31 ديسمبر 2025Last Update :

صدى الإعلام – من انهيار الدولة إلى هشاشة الانتقال، لم تعد عودة تنظيم “داعش” إلى المشهد السوري تُقرأ باعتبارها مجرد استعادة نشاط أمني لتنظيم مهزوم، بل باتت تُفهم في سياق أوسع يتعلق بهشاشة المرحلة الانتقالية نفسها، وبالفراغات التي خلّفها انهيار الدولة القديمة قبل أن تتشكل الدولة الجديدة فعلياً.

فالتنظيم، الذي خسر جغرافيته وسلطته قبل سنوات، لم يخسر منطقه في العمل، ولا قدرته على التكيف مع البيئات المتصدعة، بل أعاد التموضع بهدوء داخل شقوق المشهد السوري الجديد.

في هذا السياق، لا تظهر عودة “داعش” بوصفها مفاجأة، بل كنتيجة منطقية لمسار طويل من التفكك المؤسسي، والارتباك الأمني، والتنافس بين القوى المحلية، وتردد الفاعلين الدوليين في الاستثمار الجدي في بناء استقرار مستدام. فكما وُلد التنظيم أصلاً من رحم الفوضى، يعود اليوم إليها بعد أن تغيّرت الوجوه وبقيت البنية الهشة ذاتها.

الأخطر في هذه العودة ليس عدد العمليات ولا اتساع رقعتها الجغرافية، بل ما تعكسه من قدرة التنظيم على قراءة التحولات السياسية واستغلال لحظات الانتقال والارتباك، ليس فقط داخل سوريا، بل على مستوى الإقليم والنظام الدولي الذي لم يحسم بعد موقع سوريا الجديدة في توازناته، ولا طبيعة الشراكة المطلوبة لحمايتها من إعادة إنتاج التطرف.

داعش الجديد: تنظيم بلا أرض لكنه ليس بلا أثر

ما حدث في سوريا بعد سقوط النظام لم يكن انتقالاً منظماً من دولة إلى دولة، بل كان تفككاً متدرجاً لبنية قديمة لم تُستبدل بعد ببنية صلبة. الأجهزة الأمنية تراجعت، الجيش أعيد تشكيله على عجل، القوى المحلية تشارك السلطة دون أن تتقاسمها فعلياً، والمجتمع المنهك لم يحصل بعد على مكاسب الاستقرار التي وُعد بها.

في هذه المساحة الرمادية، يتحرك تنظيم مثل “داعش” براحة أكبر مما يتحرك في ظل دولة مستقرة أو حرب واضحة المعالم.

لم يعد التنظيم يبحث عن السيطرة على مدن أو إعلان “خلافة”، بل عن إدارة توتر دائم منخفض الحدة، يكفي لإرباك السلطة، واستنزافها، ومنعها من التحول إلى دولة كاملة الوظائف.

هذا التحول في السلوك يعكس فهماً عميقاً لطبيعة اللحظة: مرحلة انتقالية طويلة، موارد محدودة، شرعية سياسية غير مكتملة، وحاجة ملحة للأمن تفوق قدرة المؤسسات الناشئة على توفيره.

ومن هنا فإن نشاط “داعش” الحالي لا يهدف إلى إسقاط النظام الجديد، ولا إلى احتلال الأرض، بل إلى منع الاستقرار من أن يكتمل.

وتشير تقارير إلى أن كل عملية، مهما بدت محدودة، تؤدي وظيفة سياسية غير مباشرة: التشكيك في قدرة الدولة، إخافة المجتمع، استدعاء التدخلات الخارجية، وإبقاء سوريا في حالة “نصف دولة” لا تستقر ولا تنهار، وهو الوضع الأمثل لتنظيم يعيش على الفوضى دون أن يتحمل أعباء إدارتها.

البعد الإقليمي والدولي: من ساحة حرب إلى ساحة ارتدادات

لم يعد من الممكن فهم تحركات “داعش” داخل سوريا بمعزل عن التحولات الأوسع في البيئة الإقليمية والدولية. فالتنظيم لم يكن في أي مرحلة كياناً محلياً خالصاً، بل كان دائماً نتاج تفاعل بين هشاشة الداخل وصراعات الخارج، بين انهيار الدولة من جهة، وتوظيف الفوضى في توازنات أكبر من جهة أخرى.

عودته الحالية تأتي في لحظة يعاد فيها ترتيب أولويات القوى الكبرى، وتُخفَّف فيها الالتزامات العسكرية المباشرة، ويُعاد تعريف مفهوم “الاستقرار” من كونه نتيجة لبناء الدولة إلى كونه مجرد إدارة للأزمات.

وقد جعل تراجع الوجود العسكري الغربي، وانشغال الولايات المتحدة بمنافساتها الكبرى، وانكفاء أوروبا نحو أزماتها الداخلية، من سوريا ملفاً ثانوياً في حسابات القرار الدولي. هذا التحول لا يلغي الخطر، بل يجعله أقل إلحاحاً سياسياً، وأكثر قابلية للتجاهل، وهو بالضبط المناخ الذي تحتاجه التنظيمات المتطرفة لإعادة التشكل بعيداً عن الضوء.

في المقابل، تنظر دول الجوار إلى عودة التنظيم بقلق مضاعف، لأن أي خلل داخل سوريا ينعكس فوراً عبر الحدود، سواء عبر موجات نزوح جديدة، أو عبر تسلل خلايا مسلحة، أو عبر إعادة تنشيط شبكات التهريب والسلاح. وهكذا تتحول عودة “داعش” من مشكلة سورية إلى عقدة إقليمية تمس استقرار العراق والأردن وتركيا ولبنان في آن واحد.

المقاتلون الأجانب: خطر مؤجل لا خطر منتهٍ

أحد أخطر أوجه هذه المرحلة هو ملف المقاتلين الأجانب والعائدين، وهو ملف لم يُغلق بل جرى تعليقه. آلاف الأشخاص المرتبطين بالتنظيم ما زالوا في مخيمات وسجون لا تُدار بمنطق إعادة التأهيل ولا بمنطق العدالة ولا بمنطق الحسم. هذا الوضع المعلّق يحوّلهم إلى كتلة كامنة قابلة لإعادة التوظيف في أي لحظة، سواء داخل سوريا أو خارجها.

بالنسبة للدول الأوروبية، لا يُنظر إلى “داعش” كتنظيم بعيد في الصحراء السورية، بل كاحتمال أمني داخل المدن الهشة، وفي شبكات التطرف المحلي، وفي مسارات الهجرة غير النظامية التي يصعب ضبطها بالكامل. وهكذا يصبح التنظيم خطراً استراتيجياً حتى وهو ضعيف عسكرياً، لأن أثره النفسي والسياسي يفوق وزنه الميداني.

السيناريوهات المحتملة: بين الاحتواء والانفجار وتجميد الصراع

إذا استمر المسار الحالي على ما هو عليه، فإن مستقبل حضور تنظيم “داعش” في سوريا لن يتحدد فقط بقدراته الذاتية، بل بطبيعة القرارات التي ستُتخذ حول شكل الدولة، ومستوى الانخراط الدولي، ونمط إدارة الهشاشة القائمة.

السيناريو الأول يتمثل في الاحتواء النسبي، حيث تنجح السلطة الجديدة، بدعم إقليمي ودولي محدود، في تقليص هامش حركة التنظيم عبر تحسين الأداء الأمني، ودمج بعض المناطق المهمشة، وتخفيف الأسباب الاجتماعية التي تسمح بإعادة إنتاج التطرف، دون القضاء عليه نهائياً. في هذا السيناريو يتحول “داعش” إلى تهديد منخفض الشدة لكنه دائم.

السيناريو الثاني هو الانفجار، وهو الأخطر، ويحدث إذا فشلت المؤسسات الانتقالية في ترسيخ شرعيتها، وتفاقمت الانقسامات السياسية والمجتمعية، أو حصل انسحاب دولي سريع يترك فراغاً واسعاً.

في هذه الحالة قد يستعيد التنظيم قدرة أعلى على التجنيد والتمدد، لا بالضرورة عبر السيطرة على الأرض، بل عبر رفع وتيرة العنف بما يكفي لإعادة تدوير الفوضى وإسقاط فكرة الانتقال نفسها.

أما السيناريو الثالث فهو تجميد الصراع، حيث لا ينتصر أحد ولا ينهار أحد، وتبقى سوريا في حالة توتر منخفض مستدام، تُدار فيها الأزمات بدل حلها، ويُحتوى فيها التطرف بدل تفكيكه. وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القصير، والأكثر خطورة على المدى الطويل، لأنه يمنح التنظيم بيئة مستقرة للهشاشة، ويحوّل الاستثناء إلى قاعدة.

المشكلة ليست في داعش بل في البيئة التي تسمح له بالعودة

في النهاية، لا تعكس عودة “داعش” قوة التنظيم بقدر ما تعكس ضعف السياق الذي يتحرك فيه. فالتطرف لا يولد من فراغ، بل من فراغ الدولة، ومن انهيار المعنى، ومن غياب العدالة، ومن الإحساس الجماعي بأن المستقبل مغلق.

وكلما طال هذا الوضع، وكلما استُبدلت سياسات البناء بسياسات الاحتواء، ستبقى التنظيمات المتطرفة قادرة على إعادة إنتاج نفسها بأسماء مختلفة.

شاركها.