مع اقتراب ساعة الصفر، كانت الاستعدادات للحرب شارفت على الاكتمال، إذ انتشر عشرات العملاء المدرّبين العاملين لصالح إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية، وهم مزوّدون بأسلحة متطورة، بالتزامن مع وضع المقاتلات الإسرائيلية في حالة تأهب قصوى، انتظاراً لأوامر استهداف البنية التحتية النووية الإيرانية، وعلماءها، ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، ومنظومات الدفاع الجوي.

وتجاوزت إسرائيل والولايات المتحدة في تلك المرحلة خلافاتهما، وصاغتا اتفاقاً أولياً بشأن مدى اقتراب طهران من امتلاك سلاح نووي، في وقت كانت فيه المناورات الدبلوماسية تجري على قدم وساق لتضليل إيران، وحجب الرؤية عنها بشأن الهجوم الوشيك، وفقاً لصحيفة “واشنطن بوست”.

بيد أن المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين أدركوا أن إلحاق ضرر عابر ببرنامج إيران النووي مترامي الأطراف لن يكون كافياً، إذ كان لزاماً عليهم القضاء على “مخزن العقول”، وهم جيل من المهندسين والفيزيائيين الإيرانيين الذين يعتقد مسؤولو الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية أنهم يعملون على “العلوم المظلمة” لتحويل المواد النووية الانشطارية إلى قنبلة ذرية.

وفي فجر يوم 13 يونيو، وفي الدقائق الأولى من الحرب الإسرائيلية التي استمرت 12 يوماً ضد إيران، بدأت الأسلحة الإسرائيلية في استهداف مجمعات سكنية، ومنازل في العاصمة الإيرانية.

“عملية نارنيا”

وبدأت Operation Narnia (عملية نارنيا)، التي تستهدف كبار العلماء النوويين في إيران، حيث لقي محمد مهدي طهرانجي، عالم الفيزياء النظرية، وخبير المتفجرات الخاضع للعقوبات الأميركية، بسبب دوره في أبحاث الأسلحة النووية، مصرعه في شقته بالطابق السادس بمجمع سكني يشتهر باسم “مجمع الأساتذة” في العاصمة طهران.

وبعد ساعتين فقط، لقي فریدون عباسي حتفه، وهو عالم فيزياء نووية ترأس سابقاً منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وكان مدرجاً على قوائم العقوبات الأميركية والأممية، في ضربة أخرى بالعاصمة.

وإجمالاً، أعلنت إسرائيل أنها اغتالت 11 من كبار العلماء النوويين الإيرانيين في الثالث عشر من يونيو والأيام التي تلته.

الهجمات الواسعة ومتعددة المحاور التي شنّتها إسرائيل والولايات المتحدة على البرنامج النووي الإيراني هزّت أركان الشرق الأوسط، وأثارت وعوداً إيرانية بـ”الانتقام”، كما أدّت، في الوقت الراهن، إلى وأد أي فرصة للتوصل إلى اتفاق يهدف لكبح أنشطة طهران النووية ووضعها تحت رقابة دولية.

وكشفت صحيفة “واشنطن بوست”، بالتعاون مع برنامج “فرونت لاين” على شبكة PBS، عن تفاصيل جديدة تتعلق بالهجمات والتخطيط الذي سبقها وتداعياتها داخل إيران، استناداً إلى مقابلات مع عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين من إسرائيل وإيران والولايات المتحدة، تحدث بعضهم للمراسلين لأول مرة، شريطة عدم الكشف عن هوياتهم، لعرض تفاصيل العمليات والتقييمات السرية.

الإجراءات التحضيرية

وفي إطار التحضير لـ”عملية نارنيا”، أعد محللو الاستخبارات الإسرائيلية قائمة تضم 100 من أهم العلماء النوويين في إيران، ثم قلصوا القائمة إلى نحو 12 هدفاً فقط. وبناءً على عقود من التجسس، وضعوا ملفات مفصلة عن عمل كل واحد منهم وتحركاتهم، ومنازلهم.

بيد أن العملية لم تكن خالية من الثغرات، فقد تمكنت “واشنطن بوست” ومنصة الاستقصاء Bellingcat من التحقق بشكل مستقل من قتل 71 مدنياً في 5 ضربات استهدفت العلماء النوويين، وذلك عبر تحليل صور الأقمار الاصطناعية، وتحديد المواقع الجغرافية لمقاطع الفيديو وإعلانات الوفاة وسجلات المقابر، وتغطية الجنازات في وسائل الإعلام الإيرانية.

وذكرت الصحيفة والمنصة أن 10 مدنيين، من بينهم رضيع يبلغ من العمر شهرين، قُتلوا في الضربة التي استهدفت “مجمع الأساتذة” في حي “سعادت آباد” بطهران. وتشير شهادات العيان، إلى جانب فيديوهات، وصور الانفجار، والأضرار الهيكلية الناجمة عنه، إلى أن الضربة كانت تعادل في قوتها قنبلة تزن نحو 500 رطل.

واستهدفت إسرائيل عالماً آخر هو محمد رضا صديقي صابر في منزله بطهران خلال الموجة الأولى من الضربات. ولم يكن صديقي صابر موجوداً آنذاك، غير أن الغارة أدّت إلى قتل ابنه البالغ من العمر 17 عاماً.

وفي اليوم الأخير من الصراع، الموافق 24 يونيو، قُتل صابر في منزل أقاربه بمدينة أستانة أشرفية في محافظة جيلان، على بُعد نحو 200 ميل من العاصمة.

تقليص الأضرار الجانبية

وأفاد أحد سكان المنطقة لـ”واشنطن بوست”، شريطة عدم كشف هويته، بأن “صابر كان قد عاد إلى منزل عائلته لحضور مراسم عزاء ابنه، وقُتل هناك مع أقارب آخرين”.

وتحققت الصحيفة الأميركية من قتل 15 مدنياً في هذه الضربة، بينهم 4 قاصرين، حيث سُوي منزلان بالأرض، مخلفين حفرتين عميقتين في مكانهما.

من جانبهم، ذكر مسؤولون أمنيون إسرائيليون أنهم بذلوا قصارى جهدهم للحد من الخسائر البشرية. وصرح ضابط رفيع في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قائلاً: “كان تقليص الأضرار الجانبية قدر الإمكان أحد الاعتبارات الرئيسية عند التخطيط لعملية نارنيا”.

وفي المقابل، قال مسؤول في الجبهة الداخلية الإسرائيلية، إن الضربات الإيرانية أصابت مدارس ومستشفيات ومواقع مدنية أخرى، مما أسفر عن قتل 31 إسرائيلياً. بينما صرح متحدث باسم الحكومة الإيرانية في يوليو، أن 1062 شخصاً قُتلوا في الضربات الإسرائيلية، بينهم 276 مدنياً.

“الأسد الصاعد”

وشنت إسرائيل هجمات ضد إيران تحت عملية “الأسد الصاعد” حيث دمرت الطائرات الحربية والمسيرات الإسرائيلية، بالتعاون مع عملاء داخل إيران، أكثر من نصف منصات إطلاق الصواريخ الباليستية الإيرانية وقضت على ما تبقى من دفاعاتها الجوية. كما أدت الضربات إلى “قطع رأس” القيادة العسكرية الإيرانية والحرس الثوري الإيراني، بحسب “واشنطن بوست”.

وقصفت الطائرات الإسرائيلية محطات الكهرباء وأنظمة التهوية اللازمة لتشغيل أجهزة الطرد المركزي التي تخصب اليورانيوم في “نطنز” و”فوردو”، وهما موقعا التخصيب الرئيسيان في البلاد. وتلا ذلك ضربات هائلة شنتها قاذفات B-2 Spirit الشبحية الأميركية، ووابل من صواريخ “توماهوك”.

وداخل العمق الإيراني، جنّد جهاز “الموساد” أكثر من 100 عميل إيراني، وزوّد بعضهم بـ”سلاح خاص” يتكوّن من 3 أجزاء لتنفيذ ضربات دقيقة ضد أصول عسكرية، وفقاً لمسؤول أمني إسرائيلي رفيع شارك مباشرة في التخطيط.

وأضاف المسؤول أن السلطات الإيرانية استعادت بعض منصات الإطلاق، لكنها لم تعثر على الصواريخ أو المكوّن الثالث السري.

وتلقّى العملاء الإيرانيون تدريباتهم في إسرائيل وأماكن أخرى، من دون إطلاعهم سوى على مهامهم المحددة، أو على النطاق الكامل لما كانت إسرائيل تستعد لتنفيذه.

وذكر المسؤول الإسرائيلي أن “هذه العملية غير مسبوقة في التاريخ.. لقد حشدنا أصولنا وعملاءنا للاقتراب من طهران، وشن العملية البرية حتى قبل أن تدخل القوات الجوية (الإسرائيلية) المجال الجوي الإيراني”.

اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة، في عهد كل من الرئيسين جو بايدن ودونالد ترمب، على أن إيران تعمل على امتلاك سلاح نووي، لكن أجهزة الاستخبارات في البلدين تباينت أحياناً في تقييماتها لما كان يفعله العلماء الإيرانيون ومدى خطورته.

واعتباراً من عام 2023، جمعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA معلومات تشير إلى أن باحثين يعملون في وحدة تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية تُعرف باسم SPND كانوا يستكشفون سبل بناء سلاح نووي بوتيرة أسرع، في حال تراجع المرشد الإيراني علي خامنئي عن فتواه الصادرة عام 2003 المتعلقة بتحريم صناعة الأسلحة الذرية.

ووفقاً لتقييم CIA، كان الإيرانيون يجرون أبحاثاً حول “جهاز نووي بدائي” يمكن إنتاجه خلال نحو 6 أشهر باستخدام مخزوناتهم الحالية من اليورانيوم المخصّب، غير أن هذا الجهاز لا يمكن اختباره مسبقاً أو إطلاقه من مسافات بعيدة عبر صواريخ باليستية، لكنه يظل مدمّراً في حال بنائه واستخدامه.

كما بدا أن الإيرانيين يجرون أبحاثاً حول “أسلحة الاندماج النووي”، وهي نوع أكثر تقدماً وقوة من القنابل النووية.

واتفق محللو الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية على أن القنبلة الاندماجية، رغم كونها مثيرة للقلق، تظل بعيدة عن متناول إيران في الوقت الحالي.

وبعد انسحاب ترمب عام 2018 من الاتفاق الدولي الذي كان يقيد الأنشطة النووية الإيرانية، بدأت طهران إنتاج كميات أكبر بكثير من اليورانيوم المخصب.

ولم تكن CIA ولا “الموساد” تعتقدان أن إيران بدأت فعلياً ببناء قنبلة. لكن بحلول ربيع 2025، لم يعد المحللون الإسرائيليون واثقين من قدرتهم على رصد أي تغيير مفاجئ بشأن تجميع سلاح في الوقت المناسب.

في 12 يونيو، عشية عملية “الأسد الصاعد”، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران انتهكت التزاماتها في مجال منع الانتشار النووي، وهو أول توبيخ من نوعه منذ 20 عاماً.

 الدبلوماسية والتضليل

عندما زار نتنياهو ترمب في بداية ولايته الثانية، كأول زعيم أجنبي يفعل ذلك، عرض عليه 4 رؤى لكيفية تطور الهجوم على إيران، بحسب مصدر مطلع تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته.

وكان الخيار الأول: هجوم إسرائيلي منفرد، والثاني: قيادة إسرائيلية بدعم أميركي محدود، والثالث: تعاون كامل بين الحليفين، والرابع: أن تتولى الولايات المتحدة القيادة.

وبدأت بعدها أشهر من التخطيط الاستراتيجي المكثف والسري. وكان ترمب يريد منح الدبلوماسية فرصة، لكنه واصل تبادل المعلومات والتخطيط العملياتي مع إسرائيل. وقال مصدر مطلع: “كان التفكير أنه إذا فشلت المحادثات، نكون جاهزين”.

واعتقد قادة إسرائيل أن إتاحة فرصة للدبلوماسية أمر مهم للرأي العام العالمي، غير أنهم خشوا أن يوافق ترمب على اتفاق سيئ.

وفي منتصف أبريل، منح ترمب إيران مهلة 60 يوماً للتوصل إلى اتفاق نووي. وانتهت المهلة في 12 يونيو. وتحرك هو ونتنياهو لإبقاء الإيرانيين غير مستعدين لما سيأتي.

في 12 من يونيو، صرح ترمب للصحافيين بأن توجيه ضربة إسرائيلية لإيران “أمر وارد جداً”، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى تفضيله للحل التفاوضي.

وبالتزامن مع ذلك، سرب مسؤولون إسرائيليون أنباء تفيد بأن رون ديرمر، كبير مستشاري نتنياهو، ورئيس الموساد، ديفيد بارنياع، سيلتقيان قريباً بالمبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، كما تم تحديد موعد لجولة جديدة من المحادثات النووية الأميركية الإيرانية، الأحد، 15 يونيو.

إلا أن الحقيقة كانت أن إسرائيل قد حسمت قرارها بالهجوم، وهو ما كانت الولايات المتحدة تعلمه يقيناً، إذ لم تكن الدبلوماسية المقررة سوى “خديعة”، حيث تعمد المسؤولون في كلا البلدين تشجيع التقارير الإعلامية التي تتحدث عن وجود “شرخ” في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية.

وصرح مصدر مطلع: “كل التقارير التي كُتبت عن عدم توافق بيبي (نتنياهو) مع ويتكوف أو ترمب لم تكن صحيحة، لكن كان من الجيد أن يسود هذا الانطباع العام، فقد ساعدنا ذلك على المضي قدماً في التخطيط دون أن يلاحظ الكثيرون”.

وحتى بعد بدء حملة القصف والاغتيالات الإسرائيلية، بذلت إدارة ترمب مسعى دبلوماسياً أخيراً، حيث نقلت سراً اقتراحاً إلى إيران لحل المأزق المتعلق ببرنامجها النووي.

وما لم تكن إيران تدركه هو أن هذه المبادرة كانت فرصتها الأخيرة قبل أن يوافق ترمب على انضمام القوة الضارية الأميركية إلى جانب إسرائيل.

وكانت شروط الصفقة، التي حصلت عليها “واشنطن بوست” ولم يُكشف عنها سابقاً، قاسية للغاية، إذ تضمنت إنهاء طهران دعمها لوكلائها مثل “حزب الله”، و”حماس”، بالإضافة إلى “استبدال” منشأة “فوردو” لتخصيب الوقود وأي “منشأة عاملة أخرى” بمرافق بديلة لا تسمح بالتخصيب.

وفي المقابل، نص الاقتراح المؤرخ في 15 يونيو على أن ترفع الولايات المتحدة “كافة العقوبات المفروضة على إيران”.

ووفقاً لدبلوماسي رفيع شارك في هذه العملية، فإنه بمجرد أن نقلت الولايات المتحدة الاقتراح إلى إيران، رفضته طهران، وعندها أعطى ترمب الضوء الأخضر للضربات الأميركية.

وأشار مسؤولون أميركيون وإسرائيليون ومسؤولون من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن الضرر الذي لحق ببرنامج إيران النووي، وإن لم يكن كاملاً، كان كبيراً، إذ أعاد البرنامج سنوات إلى الوراء، وربما أنهى، في الوقت الحالي، قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم الذي يمكن استخدامه وقوداً لسلاح نووي.

وقال معهد العلوم والأمن الدولي في تقييم صدر في نوفمبر بناءً على صور الأقمار الصناعية: “إجمالاً، كانت الأضرار الناجمة عن الغارات الجوية على العديد من المواقع النووية واسعة النطاق، بل كانت كارثية في حالات كثيرة”.

شاركها.