فرنسا تسعى لترميم علاقاتها في إفريقيا عبر بوابة موريتانيا
سلمت فرنسا معدات عسكرية وإلكترونية للجيش الموريتاني، شملت مركبات قتالية ودراجات نارية وآليات هندسية وصهاريج وقود وعربات ورش إصلاح متنقلة، وذلك دعماً للقوات المسلحة الموريتانية في مواجهة الهجرة غير الشرعية والجريمة العابرة للحدود، إضافة إلى محاربة “الإرهاب” في منطقة الساحل.
وجرى تسليم هذه المعدات خلال زيارة إيمانويل شيفا، المندوب العام المكلف بالتسليح في وزارة الدفاع الفرنسية إلى نواكشوط، حيث أجرى مباحثات مع محمد فال ولد الرايس، قائد الأركان العامة للجيش الموريتاني بشأن سبل تعزيز التعاون الأمني والدفاعي بين البلدين.
ويرى أحمدو ولد امبارك رئيس مركز “ديلول” للدراسات الاستراتيجية، أن هذه المساعدات تندرج ضمن التعاون العسكري بين موريتانيا وفرنسا، في إطار شراكة أوسع مع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وقال ولد امبارك لـ”الشرق”، إن هذه المساعدات تمثل أيضاً ضرورة اقتصادية لموريتانيا، في ظل تزايد المنح المالية التي تلقتها البلاد خلال الفترة الأخيرة.
وأضاف أن نواكشوط تلعب دوراً أساسياً في الجهود الأمنية الرامية إلى منع تدفقات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، وهو ما ينعكس على طبيعة المساعدات العسكرية التي تحصلت عليها، والتي تركز بشكل خاص على دعم قوات البحرية الموريتانية والقوات الخاصة والاستخبارات.
ورغم ذلك، يشير ولد امبارك إلى أن موريتانيا لم تتمكن بعد من فرض أجندتها الخاصة في ما يتعلق بحماية حدودها، إذ لا يزال التركيز الأوروبي منصباً على اعتراض المهاجرين عند محاولتهم العبور إلى أوروبا، بدلاً من تعزيز أمن حدود البلاد نفسها.
تراجع النفوذ الفرنسي
تأتي هذه المساعدات العسكرية في وقت يشهد النفوذ الفرنسي تراجعاً كبيراً في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، حيث كانت تحتفظ بقواعد عسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر إضافة إلى تشاد، إلا أن هذه الدول أعلنت إنهاء التعاون العسكري مع باريس، وإخراج القوات الفرنسية من أراضيها.
في المقابل، بقيت موريتانيا الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم تدخل في مواجهة مباشرة مع فرنسا، أو تنخرط في الهجوم السياسي على باريس.
وسبق للرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني التأكيد على أن بلاده “لا تحمل مشاعر مناهضة لفرنسا، بل هناك سوء تفاهم كما يحدث أحياناً بين الأصدقاء القدامى”، معتبراً أن بعض الشعوب الإفريقية كانت لديها “توقعات مفرطة” تجاه فرنسا.
وعلى عكس العديد من دول الساحل، لم تشهد موريتانيا تصعيداً في الخطاب المناهض لفرنسا، إذ تؤكد الحكومة الموريتانية أن العلاقات بين البلدين تقوم على “الاحترام والصداقة المتبادلة”.
التحالف مع “الناتو”
في الوقت الذي عززت فيه موريتانيا تعاونها العسكري مع فرنسا و”الناتو”، اتجهت دول الساحل الأخرى إلى توطيد علاقاتها العسكرية مع روسيا، التي باتت لاعباً رئيسياً في المنطقة.
وأعلن حلف “الناتو” تقديم حزمة مساعدات عسكرية لموريتانيا، شملت طائرات مسيّرة وأسلحة متطورة، ما يشير إلى اتجاه الحكومة الموريتانية نحو المعسكر الغربي.
وفي هذا السياق، قال الخبير في الشؤون الإفريقية ممادو صو، لـ”الشرق”، إن التعاون العسكري بين موريتانيا وفرنسا “لن يؤثر سلباً” على علاقات نواكشوط مع دول الجوار، مشيراً إلى أن “مصلحة الدولة تظل فوق كل اعتبار”.
والدول التي قطعت علاقاتها العسكرية مع فرنسا، مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، اتجهت نحو التعاون مع روسيا.
وأضاف صو أن من حق موريتانيا تعزيز علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع مختلف الدول، وأنه لا مانع من قبول المساعدة العسكرية الفرنسية، خاصة في ظل حالة الاستقطاب الحاد الذي تشهده المنطقة.
وتابع أن “التوتر الأمني في منطقة الساحل يمنح نواكشوط مبرراً منطقياً للاستفادة من أي دعم يعزز قدراتها الدفاعية”.
تحولات استراتيجية
يثير انتشار عناصر مجموعة “فاجنر” الروسية العسكرية الخاصة، والتي استعانت بها السلطة الانتقالية في مالي، قلق موريتانيا، خاصة مع تزايد وجودهم بالقرب من حدودها.
وتتعامل نواكشوط مع هذا الانتشار بحذر، في ظل تقارير عن توغلات تنفذها المجموعة العسكرية الخاصة داخل القرى الواقعة في الأراضي الموريتانية، ما يزيد من التوتر الأمني في المنطقة.
وقال رئيس مركز “ديلول” للدراسات الاستراتيجية أحمدو ولد امبارك، إن المنطقة تشهد تغيرات متسارعة، من بينها تحركات “الفيلق الإفريقي” المرتبط بروسيا.
من جهته، يستبعد صو أن يشكل تسليح موريتانيا تهديداً للجوار، معتبراً أن جيشها “لا يتسلح للاعتداء على أي دولة، بل لحماية سيادة البلاد وتعزيز أمنها”.
وأشار إلى أن هذا التعاون “لا يشكل عبئاً سياسياً على موريتانيا، بل يحمل فوائد إيجابية في ظل التنافس بين القوى الكبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة، وهو ما قد يدفع فرنسا للحفاظ على وجودها في نواكشوط، وعدم تكرار سيناريو الانسحاب من دول أخرى في المنطقة”.
واعتبر أن إنهاء التعاون العسكري بين فرنسا وكل من مالي والنيجر والسنغال “قد ينعكس سلباً على علاقاتها بالقارة الإفريقية”، ما يجعل الحفاظ على الشراكة مع موريتانيا “أولوية استراتيجية” لباريس.
وفي هذا السياق، أكد ولد امبارك أن موريتانيا، بحكم موقعها الاستراتيجي، “تواجه مخاطر الانجرار إلى صراع النفوذ بين القوى الكبرى”، لافتاً إلى أن البلاد بحاجة إلى “استراتيجية متوازنة تحمي مصالحها الوطنية بعيداً عن الحسابات الدولية”.
ملء الفراغ
مع تصاعد النفوذ الروسي في منطقة الساحل وتراجع الحضور الفرنسي، يبرز تساؤل بشأن ما إذا كانت موريتانيا قادرة على ملء الفراغ الناتج عن انسحاب باريس من عدة دول إفريقية.
ولا يتوقع الخبير في الشأن الإفريقي ممادو صو أن تحل موريتانيا محل الدول التي أنهت تعاونها العسكري مع فرنسا، موضحاً أنها كانت “جزءاً من المنظومة العسكرية التي جمعتها بباريس ودول الساحل، لكنها لا تملك القدرة على تعويض النفوذ الفرنسي المفقود في المنطقة”.
وأضاف أن فرنسا “لم تكن تعتمد فقط على الشراكات العسكرية، بل كانت تستفيد من علاقاتها في منطقة الساحل والسنغال عبر مجالات متعددة، وهو ما يجعل رهانها على موريتانيا ضرورياً للحفاظ على حضورها الإقليمي”.
وتابع: “خروج فرنسا من إفريقيا سيضعفها اقتصادياً وسياسياً، لذلك فإن استمرار تعاونها مع موريتانيا أصبح مسألة حيوية بالنسبة لها”.