في بيروت لا يخلو أي أسبوع من افتتاح معرض لفنان لبناني أو عربي أو أجنبي، في صالات الفنون والمراكز الثقافية التي تعج بها المدينة، حيث تتنوّع الأساليب بين المفاهيمي والمابعد حداثي والتجهيز الفني، وبين الأعمال التشكيلية والمتعددة الوسائط وأعمال النحت.

لكن قلة من هذه المعارض تكون مخصّصة لأعمال الحفر والطباعة، وهذا قد يعني أن قلة من الفنانين يمارسون هذه الأسلوب بتقنياته المتعددة.

الاختصاصات الفنية في جامعات لبنان الرسمية والخاصة، تعلّم تقنيات الحفر والطباعة لطلاب الفنون الجميلة كمادة وليس كاختصاص، ما يصعّب التمرّس بهذا الأسلوب. بالإضافة إلى أن تقنيات الحفر والطباعة ليست سهلة، وإتقانها يتطلب ممارسة طويلة، كما يتطلب توفّر مكبس ومكان ومساحة خاصة. 

ولكن وسط هذه الصعوبات أو العقبات التي تواجه محبي الطباعة، تمّ إنشاء مكان في بيروت يجمع كل ما يمكن أن يسهّل تعلّم وإتقان وتنفيذ أعمال حفر وطباعة، بالإضافة إلى التصوير، وهذا المكان هو استوديو بيروت للطباعة. 

تأسس استوديو بيروت للطباعة سنة 2015 على يد طارق مراد، وهو برازيلي من أصل لبناني، بعد سنوات من العمل في مجال التصوير والطباعة. 

كانت البداية في منطقة كليمنصو، ثم انتقل إلى الجميزة المقرّ الحالي، وتحوّل إلى فضاء شامل مفتوح لجميع الأشخاص من مختلف الخلفيات والمستويات، الذين يهتمون باكتشاف وتعلم  وممارسة فنون وتقنيات الطباعة المتنوعة (حفر، أكواتينت، ميزوتينت) والتصوير الفوتوجرافي.

يسعى الاستوديو كي يصبح مرجعاً لتعليم وممارسة تقنيات الطباعة، إذ يقدّم ورش عمل خارج الحرم الجامعي، حيث يمكن للطلاب الجامعيين تعلّم هذه الممارسات. كما يركّز على ممارسات الطباعة في لبنان، وتشجيع العاملين في هذا المجال، من خلال توفير مساحة عمل مجهّزة بالاحتياجات الأساسية. 

يعمل الاستديو على تعزيز فن الطباعة من خلال الأنشطة الثقافية والفنية، بالإضافة إلى الورش والدورات في الطباعة والتصوير الفوتوجرافي.”

يقول طارق مراد: “إن الفكرة من وراء الأستوديو هي كسر الفكرة النمطية بأن الفن فقط للوحات الزيت والكانفاس بشكل عام، والتذكير بأن أعظم الفنانين كانت لديهم تجارب عظيمة في الطباعة، مثل رامبرانت وبيكاسو وجوكوماتي وفرويد وديغا ووييليام كامبريدج”.

ولدعم الفنانين اللبنانيين في ظل الأوضاع الصعبة، حصل الأستوديو على تبرّعات من 120 فنان من حول العالم، استخدمت لشراء المواد الخاصة بالحفر والطباعة. كما تمّت إقامة معرض للأعمال المطبوعة، أسهم باستمرار العمل في استوديو بيروت للطباعة.

ويرى طارق أن أهمية الأستوديو “هي وجود مكان واحد يجمع الفنانين ومحبي الطباعة، وضمان استمرار تعلّم التقنيات والأساليب، ونقلها من جيل فني لآخر، وخصوصاً أن كل الأساليب الموحّدة المعتمدة والمعمول بها في الأستوديو مكتوبة وموثّقة ومتوفّرة”. 

يقول فادي ملحم الذي تخّصص في مجال الحفر في سوريا، ويقيم حالياً في لبنان، ويعلّم ويمارس عمله الفني في استوديو بيروت للطباعة، “إنه يحاول مساعدة المهتمين بفن الحفر والطباعة كي يعبروا من عقلية الألوان الزيتية والكانفاس، إلى الحفر والطباعة، الذي يتطلب صبراً وسعة صدر لتقبل مفاجآت الحفر، ولديّ فضول أن أرى حفّارين يرغبون بأعمال فنية من دون التفكير بما يطلبه السوق”.

مبدأ الطباعة

مبدأ الطباعة الفنية يرتكز على أن يكون هناك أكثر من طبعة من كل عمل فني، ولكن كل طبعة هي عمل فني أصلي. كلمة “طبعة” هنا لا تعني أنها نسخة عن عمل أصلي، كل الطبعات أصلية وليست منسوخة عن بعضها. 

التطبيق من رسم وحفر يتم بما يعرف بالـ “كليشيه”. والكليشيه يكون إما لوح زينك أو نحاس ( النقش بالأحماض etching)، أو لوح خشب (woodcut printing) أو حجر (ليثوغرافي lithography ) أو قماش مشدود (طباعة حريرية silk screen).

بعد انتهاء العمل على الكليشيه، وبعد تجارب عدّة للوصول إلى الصيغة النهائية، يبدأ الفنان بالطباعة. وبعد كل طبعة يعيد تنظيف الكليشه وتحبيرها لإنتاج طبعة جديدة.

يحدد الفنان عدد الأعمال التي ينوي طباعتها عن الكليشيه، ويكتب بقلم رصاص على الورقة أسفل العمل رقم النسخة وعدد النسخ النهائية، مثل: 10/25 أي الطبعة العاشرة من أصل 25 طبعة. لكل طبعة من الطبعات قيمة فنية ومادية متساوية بغض النظر عمّا إذا كانت الطبعة الأولى أو الأخيرة، وكلها أصلية. 

النسخات التجريبية التي تم ّترقيمها يتم توقيعها بمصطلح  “artist proof” ولا يتم ترقيمها.

الإقامات الفنية

استديو بيروت للطباعة مساحة مجهزة تتيح للفنانين ولمحبي الطباعة حرية استخدام المكان والمعدّات والأدوات وتنفيذ أعمالهم الخاصة مقابل اشتراك شهري.

كما يفتح باب التقدم لإقامة فنية عن فئتي الطباعة والتصوير للفنانين من شتى المجالات (هندسة، سينما، فنون تشكيلية)، إذ يتعلمون خلال إقامتهم مختلف التقنيات من قبل فنانين لديهم خبرة كافية أو كان لهم مشاركات في إقامات فنية سابقة، ويتقنون الأساليب والمنهجية المعتمدة في الاستوديو. 

تقسم الإقامة إلي قسمين، القسم الأول مدّته ستة أشهر، يتعلم المشاركون خلالها التقنيات، وتخصص الستة أشهر التالية لتطوير المشروعات التي اختاروا العمل عليها مع ضرورة الالتزام  بـالحضور والعمل 40 ساعة شهرياً .

وللمرة الأولى في هذا العام سيتوفر برنامج ماستر كلاس مدعوم من “آفاق”، بحيث يدعو الأستوديو فناناً من الخارج أو فناناً من الأستوديو لتعليم تقنية واحدة خلال ثلاثة أسابيع.

لمحة عن تاريخ الطباعة الفنية

تاريخ الطباعة قديم جداً، ففي القرن الخامس قبل الميلاد، استخدم السومريون والبابليون الأختام لختم الوثائق والسلع، واستخدم الصينيون في القرن الأول ميلادي تقنية الطباعة على القماش لطباعة الزخارف على الأقمشة. 

وفي القرن السادس في الصين، خلال عهد أسرة تانغ ظهرت تقنية الـ block printing  أو الطباعة بواسطة القوالب الخشبية. وبواسطة هذه التقنية، تمّ في الصين عام 868 طباعة أول كتاب “سوترا الماس” ثم تطوير هذه التقنية واختراع الأحرف المتحركة.

 في عام 1440، طوّر يوهانس غوتنبررغ الحروف المعدنية في ألمانيا، ثم انتشرت في أوروبا في القرن السابع عشر، مع تطوّر آلات الطباعة الدوّارة، وأول صحيفة مطبوعة كانت “Relation” في ألمانيا (1605).

وظهرت أنواع أخرى كالطباعة بواسطة النقش المعدني  “Etching” المستقل عن طباعة الكتب والصحف، حيث ركزت على الجانب الفني بدلاً من النشر الجماعي، وبدأت هذه التقنية في القرن الخامس عشر في أوروبا، وتحديداً في ألمانيا، وجاءت بعد انتشار طباعة الكتب، لكنها استوحت تقنياتها من النقش على المعادن، المستخدم في صناعة الدروع والحلي منذ العصور الوسطى

 طوّر الفنانون مثل ألبريشت دورر، تقنيات النقش على المعدن (النحاس أو الزنك)، باستخدام الأحماض أو الخدش بأدوات خاصة لإنشاء رسومات دقيقة، وإنتاج أعمال فنية محدودة النسخ بدقة عالية.

ساهمت في نشر الأعمال الفنية (مثل اللوحات الدينية والخرائط الدقيقة) ومهّدت لظهور تقنيات فنية لاحقة مثل الليثوغرافيا (الطباعة الحجرية) في القرن الثامن عشر، التي اخترعها ألويس سنفلدر في ألمانيا (1796)، وتعتمد على الرسم على الحجر بالحبر الزيتي.

شاركها.