في منعطف سياسي لافت، تتقدم المحادثات بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) برعاية إقليمية ودولية، في وقت يتصاعد فيه الجدل حول طبيعة هذا المسار ومآلاته، لاسيما بعد التصريحات الأخيرة لقائد “قسد” مظلوم عبدي، والتي تحدث فيها عن وحدة الجيش والدولة، وعودة تدريجية للمؤسسات الحكومية إلى مناطق شمال شرق سوريا، فيما يوحي بمسار سياسي بعيداً عن أي صدام عسكري، فهل سينجح هذا المسار سريعاً؟
عودة المؤسسات.. خطوة تمهيدية أم تكتيك تفاوضي؟
الكاتب والباحث السياسي فراس علاوي يرى، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز، أن ما يجري بين الحكومة السورية و”قسد” هو بمثابة بداية لتحريك الجمود السياسي، لا أكثر، واصفًا الخطوات الأخيرة بأنها “مسار تمهيدي” لتطبيق اتفاق آذار/مارس الماضي الذي تم التوصل إليه في دمشق.
ويقول علاوي: “هناك مؤشرات على تجاوز بعض نقاط الخلاف، وهو ما يسمح بوضع الاتفاق على سكة التنفيذ. لكن ما نشهده ليس توقيعًا نهائيًا، بل بداية مسار تراكمي قد يقود لاحقًا إلى تفاهمات أعمق”.
تصريحات علاوي تلتقي مع ما صرح به مظلوم عبدي، الذي أكد أن “الإدارة الذاتية” ستبدأ خلال العام الجاري بتطبيق بنود اتفاق 10 آذار، مع إدخال وزارات خدمية سورية إلى الرقة ودير الزور والحسكة، في خطوة قال إنها جزء من “خريطة طريق متفق عليها”.
التدرج في السيادة.. هل تسلم قسد الرقة ودير الزور بالكامل؟
يرى علاوي أن السيطرة الحكومية على مناطق شرق الفرات ستكون تدريجية، مشيرًا إلى أن الحكومة بدأت بدفع وزارات غير سيادية، كالكهرباء والطاقة، إلى تلك المناطق، كمرحلة أولى.
ويضيف: “بسط الحكومة سيطرتها على الجغرافيا سيتم على مراحل، ولن يكون تسليمًا مباشرًا أو كاملاً في المدى القريب”.
هذا الرأي يتقاطع مع ما أعلنه عبدي الذي قال إن الاتفاق ينص على استعادة الدولة لمؤسساتها تدريجيًا، مؤكدًا أن “لا نية لتقويض وحدة سوريا، أو إقامة أي كيان مستقل عن الحكومة المركزية”.
اندماج مع الجيش أم احتفاظ بالهيكلية؟.. عقدة الاندماج العسكري
تبقى إحدى القضايا الشائكة هي مسألة دمج “قسد” ضمن بنية الجيش السوري، وهنا يشير علاوي إلى أن “قسد تطالب بالاحتفاظ ببنيتها العسكرية ككتلة واحدة داخل القوات المسلحة السورية”، في حين ترفض دمشق هذا الطرح.
ويضيف: “الحكومة ترفض منح قسد وضعًا مميزًا، سواء على المستوى العسكري أو الإداري، وهو ما يشكل عقبة حقيقية أمام التوصل إلى اتفاق شامل”.
وكان عبدي قد أكد في تصريحاته التزامه بمبدأ “جيش واحد، علم واحد”، لكنه لم يوضح تفاصيل شكل الدمج العسكري، في وقت تشير مصادر مطلعة إلى أن ملف القيادة والسيطرة يبقى موضع تفاوض شائك.
التمهيد السياسي.. من يناير إلى اتفاق آذار
منذ مطلع عام 2025، بدأت جلسات تفاوض مباشرة بين دمشق وقيادة “قسد” في العاصمة، تلتها محادثات أكثر عمقًا في باريس مؤخراً، وكانت المحادثات أسفرت في العاشر من مارس عن توقيع اتفاق سياسي وصف بـ”التاريخي”، شمل بنودًا تتعلق بدمج مؤسسات “الإدارة الذاتية” المدنية والعسكرية في بنية الدولة السورية، وتسليم المعابر والحقول النفطية والإدارات المحلية إلى الحكومة المركزية قبل نهاية العام.
ورغم الطابع الرمزي للاتفاق، إلا أن البنود التفصيلية لم تُعلن بشكل رسمي، ما أبقى المشهد عرضة للتأويل السياسي من مختلف الأطراف.
وفي ظل غياب الحلول العسكرية المجدية، يعتقد علاوي أن هناك إرادة دولية لا سيما من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتجنب أي تصعيد جديد، والعمل على دعم اتفاق يضمن التهدئة بين دمشق وقسد.
ويؤكد: “التجربة في جنوب سوريا أظهرت أن التصعيد لا يفضي إلى نتائج مرضية، وبالتالي فإن الدول المعنية باتت تميل إلى دعم اتفاق سياسي يحول دون أي مواجهة عسكرية لا تفيد أحدًا”.
ووافقت واشنطن وفرنسا والاتحاد الأوروبي على الاتفاق باعتباره مخرجًا لأزمة تنظيم داعش سابقًا، وسيسهل انسحاب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا دون ترك فراغ أمني خطير. ويُنظر إلى الاتفاق كخطوة تمهيدية نحو استقرار سياسي أوسع في البلاد.
الحضور السعودي في المفاوضات.. من التسهيل إلى الوساطة؟
وفيما يتعلق بالدور الإقليمي، يشير علاوي إلى أن السعودية حاضرة بقوة في الملف السوري، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويقول: “الدور السعودي كان محوريًا في الدفع نحو هذا التقدم في المفاوضات مع قسد. ويبدو أن الرياض لا تكتفي بهذا، بل تسعى إلى إشراك قوى دولية أخرى لديها تأثير في الملف السوري، بهدف تسريع مسار الحل وإنهاء الملفات العالقة”.
وقد تحدث مظلوم عبدي صراحة عن وساطة سعودية محتملة، معتبرًا أن الرياض قد تلعب دور الضامن في مرحلة ما بعد الاتفاق، لا سيما فيما يتعلق بإعادة الإعمار وتثبيت الاستقرار في المناطق التي تشملها التسوية.
الغموض يلف خارطة الطريق
ورغم هذا الزخم السياسي، يلف الغموض تفاصيل خارطة الطريق المتفق عليها. ويرى علاوي أنه: “لا توجد تواريخ دقيقة أو جدول زمني واضح، لكن الاتفاق حين وُقع تم الحديث عن فترة تمتد لتسعة أشهر، ما يعني أن نهاية العام قد تشهد انفراجًا فعليًا، في حال لم تعرقل مسار الاندماج خلافات جديدة”.
واختتم علاوي حديثه بالإشارة إلى المعضلة الجوهرية التي لا تزال تقف في طريق التوصل إلى اتفاق نهائي، قائلاً: “السؤال الأساسي هو: هل ستقبل قسد بحل نفسها بالكامل؟ وهل سيكون دمجها داخل مؤسسات الدولة السورية على مستوى الأفراد أم المؤسسات؟ هذه الأسئلة لم تُحسم بعد، وهي على الأرجح ستبقى محل تفاوض خلال المرحلة المقبلة”.
تحديات إضافية تعترض طريق الاتفاق
إلى جانب الخلافات بين دمشق و”قسد”، تعاني الأخيرة من انقسامات داخلية في الرؤية والقيادة. فبينما يدفع مظلوم عبدي باتجاه تسوية شاملة، تعارض شخصيات أخرى ضمن “الإدارة الذاتية” فكرة تسليم السلطة بالكامل، وتحديدًا جناح إلهام أحمد وبعض قيادات وحدات حماية الشعب المرتبطين بحزب العمال الكردستاني (PKK).
هذا التداخل بين البعد السوري والكردي الإقليمي يزيد من تعقيد التفاوض، في وقت يشترط فيه الجانب التركي خروج كافة العناصر غير السورية من أي اتفاق مستقبلي، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، وفقًا لمصادر دبلوماسية مطلعة.
في المحصلة، يقف الملف السوري الكردي على مفترق طرق حاسم، بين مسار تسوية مدعوم دولياً بعيداً عن أي موجة عنف وقتال، وبين احتمال بقاء الأمور على حالها ضمن مناورات سياسية بانتظار نضج التسويات الكبرى إقليميًا ودوليًا.
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية