اخر الاخبار

“فن السفر” فلسفياً وازدراء المكان الدائم

الذين لا يسافرون لا يزدهرون ثقافياً، هذا ما يحاول الكاتب البريطاني آلان دو بوتون أن يقوله في كتابه “فن السفر”، الصادر عن دار “التنوير”، ترجمة الحارث النبهان، فالسفر أكان تجربة تنقّل مكاني، أم روحي فلسفي، يجعلنا نكبر.

يرى الكاتب أن الأسفار تجعلنا نكبر فعلاً، وهي مغامرة داخلية لا تتعلق بالتنقّل الجغرافي أو الوسائطي عبر المطارات والقطارات، فالبشر هم نتاج ثقافي معقّد ومتنوّع، وأحياناً غامض ومحيّر، فما هو جميل في ثقافة شخص أو مجتمع، يكون على الجانب الآخر خلافاً لذلك. 

السفر علاجاً للروتين      

  يقدّم مؤلف” دروس الحب” و”عزاءات الفلسفة”، جهداً فلسفياً واجتماعياً وفنياً، عبر فصول متنوّعة تشمل الرحيل، والدوافع، والمَشاهد من حولِنا، والفن وسواه. 

السفر لا بدّ منه، فهو يعني التغيير والتلاقح واكتساب المعارف والعادات، ذلك كلّه بسبب الواقع المُغاير الذي سنصادفه في أسفارنا، كيف ننظر إلى وجودنا، وكيف نعيد اكتشاف العالم عبر نظرة جديدة، تركيزاً على جمال الحياة اليومية. 

يقول الكاتب اليوناني كازنتزاكي “إذا لم نستطع تغيير العالم، فلنغير العيون التي تبصر العالم”.

 نعم، نحن نسافر فيزيائياً في جغرافيا العالم، ولكن نسافر روحياً أيضاً، وهذا هو الأهم، نسافر من خلال عالمنا الداخلي، كما تقول الفلسفة “العالم موجود في رأسك، يمكنك زيارته وقتما تشاء”، ذاك ما يسعى إليه، مَن لا يستطيع أن يسافر بسبب المال أو المرض.

 هكذا، يزور الكاتب آلان دو بوتون جغرافيا لم يرها، ولكن عبر سردية كُتّاب أو فنانين، أو مناقشة قبسات أو لوحات فنية.

يقول “يمكنك السفر إلى أي مكان في العالم من خلال القراءة فقط، السفر لديه رحلة ليست جغرافية فحسب، إنما هي روحية، قد تكون عبر الحلم، السعي، والدهشة، أو عبر الكتب والمعرفة، كما يقول ابن القيم الجوزية “الكتب هي أصدقاء الروح، والسفر أستاذ العقل”.                 

السفر بين الواقع والتوقع

يقول الكاتب بصدد نمطية البشر تفكيراً وتجربة إنسانية، “ليست غريبة عنّا تلك الفكرة القائلة، إن حقيقة السفر غير ما نتوقّع قبل أن نسافر.. إن الواقع يكون دائماً مصدر خيبة، لكن يمكن أن نكون أقرب إلى الصدق وإلى الحقيقة عندما نقول، إن الواقع مختلف عن “التوقّع” بالتأكيد”.

دعوة إلى ممارسة السفر، ضدّ الكليشهات السياحية، طلباً للانفتاح، وضداً من الإنسان المبرمج ذي التوقّعات النمطية. للعقل ميزة ضارة به، وهي إمكانية برمجته كما تشاء الدعايات والإعلانات والأقاويل، يخشى ولا يجازف، يرتهن إلى توقّعات مسبقة عن المجتمعات والبلدان، لكن علاج ذلك يكمن في التجربة العملانية.

 ليس السفر وجهة ومساراً روتينياً في رحلة تقليدية ذهاباً وإياباً، بل هو طريق نحو المعرفة، أكان الرحيل جسدياً أم فكرياً، الترحّل ما بين الصفات والجغرافيا المفاهيمية، كما يقول واحد من أعظم مؤلفي الفانتازيا في العالم، الكاتب البريطاني جي آر  تولكين في عبارة مؤثّرة جداً” لا يَضيع، مَن يُسافر”. 

السفر والأديان والحروب

 يعدّ السفر منظومة إنسانية كاملة، اشتغلت عليها الآداب والفنون، كما استعملتها الأديان، مثل الحجّ، كوسيلة تقوى وتعبّد، ونالت من الحروب والاستعمار قسطاً كبيراً، وها هي الاحتلالات بسبب السفر وتحريك الجيوش، ولكن هذا سفر استعماري لا يمتّ بصلة للسفر المعرفي،

هكذا، تمّ استعمال السفر صانع الحضارات، إلى غايات تتنافى مع حقيقته، بمعنى الهجرات ونقل الخبرات والنباتات والثقافة، أي نقل تربة إلى أخرى.

السفر والفن

يشير عنوان الكتاب “فن السفر” إلى السفر بوصفه فناً أكان  بمعناه المعروف، أم بمعنى فن إدارة الروح تغلباً على الارتهان والدعة.

 إن الفن موجود في حياتنا كلها، مثلما يقول الكاتب أوسكار وايلد “الحياة تقلد الفن”، وعليه يسترشد مؤلف كتاب “عزاءات الفلسفة” بفنانين وكُتّاب من أمثال فلوبير، في رحلته إلى مصر وتعلقه بالبلاد والناس، وقصائد فيرجل وهوراس.

كذلك لوحات بوسان والفنان الهولندي الشهير فان جوخ، الذي بفضل سفره إلى باريس، أصبحت لوحاته مُشرقة بسبب الشمس هناك، وانعدامها في بلده الأصلي هولندا، إذ إن لوحاته الباريسية هي نتاج السفر، ونتاج الشمس الفيزيائية والروحية. 

يذكر الكتاب تجربة السفر المركّبة لدى الشاعر الفرنسي الشهير بودلير، تغلباً على العزلة ومعاناته من الذعر من البيت، وإحساس بالوحدة منذ طفولته،  “لدي إحساس بأنني محكوم علي بحياة العزلة الدائمة”. 

حلم بودلير بالرحيل عن فرنسا إلى مكان كل شيء فيه “نظاماً وجمالاً ورفاهية ومسرّة”، كانت النتيجة موقفاً مزدوجاً من السفر، متهكّماً مما يقوله المسافرون العائدون من أماكن بعيدة: رأينا نجوماً، ورأينا أمواجاً، ورأينا رمالاً أيضاً؛ ولكن كثيراً ما كان الضجر يصيبنا، تماماً مثلما يصيبنا هنا، لكن بودلير ظلّ متعاطفاً مع الرغبة في السفر ومدركاً ما فيه من جاذبية.

يضمّ الكتاب بعض الصور الفوتوغرافية عن عوالم مختلفة، فنحن نسافر أيضاً بسبب تعلقنا بصور المناظر الطبيعية، أو اقتفاء لوقائع روايات ما، أو شغف بلوحات فنان ما، أي أصبح الفن والأدب والطبيعة والمناخ، دعاة للسفر على ضدية المكاتب السياحية الترويجية كسباً للمال. يقول القديس أوغسطينوس: “العالم كتاب، ومن لا يسافر يقرأ صفحة واحدة فقط”.

السفر والمشي فلسفياً

ثمّة ارتباط عضوي ما بين السفر والمشي، إذ ينظر الكاتب دافيد لوبروطون في كتابه “الحياة مشياً” إلى هذا الفعل الأنثروبولوجي القديم، باعتباره ممارسة تأملية فلسفية، تحقيقاً للسعادة ونيلاً للطبيعة بوصفها مصدر الراحة والسكينة، في اتصال مع الحركة البدنية والفكرية.

أما كتاب “فن السفر”، فيعنى بدوافع السفر وغاياته ونتائجه، ولكن كلا الكتابين يشتركان بالنظرة الفلسفية، إلى التغيير وإلى ازدراء المكان الدائم، والمفهوم الدائم والتصوّر الجامد، فالبَركة كما يقول المثل الشعبي في الحركة.

لم يعد الجسم البشري هو  مجرد تفصيل من الأعضاء والأطراف، بل أصبح الجسم جسداً، من ناحية أقسامه وهواجسه، وهكذا يقرأ في سيمائية متكاملة؛ ليست الأرجل تجعل الجسد يتحرّك فحسب، بل أحلامه وهواجسه ورغباته تشترك في ذلك أيضاً.

  يبدأ السفر الحقيقي من الرغبة في التجديد ونيل الدهشة سعياً إلى المكانة الروحية الذاتية، وليس من حركة الأرجل التي ستكون انصياعاً للرغبة تلك. يساعدنا الفن والفلسفة والطبيعية على القيام بذلك، حيث الإنسان هو نتاج ثقافي، وجسده يُنصت، ثم يلبي ثقافته. هذا هو شرط السفر والمشي فلسفياً وروحياً.. سافر وسوف ترى العالم مغايراً.                                            

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *