اخر الاخبار

علاقة الطعام بجغرافيا الكلام عند سعيد العوادي

وصل كتابه “الطعام والكلام، حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي”، الصادر عن (دار أفريقيا الشرق)، إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025، فرع الفنون والدراسات النقدية.

الكاتب والباحث المغربي سعيد العوادي، متخصص في البلاغة وتحليل الخطاب، يشغل منصب نائب العميد للبحث العلمي والتعاون، وأستاذ البلاغة وتحليل الخطاب في كلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض في مراكش.  معه كان هذا الحوار.

تتناول في كتابك الأخير أقدم صفتين أنثروبولوجيتين في حياة الإنسان: الطعام والكلام. برأيك أيهما كان الأسبق في الوجود، وهل سبقت الحاجة إلى الطعام الحاجة إلى الكلام؟

الطعام والكلام أقدم مقوّمَين أنثروبولوجيين في الحياة الإنسانية؛ بالطعام استطاع الإنسان أن يحيا مادياً، وأن يشحن ذاته بالطاقة اللازمة التي تساعده على إدامة الوجود، وبالكلام تمكّن أن يحيا رمزياً ويأنس داخل عشيرته اللغوية، وينقل خبراته حاضراً ومستقبلاً. في مقدمة كتابي، أشرت إلى تلك العلاقة الخِلافية المتكاملة، التي يُحدثها فم الإنسان، حين يُدخل اللقمة ويُخرج اللفظة.

الظاهر، أن الطعام سبق الكلام في الوجود؛ لأن الحاجة إلى إشباع الجسد بالأكل والشرب لها أولوية قصوى، فالتجربة تثبت أن عضّة الجوع أكثر إيلاماً من وحشة التواصل. ويزكي هذه الأسبقية، الأثر البارز للطعام في الكلام المتداول، حيث نجد حضوراً قوياً لمعجم الأكل والشرب في سياقات تواصلية غير منتمية لأجواء الضيافة. 

 تشير في تحليلك إلى أن للطعام حفرياته البلاغية في اللغة، تماماً كما للكلام، ونلمس ذلك في استعارات مثل “المرء مخبوء تحت لسانه”. هل وجدت تقاطعات بين شعرية الطعام وشعرية الكلام؟ 

يكشف الكتاب عن الغزو الذي قامت به الاستعارات الطعامية لجغرافيا كلامنا العادي، ونصوصنا الشعرية والنثرية، فتجلى ذلك في مناحٍ عدّة، منها الأمثال التي استثمرت الطعام في التعبير عن دلالات غير طعامية بالضرورة، ما اصطلحنا عليه “الطعام الحكيم”، مثل “فلان يعرف من أين تؤكل الكتف”، الذي يصف الشخص الخبير القادر على تدبير أموره بذكاء أو دهاء. أو مثل “التمرة إلى التمرة تمر” الذي يحيل إلى بعد اقتصادي إدخاري.

 كما نجد ذلك في مصطلح “الذوق” الذي ارتحل من حقل الطعام إلى حقول الفنون والسلوك والنقد، ومصطلح “الأدب” الذي انحدر من المأدبة وعوالمها التنويعية والاحتفالية، ومصطلح “الفصاحة” ذي المرجعية الشرابية المأخوذة من قولهم: “فَصُح اللبن”، ومصطلح “الفكاهة” المنتسب إلى الفواكه، ومصطلح “المُلحَة” المأخوذ من الملح. 

بل إن مِن القدماء مَن عرّف البلاغة تعريفاً طعامياً فقال: “البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى”، كما قيل عن ممتهني الأكل والشراب تعريفات أكثر لطفاً، على نحو ما قال الخمّار: “أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العِلم، وصفّاه راوُوق الفهم، وضمّته دنان الحكمة، فتمشّت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقّته، وفي العقول حدّته”.

ولم يترك معجم الطعام مجالاً من دون أن يتمدّد فيه. ونلاحظ ذلك حتى في عناوين الكتب مثل: “الفانيد في علم الأسانيد” لجلال الدين السيوطي، و”موائد الحَيس في فوائد امرئ القيس”لنجم الدين الطوفي، و”مترعات الكؤوس” للمختار السوسي.

وفي أسماء الشعراء نحو: الخبزأرزي، والخبّاز البلدي، وابن سُكّرة، والفرزدق (الفرزدقة قطعة العجين). وتكثر استعارات الأكل والشرب في التداول اليومي بين الناس، نظير قولنا: “حلاوة اللسان”، و”القارئ النهم”، و”المطالعة غذاء الروح”، و”المأدبة العلمية”.

كما أن لكل طبقة اجتماعية أطباقها التي تعبّر عن فقرها أو غناها ورصيدها من التحضّر أو التخلف. وبعض الكنايات العربية القديمة التي تدلّ على الكرم مثل كناية “كثير رماد القِدر”، كانت في الأصل مشهداً بصرياً يراه الناس أمام مساكن الكرماء، فتدلهم كثرة الرماد على الضيافة الباذخة.

 لا تدرس في كتابك الطعام باعتباره مجرد أكل أو استهلاك، ولا الكلام كثرثرة، بل كخطاب ثقافي يحمل دلالات اجتماعية وتاريخية. كيف استطعت تحويل الغذاء والطهي إلى أفق بلاغي يمكّننا من إعادة فهم الثقافة العربية؟

فعلا لا يدرس الكتاب الطعام من منظور بيولوجي صرف، وإنما يحوّله من مادة للهضم إلى مادة للفهم، فيتعامل معه بوصفه خطاباً متعدد الدلالات، من خلال استكشاف جغرافيا نصّية متنوعة فيها القرآن الكريم والحديث الشريف والأدب والأمثال وتفسير الأحلام والتاريخ والفقه.

 يفيد كل ذلك في فتح أفق آخر لفهم الإنسان العربي والثقافة العربية. إنه أفق حيوي يتّخذ من المادة الطعامية التي تشكّل مشتركاً إنسانياً بين الساسة والرعية والفقراء والأغنياء والعرب والأقوام الأخرى، مدخلاً إلى صياغة قراءة أكثر تعبيراً عن حقيقة الإنسان العربي وواقعه.

هل تعتقد أن التراث العربي في تناوله لموضوع الطعام الذي يتعدّى البُعد البيولوجي ليشمل الضيافة والكرم، وأحياناً مانعاً الغدر والخديعة، وجامعاً على موائده السياسة والعهود،  هو أكثر ثراءً من نظيره الأوروبي؟ 

تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى دراسات مقارنة تبرز عناصر التوافق والاختلاف بين التراث العربي ونظيره الغربي. خطاب الطعام كان ثري الدلالات في التراث الغربي أيضاً، كما سبقت الدراسات الغربية نظيرتها العربية إلى تناوله علمياً من منظورات سيكولوجية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية ولسانية.

أعتقد أننا نملك تراثاً بالغ الثراء في مكوّن الطعام وغيره، لكنه لايزال ينتظر منا دراسات أكاديمية نوعية، توازي عمقه وصدقه وصبره. فكيف يتأتى لنا خدمة تراثنا، وأكثرنا يدور في “مُعار أو مُعاد من القول المكرور”، كما قال زهير بن أبي سلمى؟

في كتابك” الطعام الروائي، من المشهدية إلى التضفير” تهتمّ بمفهوم مطبخ الرواية، حيث يصبح الطعام مكوّناً أساسياً في السرد الأدبي وليس تفصيلاً. كيف يمكن للطعام أن يصبح عنصراً أدبياً إبداعياً داخل النصوص الروائية والمسرحية والشعرية؟

لمّا كان الطعام مكوّناً حيوياً في كل الأزمنة الإنسانية، فقد حاولت ألا أكتفي بدراسته في التراث العربي، لذا انتقلت إلى تناوله في المرحلة الحديثة، من خلال إنجاز كتاب ثانٍ بعنوان “مطبخ الرواية: الطعام الروائي بين المشهدية والتضفير”.

 أدرت فيه النقاش حول حضور الطعام في الرواية العربية، وأبرزت دلالاته على الهوية والصراع والحب والإلفة والغيرية. والواقع، أن حقل الطعام يُغني الإبداع في تنويعاته الشعرية والسردية والمسرحية والسينمائية والتشكيلية، لأنه جسر نحو تعقيدات العلاقات الإنسانية وتشابكاتها مع أسئلة مصيره.. فما وراء الموائد أكثر إثارة مما تعرضه من مآكل ومشارب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *