عيد السوريين في المغترب –
إبراهيم العلوش
عيد آخر يمر على السوريين وهم بعيدون عن بلدهم في مخيمات اللجوء ومدن الهجرة حول العالم، وحتى في الداخل السوري صارت الغربة عن الوطن أكثر شيوعًا بسبب أحوال البؤس وإجراءات التفتيش والاعتقال وانتشار الميليشيات الأجنبية.
تغيرت حياة السوريين في الأعياد كثيرًا، وتغيرت أطباق الطعام والحلويات وأماكن اللقاء في يوم العيد، وعلى اعتبار أن الأقرباء صاروا متناثرين بين المدن السورية ومخيمات اللجوء ومدن الهجرة متعددة اللغات والظروف، فقد تغير صالون بيت الجدّ والجدّة الذي كان يجمع الأهل والأقارب والمهنئين بالعيد، وصارت مكالمات “واتساب” هي المساحات المتاحة لتبادل الأشواق والذكريات والسؤال عن الأحوال التي لا تسر أحدًا، بدءًا من السوري الجائع في الداخل، مرورًا بالسوري اللاجئ والمهدد دومًا بالطرد وبتحميل وجوده أسباب الفشل المحلي مهما كان نوعه، وصولًا إلى السوري المهاجر الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى إنسان أمّي لا يقرأ ولا يكتب، بعد أن كان خريجًا جامعيًا أو دارسًا يحلم بتراكم المعرفة والتعليم، وصار كل حلمه اليوم أن يتحدث إلى موظف حكومي في البلاد الجديدة دون أن يطلب منه إحضار مترجم يمكن التفاهم معه.
حرصت العائلات على خبز الحلويات التقليدية في العيد إن توفرت موادها وتكاليفها في الداخل أو في مخيم اللجوء، أو في أماكن الهجرة التي تضغط بتراثها وبحلوياتها وتستغرب عدم استساغة المهاجرين حلويات الوطن الجديد.
المحال السورية الجديدة في أوروبا أثبتت جدارتها، خاصة في ألمانيا، واستطاعت أن تنتزع السوريين من هيمنة المطاعم التركية، عبر النكهة السورية والتجمعات العائلية في الأعياد والمناسبات، ولكنها لا تزال تعاني من عدم الاستقرار، إذ يفتح المطعم السوري بشارع العرب في برلين بجودة عالية وبأسعار رخيصة، ولكنه سرعان ما يغيّر النوعية وينفض الزبائن من حوله ويعلن إفلاسه ويبيعه لمستثمر جديد، يعيد نفس الخارطة الحالمة التي تنتهي بالإفلاس في بعض الأحيان.
النساء السوريات فتحن جدران مطابخهن المنزلية وبدأن ببيع الحلويات والأطباق السورية في الأسواق الشعبية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة في الأعياد والمناسبات، بأسعار رخيصة وبجودة ممتازة أو معقولة، ولكن محدودية الانتشار في الأيام العادية وارتفاع الضرائب وكثرة الشروط البيروقراطية الأوروبية تعيد الكثير منهن إلى جمهرة العاطلين عن العمل.
أما الأجيال الجديدة من المهاجرين فلا تزال مطاعم الوجبات السريعة هي ملتقاهم، ولكن مقاطعة بعض المطاعم بسبب حرب غزة أعادتهم إلى التقاليد السورية، ولو على مضض، وإن فضّل بعضهم الارتباط بالأصدقاء المحليين الفرنسيين والألمان، ومشاركتهم الذهاب إلى المطاعم الأوروبية أو المحلية الرخيصة مثل مطاعم البيتزا الإيطالية والتاكوس المغربي، وطبعًا تبقى المطاعم التركية في أوروبا سيدة الموقف في الرخص والجودة ومناسبة الذوق السوري.
وفي تركيا نفسها لا حاجة للحديث عن ذلك، فالمطاعم السورية قاربت الاندماج في الذوق التركي، وإن بقيت محافظة على نكهة وذكرى المطاعم السورية العريقة في حلب ودمشق وحماة، بالإضافة إلى ما يشبه “شعيبيات” أريحا أو حلاوة الجبن الحموية والحمصية.
تباعد المسافات بين السوريين في أوروبا الواسعة، جعل الكثير من العائلات معزولة إلى درجة لا تجد العائلة فيها من يزورها ويتذوق حلوياتها حتى بعد مرور أسبوع على العيد، فسكان القرى الصغيرة يعيشون بعزلة، خاصة أن المواصلات بين المدن شديدة الغلاء، وتضيق البيوت الصغيرة على استقبال واستضافة القادمين من الأماكن البعيدة للمعايدة، وحتى جوامع الأحياء صارت تقوم بصلاة العيد على دفعتين متباعدتين بسبب صغرها، ومن مفاجآت العيد الأوروبي أنه لا توجد عطلة رسمية تتيح مجالًا حرًا للزيارات أو إلغاء المواعيد الرسمية.
رغم ذلك اجتمعنا هذا العيد، سوريون من مدن متعددة، في مطعم صيني مفتوح يذكرنا بمطاعم دمشق في الغوطة لكثرة المساحات والطاولات التي تتجاوز المئة، تبادلنا الحديث والذكريات والمواعيد ونحن ننتقي ما هو أقرب إلى ذوقنا، خاصة أن المطعم الصيني يستدرج العرب والمسلمين، بالتأكيد على أن هذا الطبق حلال، واستبعاد لحم الخنزير من الكثير من أطباقه، بالإضافة إلى الإكثار من أطباق السمك، مع اللعب على مسألة تجربة الأكل الآسيوي، وتجربة الأكل بلا حدود، لأن الطعام المنوع محدود بالزمن فقط، فبعد نحو ساعتين أو ثلاث ينتهي تقديم الطعام وينتهي مفعول رسم الدخول، مع وضع فخ المشروبات التي لا يتضمنها رسم الدخول كنوع من المكر التجاري.
يتفاجأ السوريون بالتغيرات التي تحدث في حياتهم يوم العيد اعتبارًا من تغير ذكرياتهم وصداقاتهم، وصولًا إلى تغير أطباق الحلويات والطعام يوم العيد، وهي تتغير من الشكل التقليدي إلى الحلويات المتاحة من مواد حصة المساعدات في المخيم، إلى هجوم الأطباق والأذواق التي تطوق العائلات في البلاد التي كانت غريبة وصارت موطنهم الجديد، وصار مستقبل أولادهم فيها، وعليهم أن يتقبّلوا مشاركة جيرانهم الأطباق والحلويات في يوم العيد الذي يحمل لهم سيل الذكريات، ويحيي في نفوسهم الأمل، مع نغمة الحزن التي يولدها الحنين إلى الوطن الذي صار بعيدًا.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي