اخر الاخبار

فرنسا تطرق بوابة سوريا البحرية.. استثمار لوجستي أم تموضع؟

يمثل الاتفاق الذي وقعته الحكومة السورية مؤخراً مع مجموعة الشحن والخدمات اللوجستية الفرنسية CMA CGM لتطوير وتشغيل محطة الحاويات في ميناء اللاذقية، اختباراً لقدرة “سوريا الجديدة” على اجتذاب استثمارات أجنبية مباشرة في ظل القيود المفروضة والعقوبات الغربية، إضافة إلى قدرتها على المنافسة مع الموانئ التجارية الكبرى الأخرى في المنطقة.

وقالت الحكومة السورية إن الاتفاق، الذي وُقع في فبراير الماضي ومدته 30 عاماً، يهدف إلى تحديث البنية التحتية لمرفأ اللاذقية على ساحل البحر المتوسط ورفع قدرته التشغيلية ضمن استراتيجية أوسع لإعادة تأهيل المرافئ التجارية في البلاد، بعد أكثر من عقد من التراجع الاقتصادي والعزلة الدولية.

وأوضح مدير ميناء اللاذقية أحمد مصطفى، أن الاتفاق الذي وقّع الخميس الماضي في قصر الشعب بدمشق بحضور الرئيس السوري أحمد الشرع، يتضمن ضخ استثمارات مباشرة بقيمة 30 مليون يورو في السنة الأولى، تليها استثمارات إضافية تصل إلى 200 مليون يورو خلال السنوات الأربع التالية.

وأضاف مصطفى أن الاتفاق يتضمن “إنشاء رصيف بحري جديد بطول 1.5 كيلومتر وعمق 17 متراً، ما سيمكن الميناء من استقبال السفن العملاقة التي لم يكن بالإمكان رسوها سابقاً”.

ولمرفأ اللاذقية أهمية اقتصادية وتاريخية كبيرة في سوريا، فهو من أقدم مرافئها التي تأسست على شاطئ البحر المتوسط، ويمثل أحد أهم الفروع الرئيسية للحياة الاقتصادية في المدينة، كما يتم عن طريقه استيراد وتصدير معظم حاجات البلاد غير النفطية.

أما CMA CGM فتعتبر من كبرى شركات الشحن البحري في العالم، ويقع مقرها الرئيسي في مارسيليا الفرنسية، وتعمل في مجالات النقل البحري والخدمات اللوجستية، كما تدير العديد من محطات الحاويات الدولية.

ما الذي تغيّر؟

يمثل العقد أول، شراكة استراتيجية معلنة بين الحكومة السورية وشركة دولية كبرى، منذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في ديسمبر الماضي.

لكن هذه ليست المرة الأولى التي تُشغّل فيها شركة CMA CGM الفرنسية محطة الحاويات في اللاذقية، فقد سبق لها العمل فيه بموجب عقد تم توقيعه عام 2009 ضمن شركة محطة حاويات اللاذقية الدولية (LIST) التي أنشئت بشراكة مع شركة “سوريا القابضة”، التي كان يديرها آنذاك رجل الأعمال طريف الأخرس.

والتزم العقد السابق، باستثمارات لا تتجاوز 50 مليون دولار على مدار 10 سنوات، وتضمن تنفيذ أعمال الصيانة وإعادة تأهيل البنية التحتية للمرفأ.

وفي فبراير الماضي، أعلنت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية التوصل إلى اتفاق جديد مع شركة CMA CGM يتضمن تشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية، موضحة في بيانها أنه “تم الاتفاق على تصفية الذمم السابقة المترتبة على الطرفين خلال العقد الماضي، وإبرام عقد جديد لتشغيل المحطة وفق شروط وآليات جديدة”.

وأكد الدكتور عدنان حاج عمر، مدير عام الموانئ السورية لـ”الشرق”، أن الاتفاق الجديد مع مجموعة CMA CGM يمثل “تحولاً نوعياً واستراتيجياً في إدارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية”، معتبراً أن الاتفاق “ليس مجرد عقد تشغيل بل رؤية تنموية متكاملة لتحديث بنية المرافئ السورية”، واصفاً له بأنه “تصحيح حقيقي لمسار استثماري لم يكن عادلاً أو ناضجاً بما فيه الكفاية عام 2009”.

وعن الفارق الجوهري بين العقد الحالي وسابقه، أوضح حاج عمر أن “البيئة التي وُقّع فيها عقد 2009، لم تكن توفر أي شروط استثمارية مستقرة، وكان هناك غياباً للحوكمة والشفافية، ناهيك عن الظروف الأمنية والسياسية التي عصفت بسوريا لاحقاً”.

وأضاف: “أما اليوم، نحن أمام شراكة قائمة على نموذج استثماري حديث، يرتكز إلى إدارة احترافية، وضخ مباشر لرؤوس الأموال، ونقل تكنولوجيا تشغيل متطورة تُعتمد في أهم موانئ العالم”.

وأوضح مدير عام الموانئ السورية أن استثمارات مجموعة CMA CGM “ستُوظف لتطوير وتجديد البنية التحتية والفوقية لمرفأ اللاذقية، إلى جانب صيانة وتأهيل الأرصفة، واستبدال أو تحديث المعدات الحالية، بما يتوافق مع المعايير العالمية، وهو من شأنه رفع كفاءة إدارة الحاويات، وتسريع عمليات المناولة، وتحسين القدرة التنافسية للمرفأ على مستوى الإقليم”.

أرباح تصل إلى 70%

وشدد حاج عمر على أن العقد يتضمن “صيغة ربح عادلة وشفافة”، إذ تبدأ الدولة بحصة تدريجية من الأرباح ترتفع كلما زاد عدد الحاويات المناولة، لتصل إلى 70% من صافي الأرباح مقابل 30% للشركة.

وقال: “الرقم ليس تجميلياً، بل إلزامياً، ويُحتسب بعد خصم التكاليف التي تتحملها الشركة بالكامل. هذا يضمن للدولة حصة صافية دون أعباء تشغيلية”.

وعن الأثر الاستراتيجي للمشروع، أشار حاج عمر إلى أن تطوير مرفأ اللاذقية يهدف إلى “تغيير موقع سوريا اللوجستي على خارطة المنطقة من خلال تحويل المرفأ إلى مركز إقليمي للترانزيت يربط شرق المتوسط بدول الجوار مثل العراق والأردن، خاصة مع تحسين الكفاءة التشغيلية واستقدام خطوط ملاحية جديدة”.

وفي رده على مصير البنية التحتية والمعدات، بعد انتهاء مدة العقد المقررة في 2055، أوضح مدير عام الموانئ السورية أن “جميع المنشآت والمعدات التي تدخلها CMA CGM خلال فترة الاستثمار ستؤول ملكيتها بالكامل إلى الدولة السورية دون أي كلفة إضافية، وهو شرط منصوص عليه بوضوح في الاتفاق”.

وأضاف حاج عمر: “نحن لا نبيع أصولاً ولا نمنح امتيازات دائمة، بل ندير المرافئ بأدوات حديثة، ونستعيدها بأداء أفضل”، مشيراً إلى أن الاتفاق يندرج ضمن أحكام قانون الاستثمار السوري، ويخضع في حال النزاعات لتحكيم غرفة التجارة الدولية في لندن “ما يعزز الثقة الدولية بالمشروع ويوفر غطاء قانونياً متوازناً”.

وأردف قائلاً: “السيادة السورية محفوظة بالكامل، والدولة تحتفظ بحق التقييم والرقابة الكاملة على الأداء”.

“تفاؤل حذر” 

ويتابع محللون اقتصاديون الاتفاق بتفاؤل حذر مشيرين إلى أن العوائد التي تبدو مثالية من الناحية الفنية “تُخفي في طياتها أبعاداً سياسية واقتصادية معقدة”.

وذكر الباحث الاقتصادي أسامة قاضي في حديث لـ”الشرق”، أن الاتفاق الجديد “يحمل طابعاً إصلاحياً مقارنة بالعقود السابقة التي افتقرت إلى الشفافية والمسؤولية”، لكنه حذر من الإفراط في التفاؤل بشأن العوائد المتوقعة منه في ظل استمرار العقوبات الغربية، وعدم اعتراف أطراف دولية كبرى بالحكومة السورية الوليدة.

وأضاف قاضي: “يفترض في حال تم تشغيل مرفأ اللاذقية بكامل طاقته ودمجه في الشبكة الملاحية العالمية للشركة الفرنسية، أن تصل عوائده السنوية إلى ما بين 700 و800 مليون دولار، أغلبها من رسوم الحاويات وخدمات التخزين والمناولة، استناداً إلى عمليات CMA CGM التي تشمل أكثر من 624 سفينة و150 خطاً ملاحياً دولياً”.

لكنه شدد على أن هذه الأرقام تظل “افتراضية بحتة” ما لم يتحقق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والانفتاح المالي الدولي الذي يسمح بتمويل الصفقات وعبور السفن بحرية دون اعتراضات قانونية أو مصرفية.

أبعاد عسكرية واستخباراتية خفية

من جهته، يعتقد المحلل الاقتصادي السوري يونس الكريم، أن الاتفاق “وإن بدا على الورق عقد تشغيل واستثمار، فإنه أقرب إلى وعد بالتعاقد أو تفاهم أولي لا يرقى بعد إلى التنفيذ الكامل”، معتبراً أنه “يكشف عن تشابك معقد للمصالح الجيوسياسية والاقتصادية في شرق المتوسط”.

وأكد الكريم لـ”الشرق”، أن ميناء اللاذقية “يكتسب أهمية اقتصادية حيوية، خصوصاً في ضوء تعثر مرفأ بيروت، بعد الانفجار الذي شهده عام 2020، وإلغاء التعاقد مع شركة روسية لإدارة مرفأ طرطوس خلال يناير الماضي”.

 وأضاف: “حال أُطلق مشروع إعادة إعمار سوريا بشكل فعلي، فإن ميناء اللاذقية سيكون منفذاً استراتيجياً لا غنى عنه”، مشيراً إلى أن الشركات الغربية، مثل CMA CGM، تسابق الزمن لتأمين موطئ قدم مبكر قبل توزيع الحصص.

ورغم الطابع التجاري، يرى الكريم أن للصفقة بُعداً عسكرياً واستخباراتياً لا يمكن تجاهله، فميناء اللاذقية “يشكل نقطة مراقبة استراتيجية للوجود الروسي في المياه الدافئة، ويتيح لفرنسا، بشكل غير معلن، تحييد النفوذ الروسي تدريجياً في هذا الشريط الساحلي الحساس”.

وأضاف: “فرنسا تنظر إلى مرفأ اللاذقية كبوابة استراتيجية لتعزيز نفوذها في شرق المتوسط، ليس فقط لمراقبة تحركات القوى الإقليمية، بل أيضاً لمحاصرة خطوط الدعم التي يُعتقد أن كوريا الشمالية كانت تمررها سابقاً عبر الساحل السوري لصالح برامج تسليح إيرانية”.

ويرى الكريم، إضافة إلى دوافعها الأمنية، أن فرنسا تسعى عبر هذا الاتفاق إلى توجيه رسالة سياسية واضحة إلى الحكومة السورية الجديدة، مفادها: “مستعدون للدخول كشريك اقتصادي، لكن ضمن شروط أوروبية تضمن تحجيم نفوذ روسيا وتركيا، وفتح الباب تدريجياً لمرحلة ما بعد بشار الأسد”.

 واقع معقد

وقال الكريم إن الاتفاق مع CMA CGM قد يُجهض فرصاً بديلة كانت مطروحة على الطاولة، مشيراً إلى أن شروط الشركة الفرنسية كانت “أكثر تشدداً مقارنة بعروض أخرى”.

وأضاف: “لقد قوضنا فرص جذب مستثمرين آخرين بشروط أكثر مرونة، كما أننا سلّمنا ورقة ضغط مهمة في ملف التمويل الدولي، إذ لم تعد الدولة تسيطر على ممراتها التجارية، وهو عنصر حيوي في أي مفاوضات اقتصادية مستقبلية”.

ويشكك الباحث الاقتصادي في إمكانية تحويل ميناء اللاذقية إلى مركز إقليمي للترانزيت على المدى القريب، قائلاً: “هذه الفكرة جميلة على الورق، لكنها تصطدم بواقع معقد للغاية، يتمثل في عدم استقرار الوضع الأمني، وغياب الاعتراف الدولي الواسع بالحكومة الجديدة، ووجود قواعد عسكرية متنافسة”.

وقال إن هذه العوامل “تقلل من جدوى الاستثمار الفعلي في الميناء، وخاصة بوجود طبقات معقدة من العقوبات الدولية والصراعات المحلية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *