى العسكرية التي تشهدها المحافظة”.

وأضاف: “الخدمات تتراجع أكثر مما تتقدم، والوعود تتكرر بنفس الصيغة دون نتائج ملموسة، بطالة مرتفعة، شباب بلا أفق، بنى تحتية مهملة، وشعور عام بالتهميش. الناس هنا لا تطالب بامتيازات، بل بحقوق أساسية لم تعد متوفرة”.

إنهاء العزلة الدولية

وبعد اكتسابها زخماً داخلياً وإجماعاً استثنائياً، تحركت السلطات السورية الجديدة، بسرعة نحو الاعتراف الدولي، ليس فقط من قبل جيرانها الإقليميين.

وكانت أولى محاولات فك العزلة الدولية عن سوريا، من خلال جولة قام بها وزير الخارجية أسعد الشيباني شملت السعودية والإمارات وقطر والأردن. كما أوفدت الإدارة الجديدة الشيباني لتمثيلها في اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، وهي مشاركة وصفها الشيباني بأنها “الأولى من نوعها في تاريخ البلاد”.

في يناير الماضي، علّقت واشنطن بعض العقوبات المفروضة على سوريا بشكل مؤقت ومحدود، كما اتفق الاتحاد الأوروبي على مسار لرفع العقوبات عن البلاد “بشكل تدريجي”، في حين دعت دول عربية عدة في مقدمتها السعودية وقطر، إلى رفع العقوبات. هذه الخطوات رفعت آمال الإدارة الجديدة بإمكانية التوصل لاتفاق ينهي ملف العقوبات.

وبحلول بداية الربيع، علّق الاتحاد الأوروبي بعض العقوبات، وفي مارس أعادت ألمانيا افتتاح سفارتها في سوريا بعد غياب دام ثلاثة عشر عاماً.

أما الاختراق الحقيقي للحكومة السورية الجديدة، فكان زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الشرق الأوسط، حيث التقى بالشرع في السعودية، وأعلن أيضاً رفع العقوبات عن دمشق. وسرعان ما تبع الاتحاد الأوروبي نفس النهج، وتم رفع معظم العقوبات الغربية عن سوريا في مايو.

وعلى الرغم من دعمها لنظام الأسد لسنوات عديدة، كانت موسكو من بين أولى الدول التي أقامت اتصالات مع السلطات الجديدة بعد انهيار نظام الأسد، فبالنسبة للكرملين كان الحفاظ على قاعدة حميميم الجوية والمرفأ البحري في طرطوس هدفاً استراتيجياً، لأنهما يلعبان دوراً رئيسياً في اللوجستيات الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا، وفق مركز مالكوم كير-كارنيجي للشرق الأوسط.

وفي البداية، كانت السلطات السورية الجديدة مترددة أيضاً في قطع العلاقات مع موسكو، رغم أنها استضافت الأسد بعد فراره من البلاد. وقدمت دمشق ضمانات أولية للأمن في القواعد العسكرية الروسية، وتحدث الشرع نفسه عن أهمية الشراكة مع روسيا. 

ومع ذلك، حتى في المراحل المبكرة، أوضحت السلطات السورية أنها لا تزال تحمل بعض المظالم ضد موسكو. فقد دعت روسيا إلى “الانتباه لأخطاء الماضي” وألمحت إلى الحاجة لتعويضات.

ومع ذلك، الآن وبعد أن أصبحت السلطات السورية تحظى بالاعتراف الدولي، انخفضت قيمة موسكو المحتملة بالنسبة لدمشق.

عقوبات “قانون قيصر”

في يوليو الماضي، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمراً تنفيذياً ينهي برنامج العقوبات الأميركية على سوريا للسماح بإنهاء عزلة دمشق عن النظام المالي العالمي، وذلك تماشياً مع تعهد واشنطن بمساعدة سوريا على إعادة الإعمار بعد الأزمة.

على الرغم من أن جميع العقوبات الأميركية المتعلقة بسوريا، لم تُرفع بعد، فإن إعلان ترمب سرّع بشكل كبير انتقال دمشق وفرصتها لإعادة البناء.

وقال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إن قرار ترمب بإنهاء برنامج العقوبات المفروضة على سوريا سيفتح “أبواب إعادة الإعمار والتنمية التي طال انتظارها”.

وبدأت العقوبات الأميركية على سوريا عام 1979، عندما أُدرجت دمشق على أول قائمة استحدثتها الولايات المتحدة لما وصفته بـ”الدول الراعية للإرهاب”.

وترتب على هذا التصنيف فرض قيود على المساعدات الأميركية لسوريا، وحظر بيع أسلحة لها، وإخضاع معاملات البنوك الأميركية مع الحكومة السورية السابقة والكيانات المملوكة لها لضوابط مشددة، فضلاً عن فرض عقوبات على عدد من المسؤولين والكيانات الحكومية السورية السابقة.

وفي عام 2005، مرر الكونجرس الأميركي “قانون محاسبة سوريا”، بعد اتهامها بالسماح باستخدام أراضيها من قبل من وصفوا بـ”الإرهابيين لتقويض استقرار العراق ولاحقاً لبنان”، وفق هيئة الإذاعة البريطانية BBC.

وجاء التحول الحقيقي في العقوبات بعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011، والقمع الحكومي لها. إذ جرى فرض عقوبات أكثر شمولاً وتشدداً استهدفت قطاعات حيوية، مثل النفط والغاز والطيران، والقطاع المصرفي بما فيه المصرف المركزي، فضلاً عن فرض قيود على تصدير سلع أساسية وتكنولوجية إلى سوريا.

إلّا أن التغيّر الأكبر جاء مع نهاية عام 2019، عند إقرار الكونجرس الأميركي قانون “حماية المدنيين السوريين” الذي عُرف بقانون قيصر.

ويعد “قانون قيصر” أحد أكثر القوانين المفروضة على دمشق صرامة، إذ يمنع أي دولة أو كيان من التعامل مع الحكومة السورية أو دعمها مالياً أو اقتصادياً.

في 10 نوفمبر الماضي، زار الرئيس السوري أحمد الشرع البيت الأبيض. وتناولت المباحثات مع الرئيس الأميركي، قضايا اقتصادية وأمنية رئيسية، بدءاً من رفع “عقوبات قيصر” على سوريا، وعلاقات سوريا المتوترة مع إسرائيل، وشراكتها مع التحالف العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش”. 

وانتهى الاجتماع بتفاؤل كبير من كلا الجانبين، إذ أكد الرئيس ترمب، خلال حديثه للصحافيين، التزامه تجاه الزعيم السوري، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة ستفعل “كل شيء لجعل سوريا ناجحة”.

وبعد إعادة تأهيلها دولياً، تسعى سوريا إلى رفع كامل للعقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة، والتي تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد السوري.

ملفات أمنية معقدة

دخلت سوريا، منذ سقوط نظام الأسد، مرحلة انتقالية معقّدة، أفرزت مشهداً أمنياً متقلباً، يتداخل فيه مسار بناء مؤسسات الدولة الجديدة مع استمرار بؤر العنف المسلّح.

وأشارت تقارير حقوقية إلى أن البلاد شهدت خلال عام 2025، عاماً دموياً، في ظل هشاشة مؤسسات العدالة، وصعوبة ضبط السلاح المنتشر بين الفصائل والمجموعات المحلية. 

في المقابل، تسجل تقارير أخرى تحسناً نسبياً في الوضع الأمني في أجزاء من البلاد، وخصوصاً في دمشق وبعض المدن الكبرى، وهو ما انعكس في موجات عودة اللاجئين من تركيا وغيرها، حيث لفتت تقارير، إلى عودة متزايدة للسوريين إلى حلب ومناطق أخرى بدافع تحسّن الأمن وبدء إعادة تنظيم المؤسسات المحلية. 

وتعمل الحكومة السورية الجديدة، على إعادة تفعيل الأجهزة الأمنية والشرطية، وتنفيذ حملات أمنية واسعة ضد خلايا تنظيم “داعش” وشبكات الجريمة المنظّمة. 

كما أعلنت دمشق، خلال زيارة الشرع إلى واشنطن في نوفمبر الماضي، توقيع إعلان تعاون سياسي مع التحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش”، لتصبح بذلك العضو التسعين في التحالف.

وأفادت وزارة الداخلية السورية، في نوفمبر الماضي، بتفكيك خلايا تابعة لـ”داعش” في عدة محافظات، مع ضبط أسلحة ومواد متفجرة في عملية أمنية واسعة. 

كما نفّذت القوات السورية بالتعاون مع القوات الأميركية، ضربات استهدفت مخازن سلاح للتنظيم في ريف دمشق بين 24 و27 نوفمبر الماضي، ما أسفر عن تدمير عشرات قذائف الهاون والصواريخ والأسلحة الخفيفة ومكونات العبوات الناسفة، في رسالة مفادها أن مكافحة “داعش”، في صلب الأولويات الأمنية، للحكومة السورية الجديدة.

هذه العمليات ساهمت في تقليص قدرة التنظيم على تنفيذ هجمات كبيرة في العمق الحضري، لكنها لم تُنهِ الخطر بالكامل، إذ يظهر التنظيم عبر خلايا صغيرة وهجمات محدودة النطاق في البادية وبعض الأرياف.

وفي الشمال الشرقي من سوريا، ما تزال مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” تشهد توتراً أمنياً متصاعداً، حيث تستمر الاشتباكات المتقطعة بينها وبين الجيش السوري.

هذا التوتر يعقّد جهود دمشق لبسط سيادتها الكاملة على الشمال الشرقي، ويحوّل المنطقة إلى ساحة تنافس أمني بين الحكومة الجديدة والقوى الكردية.

وجنوباً، ما زالت محافظة درعا وبعض مناطق ريف دمشق والجولان تشهد مستوى مرتفعاً من النشاط المسلح.

إلى جانب ذلك، تضيف الضربات والتدخلات الإسرائيلية المتكررة في الجنوب تعقيداً إضافياً للمشهد الأمني، في ظل مساعيها لفرض “منطقة عازلة” جديدة، وهو ما حذّر منه الرئيس أحمد الشرع مؤخراً، باعتباره يهدد الاستقرار الإقليمي.

واندلعت في منتصف يوليو 2025 اشتباكات في السويداء بين فصائل درزية وعشائر بدوية، بعدما تمّ خطف تاجر درزي على طريق دمشق-السويداء، ما أشعل فتيل مواجهة طائفية بعد عمليات انتقام متبادلة، وعمليات سلب وخطف وتصفية ميدانية. 

وأشارت التقارير إلى سقوط مئات الضحايا والجرحى، ونزوح أعداد كبيرة من المدنيين. ورداً على التصعيد، أرسلت الحكومة السورية قوات من وزارتي الداخلية والدفاع إلى المحافظة بهدف “فض الاشتباك” وتأمين الأحياء السكنية. 

وبعد أيام من التدخل، أعلن وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، “وقف تام لإطلاق النار”، عقب اتفاق مع وجهاء السويداء، وأعيانها على تهدئة الأوضاع، مع تكليف القوات بواجب حماية المدنيين والممتلكات العامة والخاصة. 

واعتبرت الحكومة، أن تدخلها “ضروري” لوقف نزيف الدم ومنع انهيار الأمن الأهلي، في حين طالبت بعض الأطراف المحلية بضمانات بعدم تكرار ما جرى.

وقال الرئيس السوري حينها، إن الدولة السورية “ملتزمة بحماية الأقليات والطوائف كافة في البلاد، وماضية في محاسبة المنتهكين من أي طرف كان”.

وذكر أن “أبناء السويداء بجميع أطيافهم يقفون بجوار الدولة السورية، ويرفضون مشروعات التقسيم، باستثناء مجموعة صغيرة تحاول دفعهم بعيداً عن الموقف الوطني”.

مسار توحيد الجيش السوري

وفي قلب العملية السياسية والأمنية الجارية، يبرز ملف “توحيد الجيش” بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية وأهمية لمستقبل الاستقرار.

ولفت الشرع في كلمته الاثنين، في ذكرى سقوط الأسد، إلى “دمج القوى العسكرية المختلفة ضمن جيش وطني موحد قائم على المهنية وولاء المؤسسة للوطن”، ما أسهم في “ترسيخ الأمن والاستقرار”.

وتوثق تقارير مراكز أبحاث غربية أن الشرع يعمل على بناء “جيش سوري جديد” موحد يخضع لقيادة مركزية في دمشق، في محاولة لإنهاء حالة التفتت العسكري التي كرستها سنوات الحرب والنفوذ الخارجي. 

واتفق قادة عدد من الفصائل المسلحة في سوريا، في ديسمبر 2024، على حل تلك الفصائل ودمجها تحت مظلة وزارة الدفاع، من بينها هيئة تحرير الشام التي كان يقودها أحمد الشرع.

وبدأت وزارة الدفاع السورية حينها، سلسلة اجتماعات مع قادة فصائل عسكرية مختلفة بهدف دمجها ضمن هيكل الجيش، بالتوازي مع مشروع لتحويل الجيش إلى قوة تعتمد على التجنيد الطوعي أكثر من التجنيد الإجباري، في محاولة لاستيعاب مقاتلي الفصائل ضمن إطار نظامي معترف به.

وفي مطلع العام الجاري، أعلنت الحكومة السورية، سلسلة من الإجراءات الهادفة لتنظيم المرحلة الانتقالية، من بينها “حلّ جميع الفصائل العسكرية” و”إعادة بناء الجيش على أسس وطنية”.

وترى دراسات سورية متخصصة، أن دمج الفصائل في إطار جيش وطني جديد يمثل خطوة مفصلية في مسار إعادة بناء الدولة، لكنها حذرت في الوقت ذاته من أن الانقسام المجتمعي والسياسي، وتعدد الولاءات المناطقية والحزبية، يهدد هذا المسار، ويجعل بعض الفصائل مترددة في حل نفسها خشية فقدان النفوذ أو الحماية التي يوفّرها الداعمون الخارجيون. 

ويجعل استمرار وجود تشكيلات مسلحة ذات قيادات مستقلة في الشمال والجنوب والشمال الشرقي، بعضها مرتبط بمحاور إقليمية ودولية، قرار الدمج مرتبطاً بحسابات خارجية، وليس بإرادة وطنية سورية فقط.

لكن لا يزال ملف دمج قوات “قسد”، التي تسيطر على شمال وشرق سوريا، ضمن مؤسسات الدولة، يشكل محوراً مركزياً للمفاوضات بين الجانبين. وأعلنت دمشق و”قسد” توقيع اتفاق 10 مارس 2025، الذي يقضي باندماج القوى الكردية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا داخل مؤسسات الدولة، العسكرية والمدنية، رسمياً، مع وعد بإعادة فتح المعابر والمطارات ونقل حقول النفط إلى السيطرة المركزية. 

إلا أن تطبيق الاتفاق واجه خلال الأشهر التالية جملة من العقبات، إذ تُصر قوات “قسد” على أن تتم عملية الاندماج كتلةً واحدة تحافظ على تنظيمها ووحدتها الداخلية، فيما نفت الحكومة هذا الطرح، مؤكدةً ضرورة دمج عناصر “قسد” أفراداً أو ضمن ألوية متعددة، لا ككتلة موحدة.

وتصاعد التوتر إلى مواجهات مسلحة، لاسيما في أكتوبر 2025، عند اندلاع اشتباكات عنيفة في أحياء ذات غالبية كردية في مدينة حلب بين قوات الحكومة و”قسد”.

هذه التطورات أضفت ظلالاً من الشك على جدية التنفيذ الفعلي للاتفاق، وعطّلت إلى حد كبير مسار الدمج المخطط له. 

ولا يزال بعض الخبراء ينظرون بعين الريبة إلى أي مشروع يعيد إنتاج بنية أمنية مركزية، ما يفرض على الحكومة الجديدة تبنّي إصلاحات عميقة في قطاع الأمن، وربط مسار توحيد الجيش بعدالة انتقالية واضحة.

وترى تحقيقات ميدانية سورية، أن انتشار السلاح الخفيف والمتوسط بأيدي مجموعات محلية وعشائرية يشكل تهديداً مباشراً لكل مسار توحيد للجيش، إذ تبقى إمكانية عودة الصراع المسلح قائمة عند أي توتر سياسي أو اقتصادي. 

في المقابل، يوفّر السياق الدولي والإقليمي الراهن بعض الفرص لدعم مشروع توحيد الجيش، إذ زار وفد من مجلس الأمن الدولي دمشق للمرة الأولى منذ تأسيس الأمم المتحدة، حاملاً رسائل واضحة تؤكد دعم وحدة سوريا وسيادتها، وربطِ مسار العدالة والمصالحة بإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية.

وأقر تحديث إرشادات اللجوء الأوروبية بتحسن نسبي في الوضع الأمني في مناطق معينة، مع استمرار الحماية لفئات معرضة للخطر، يعكس قراءة دولية ترى أن سوريا دخلت مرحلة انتقالية جديدة، يمكن أن تدعمها إصلاحات بنيوية في قطاع الأمن والجيش.

شاركها.