في الخامس والعشرين من فبراير 2006، استيقظ سكان الرياض على كارثة اقتصادية غير مألوفة وغير مفهومة بالنسبة لهم في ذلك الوقت، حين أعلن أن بورصة الأوراق المالية قد انهارت فجأة، مخلفة آلاف الضحايا من المضاربين الذين وقفوا مشدوهين يشاهدون ملايين الريالات وهي تتبخر فجأة، كأنها لم توجد أصلاً.. وكأن ما حدث في بورصة الرياض مقدمة للانهيار الاقتصادي العالمي في 2008، وهي الضربة التي هزت الإيمان بالنظام المالي والاستثماري، وتركت ندوباً وصدمات لم يتعاف منها كثير من الأفراد والمؤسسات والدول حتى الآن.
كوميديا سوداء
“فبراير الأسود”، كما أطلق عليه الإعلام السعودي، هو محور مسلسل كوميدي قصير (10 حلقات) يحمل الاسم نفسه، ويعرض حالياً على منصة “شاهد”.
العمل، الذي كتبه ناصر العزاز وأخرجه عمرو صلاح، وشارك في بطولته ناصر القصبي وعدد من نجوم الدراما السعودية، يتتبع مقدمات ومجريات وتداعيات ما حدث من خلال قصة خيالية، حول نصاب محترف يدعى سعود (القصبي)، يساهم بدور كبير فيما يحدث، من خلال خداع العشرات وإقناعهم بأنه خبير مالي محترف، وتحوله إلى نجم إعلامي ينصح الملايين بكيفية استثمار أموالهم في البورصة.
يبدأ المسلسل في 2004، مع خروج سعود من السجن في قضية نصب، عائداً إلى عائلته التي لا تدري شيئاً عن نشاطه الإجرامي باستثناء زوج أخته (حبيب الحبيب)، ومطارداً من قبل عملاق يدعى بخيت (وحيد عبد الله) تسبب سعود في سجنه وموت زوجته وضياع ابنه.
سرعان ما يواصل سعود نشاطاته الإجرامية، من خلال الاحتيال على سيدة ثرية مسنة (وجنات رهبيني) يتزوج منها ويسرق أموالها، ثم ينتقل إلى سوق الأوراق المالية مديراً تنفيذياً لشركة يملكها بعض أصدقاءه، ثم صاحب شركة وخبير في البورصة!
حمى جماعية
يقال أن النصاب لا يمكنه أن ينجح إلا من خلال طمع وجشع ضحاياه، وهذا بالضبط ما يجسده مسلسل “فبراير الأسود” من خلال رسم صورة بانورامية لمجتمع انتابته حمى الثراء السريع والكسب دون عمل، والكيفية التي تحول بها الناس إلى أسرى لهوس جماعي غير عقلاني.
الرياض بداية القرن الواحد والعشرين، حيث ناطحات السحاب الشاهقة وأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الرقمية الجديدة، وفي الوقت نفسه البيوت التقليدية والعقول القديمة، القادمة من القرن الفائت، نموذج لعواصم ومدن كثيرة حول العالم.
شخصياً أعرف هذه الحالة جيداً، ففي الفترة نفسها تقريباً شاهدت وضعاً مماثلاً في مصر، حيث تحول معظم أصدقائي، فجأة، وبعضهم ليس له علاقة بالبيزنس أو التجارة من قريب أو بعيد، إلى “مضاربين” في البورصة، يقضون جل وقتهم في متابعة البورصات المصرية والعالمية، ويقامرون بكل مدخراتهم في شراء وبيع الأسهم، وبعضهم، مثلما نرى في “فبراير الأسود”، باع كل ما يملك، وانتهى المطاف بمعظمهم، كما في المسلسل، إلى الإفلاس والخراب!
يسير “فبراير الأسود” في خطين متوازيين يلتقيان في الحلقات الأخيرة: الأول هو حكاية سعود وعائلته وضحاياه ومطاردوه: الأم الطيبة الغافلة عن شرور ابنها والتي تؤديها بتلقائية سناء اليونس، الأخ المتزمت (يزيد المخيول) الساذج، والأخت (لولو التميمي) وزوجها، صديق سعود وكاتم أسراره، والخال التاجر البخيل (خالد الفراج) الذي يريد طرد العائلة ليستولي على البيت، وهو أيضا محتال (فاشل) يحاول بيع سيف قديم على أنه سيف عنترة بن شداد، ثم يبيع محله ويتفرغ للبورصة مثل الآخرين.
يتتبع هذا الخط أيضا عمليات الاحتيال التي يقوم بها سعود، وكذلك مطاردات بخيت له، بمساعدة الخال، ثم بمفرده، ثم المؤامرات المتبادلة بينه وشركاءه.
من ناحية ثانية، وحول هذا الخط، يتتبع “فبراير الأسود” بقية الشخصيات في رحلة سقوطها في براثن وهم البورصة: بداية بمعارف وأقارب سعود وحتى الناس العاديين في الشوارع، في أحد المشاهد نجد السوق مغلقاً بالكامل، لأن التجار كلهم أغلقوا تجارتهم وتفرغوا للبورصة، وفي مشهد آخر يسأل عابر بطيخ عابر عن أسعار أسهم شركة الدجاج، والنساء في الأسواق وحتى الشيوخ يعرفون ما تعني مصطلحات مثل “الهامور” (أي المضارب الكبير) و”قرض بضمان المحفظة” و”تصفير المحفظة” وما يعنيه ارتفاع وهبوط نقاط البورصة.
ارتباك الخطوط
المشكلة أن هذين الخطين المتوازيين المشتبكين لا يسيران دائماً بنفس الدرجة من الإيقاع، وكثيرا ما يتلكأ المسلسل عند الخط الأول، فيبدو وكأن العمل لا شاغل له سوى تصوير مغامرات بطله، وأحياناً ينسى الخطوط الموازية، خاصة بالقرب من النهاية، كما يحدث في حكاية “سوسو” التي غدر بها صديق سعود اللدود أبو هشام (بشير الغنيم)، رغم أن العمل خصص وقتاً أطول من اللازم بكثير لقصة القبض على أبو هشام بتهمة شرب وتصنيع الخمور (بعد وشاية سعود به) ثم محاولات سعود لابتزازه حتى يتوسط له لدى السلطات.. وهي قصة مرتبكة كتابةً وايقاعاً أثرت سلباً على تدفق وسرعة الحلقتين الأخيرتين.
هناك بعض القصص الطريفة، مثل قيام أخت مسعود وزوجها بتبني طفل من الملجأ، ليتبين لاحقاً، في مشهد تتعرض فيه حياة مسعود للخطر المحدق، بأن الطفل هو ابن بخيت الذي يهدده بالقتل، ما يجعله يعفو عنه! كذلك قصة بيع الخال لسيف عنترة بن شداد، ومضارب البورصة الغامض ذو النظارة السوداء والسيجار.
براعة ممثلين
“فبراير الأسود” يمتلئ باللحظات الكوميدية، ولكن بقدر ما تكون الكوميديا ممتعة لصناعها ومشاهديها، إلا أنها تصبح عبئاً على الاثنين أحياناً.
وذلك عندما يشعر صناع العمل، خاصة النجوم، أن عليهم إثارة الضحكات في كل مشهد، ولكن محاولتهم المستميتة لإثارة الضحك تجعلهم يتغاضون أو يغفلون أحياناً عن مقومات العمل الجيد الأخرى، مثل احكام الدراما، وضبط الحبكة، ورسم الشخصيات.
من ناحية يبذل نجوم “فبراير الأسود” جهداً كبيراً من أجل استثارة ضحكات وبسمات الجمهور، وينجحون في ذلك معظم الوقت. هناك على سبيل المثال كيمياء خاصة بين القصبي ووجنات رهيبي (تعود إلى سنوات طويلة قديمة جمعتهما في أجزاء “طاش ما طاش”)، وإن كانت تبتر مبكراً بحدث غير مقنع يقوم فيه سعود بانهاء زواجه، دون مقدمات أو أسباب كافية، بأم حمزة.
يبرع الممثلون، خاصة خالد الفراج وحبيب الحبيب وبشير الغنيم ويزيد المجيول في أداء شخصيات متباينة لكل منهم جانبه الكوميدي، وبالطبع يلعب ناصر القصيبي بحضوره المعتاد دور مركز الحركة وصانع الألعاب في هذه الدراما متشعبة الخطوط والشخصيات.
ولكن شخصية المحتال سعود أصغر سناً وأكثر قدرة على التلاعب والخداع من القصيبي ذي الملامح الصارمة والأداء الهادئ، وهذا الفارق في السن والحيوية يحاول القصيبي أن يعوضه بكثير من التلعثم وحركات اليدين وتعبيرات الوجه.. أحيانا تضبط، وأحيانا تخرج عن طبيعة الشخصية وتثقل على المشهد.
احترس من البورصة
فكرة المسلسل مهمة ومشوقة، وقصة النصاب الصغير في مجتمع يعج بالـ”هوامير” تخدم هذه الفكرة جيدا، كما أن تعدد خطوطه يبين كيف يقع مجتمع بالكامل في شراك كذبة وخدعة كبرى، وما الذي يمكن أن يفعله الطمع المقرون بالجهل بمصائر الآلاف والملايين.
ربما كان السيناريو يحتاج إلى تنقيح وإصلاح لبعض المشاكل المتعلقة بالإيقاع وأحكام الربط بين القصص المختلفة، ولكن الممثلين يعوضون هذا النقص بأداءهم اللطيف.
بعد مشاهدة “فبراير الأسود” ستتأكد مرتين قبل أن تخطو بقدميك داخل مبنى البورصة!
*ناقد فني