اخر الاخبار

فيلم Conclave.. عن الظلال التي تسكن المؤسسات الدينية

8 ترشيحات لجوائز الأوسكار التي ينتظرها معشر السينما خلال الأيام المقبلة، نالها الفيلم الأميركي Conclave “اجتماع سري”، أبرزها أفضل فيلم، وأفضل ممثل دور أول لرالف فينيس، وأفضل ممثلة مساعدة لإيزابيلا روسوليني، وأفضل سيناريو مقتبس، بيتر ستروجان عن رواية روبرت هاريس، وأفضل مونتاج، وكلها ترشيحات من العيار الثقيل، إلى جانب جوائز المساهمات الفنية، أفضل تصميم إنتاج، وأفضل ملابس، وأفضل موسيقى.

للمرة الثانية في عامين فقط، يتمكن الألماني إدوارد بيرجر أن يعود إلى لوس أنجلوس عقب فوز فيلمه All Quiet on the Western Front بأوسكار أفضل فيلم أجنبي 2022، وهذه المرة بفيلم ناطق بالإنجليزية، لكنه مفعم بنفس روح المشروع الإنساني الذي بدأه في فيلمه السابق، بعدما قدم نقداً للحرب كنشاط معادٍ للإنسانية، يقدم هنا نقداً للمؤسسات الدينية التي تنشغل بما يتعارض مع جوهر العقائد وأسسها الروحية.

ليس في حاجة للتوثيق

ظواهر التدين، الكهنوت المغلق، وطقوس القداسة الظاهرية والسرية المفعمة بالصمت والنظرات والتشكك في أن كلمة يمكن أن تقود إلى خطيئة أو كشف ستر، هكذا يرسم لنا السيناريو متابعة الإجراءات الخاصة بدفن البابا المتنيح من البداية، ثم عملية استدعاء “الكرادلة”.

الكاردينال، هو أسقف الكنيسة والمسؤول عنها أمام البابا، وهو ثاني أهم منصب في الكاثوليكية بعده، ويشارك في اختياره بالانتخاب من بين مجمع الكرادلة المعينين من قبل الحبر الأعظم.

ما نراه ليس توثيقاً، بل رسم صورة دقيقة التفاصيل تخص التوجه الأساسي للفيلم، فلدينا مؤسسة دينية، أو المؤسسة الدينية الأهم في العالم المسيحي، من حيث عدد الأتباع والنفوذ والسلطة الروحية والمادية، وهي نموذج يصلح للدراسة أكثر من أي نموذج آخر فيما يتعلق بالعلاقة بين ظاهر العقيدة وجوهرها، بل أن اختيار عنوان الفيلم نفسه “اجتماع سري”، وهو ذاته عنوان الرواية المأخوذ عنها، يعكس حجم الرغبة في قراءة النموذج بصورة ناقدة، تعكس التناقض الواضح بين الإيمان وظله الأرضي.

العنوان مجرد وليس معرف، فهو ليس الاجتماع السري -والمقصود اجتماع الكرادلة من أجل انتخاب رأس الكنيسة الجديد عقب وفاة البابا السابق في البداية وتعيين القداسة- حيث يُلقب البابا بالأب المقدس بمجرد انتخابه، ولكننا أمام مجموعة من الاجتماعات السرية التي تدور في أروقة المعتزل الكنسي من أجل اختيار من يعتلي الكرسي الرسولي.

يغوص الفيلم في تفاصيل الأيام الخاصة بالاقتراع على اختيار البابا بعين تنظر إلى طبيعة النفوس وتركيبات الأفكار منذ العشاء الأول قبل مراسم الانتخاب، حيث يبدو الحديث عنصري جداً على لسان الكردينال الإيطالي الذي يمثل الجناح المتشدد والمناهض لليبرالية الكنيسة، حيث يشير باحتقار خفي إلى الكاردينال الأفريقي بتميز لوني واضح، ويتحدث عما جنته الليبرالية من موت اللغة اللاتينية “المقدسة” وشيوع اللغات الأخرى بديلاً عن اللسان المقدس، رغم أن المسيح نفسه كان يتحدث الآرامية، ولكن الحديث عن اللاتينية في الفيلم يأتي كجزء من نقد القداسة المخلوعة على أشخاص وطقوس، وحتى اللغة نفسها من منطلق سياسي وعنصري، وليس ديني “كل منّا يجلس على طاولة مع من يتحدثون نفس لغته”.

تدريجياً يبدأ العداء الكامن بين الكرادلة وبعضهم في الظهور، ويتجلى الصراع الدنيوي الواضح على الكرسي الذي من المفترض أن مكانته الروحية ودوره في تبجيل الإيمان -بعيداً عن أدران الأرض- أكبر من أي هدف دنيوي يهبط بالإرادة الإنسانية إلى أسافل الأفعال كالمكائد والذمم الفاسدة.

يؤطر السيناريو الخصومة بين الكرادلة؛ مما يضع نقاط فوق حروف النقد الواضح لأي مؤسسة دينية ترسخ تحت نير المظاهر والبحث عن نفوذ مطلق، فلدينا الكاردينال الإيطالي المتشدد والآخر المعزول الذي ينكشف سر فساده خلال الاجتماع السري -جلبه لراهبة كانت على علاقة بالكاردينال الأفريقي من أجل وصمه بالخطيئة ثم رشوة عدد من الكرادلة للحصول على أصواتهم خلال الاقتراع- وصولاً إلى الخصومة الأشد التي تنشأ بين الكرادلة وأنفسهم، وعلى رأسهم كبيرة الكهنة لورانس/ فينيس المسؤول عن مراسم الاجتماع السري.

يتشكك لورانس في ادعائهم الإيمان المطلق -فلا إيمان بشري مطلق دون شكوك أو ذنوب- وتدريجياً نجد أن لكل من الكرادلة المرشحين خطيئة خفية أو سر دفين، فالتنزيه والبراءة الكاملة هي صفات فوق بشرية، وهي أزمة وجودية تتفاقم في البيئات المحافظة دينياً دون إعمال لعناصر العقل والتفكر في محدودية الصفات البشرية وابتلائها.

وهكذا يفشل الانتخاب يوماً بعد آخر؛ بسبب اكتشاف سقطات في ماضي الكرادلة المرشحين بقوة.

ظلال مكدسة

بصرياً يبدو الفيلم مكدس بالظلال، غالبية مشاهد الفيلم يكسوها برود أزرق في حجرات الكرادلة والباحات الخارجية، لا ندري تحديداً في أي فصل نحن، لكن الشمس لا تكاد تظهر إلا في النهاية، حتى الهواء نفسه يبدو شحيحاً راكداً، في المشهد الأخير يفتح رئيس الكهنة النافذة لكي يستنشق الهواء لأول مرة بعد رفع الحجب عن النوافذ للمحافظة على سرية الاجتماع الرهيب، بينما غالبية مشاهد قاعات الصلاة وقاعة الانتخاب، تزدحم بالظلال الكثيفة والإضاءة الخافتة، وكأننا أمام نور صامت، موجود لكنه غير مؤثر، ويخفي أكثر مما يرشد.

يتجاوز الفيلم حدود الحديث الضيق عن طقوس اختيار البابا، ففي موعظته الرائعة باليوم الأول ينظر كبير الكهنة إلى مجموع الكرادلة، ويكسر الإيهام المقدس باللغة اللاتينية متحدثاً بالإنجليزية لضمان فهم الجميع، قائلاً إن: “اليقين هو العدو الأول للتسامح”، وهي جملة عابرة للأديان، تطرح أزمة التشدد الديني الذي يلغي الآخر، ويرفضه وينبذه انطلاقاً من يقين كامل يتجاوز حتى الإيمان بأن رحمة الله وسعت كل شيء.

يقول الكاردينال إن: “الإيمان هو شيء حي يسير جنباً إلى جنب مع الشك”، وهي جملة عميقة نرى وقعها على عيون ووجوه الكرادلة بمختلف أجنحتهم التي تمثل أجنحة أي مؤسسة دينية في العصر الحديث، الليبرالية المتفتحة واليمينية المتطرفة في العلاقة مع السماء، والشك المقصود هنا ليس الشك في وجود الله، ولكن الشك في أن الكل لديه طريق إليه وهو وحده الذي لديه الحساب والميزان.

هذا فيلم حساس، مباشر، وقابل للتأويل في الوقت نفسه، يحمل طبقات تحتاج التأني في تلقيه، دون أن يخفي قضيته، بل يؤطرها بشكلٍ فاضح أحياناً حد الخطابة.

يأتي المخرج بالظلال إلى مشاهد كثيرة انطلاقاً من حديث كبير الكهنة “لو كان هناك يقيناً فقط دون شك، فلن يكون هناك أي غموض، وبالتالي لا حاجة إذن للإيمان”، الغموض وخفايا النفوس المترعة بالرغبة في سلطة علوية هو ما كدس الظلال في لقطات الفيلم المموهة بالخفوت، وهو بالمناسبة ليس بعيداً عما تعلنه العقيدة الإسلامية في سياق المسار الإيماني والروحي “واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”، فاختيار لفظ اليقين في السيناريو اختيار ذكي جداً وشديد الدقة، لأن اليقين يختلف عن الإيمان، وفي الآية القرآنية يأتي لفظ ربك وليس الله.

وفي الفيلم يبدو الحديث عن الرب وكأننا أمام أرباب متعددة، فكل كاردينال لديه تصور خاص عن الرب وطبيعة الشكل الذي يريد أن يتحقق به وجوده عبر الكنيسة في مجدها الروحاني المنتظر على يده.

الجناح الليبرالي يبدو منشغلاً بقبول التعددية الدينية في العالم واحترام عقائد الآخرين، بل ومتسامح مع أخطر تحديات الكنسية على وجه الخصوص والأديان على وجه العموم مثل المثلية وتمكين المرأة، خصوصاً مع حساسية وضع المرأة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.

والبعض الآخر يميني حاد لا يرى في الرب سوى جحيمه وبطشه والانتقام من أعداءه الذين يملؤون شوارع أوروبا قادمين من بلاد المآذن والنبي محمد.

يعتبر الخطأ وطلب المغفرة واستكمال المسيرة هي دورة حياة البشر في علاقتهم بالدين منذ خلق آدم. وتاريخ الخلق نفسه وعبرته وسياقاته حاضرة بقوة في اللقطات التي يبرزها المخرج للأسقف والأيقونات الشهيرة التي تزين قاعة الانتخاب، والتي تحولت مع الوقت إلى “رموز مقدسة”، ثمة انتفاء لمجانية عرض الرسوم لمجرد أننا من المفترض معزولون معهم في الفاتيكان، بل هي إشارات لتاريخ علاقة البشر بالسماء، ولكنها كما أشرنا تسكنها الظلال، وكأن غيمة خافتة تسبح فوق المجمع “المقدس”، تطفو فوقه كأنها مجاز واضح لحجم القتامة المقبض الذي يكسو الاجتماع السري.

بالعودة أيضاً إلى العنوان، “اجتماع سري” وليس “الاجتماع السري”، التنكير يفيد التجريد، والتجريد يفيد التعميم، ولا يخص فقط التصويت من أجل اختيار البابا، صفة الاجتماع السري تنطبق على لقاءات الكرادلة السرية سواء المجموعة الليبرالية الراغبة في توحد جبهتهم، في أماكن غير رسمية، وعلى لقاءاتهم الثنائية الغرف المغلقة والخاصة، فالصراع يغلب عليه الجانب الباطني، المخفي، والحديث بالهمس يعكس حجم السرية والرغبة في الحفاظ على أسرار الماضي مخبأة رغم حضورها الواضح.

على مستوى الزمن، يسير الفيلم خطياً بشكلٍ تراكمي من خلال فصول كل منها يحمل رقم يوم الاقتراع “الأول- الثاني- الثالث”، ولكن الماضي حاضر بقوة من خلال المفاجآت التي تتكشف عبر التآمر أو البحث.

يكتشف كبير الكهنة أن الكاردينال الأفريقي كانت لديه خطيئة قبل 30 عاماً، وأنه أنجب من راهبة دون زواج، وأن المنافس له أحضرها كي يفضحه، هكذا تطفو الخطايا كما الظلال المحلقة فوق المشاهد كأنها تخرج منها أو كأن الظلال ليست غموض المستقبل، بل الماضي الداكن للجميع.

معاناة كبير الكهنة

أما أكثر خطوط الفيلم تشكلاً ببطء ومواربة هادئة، هو صعود نجم الكاردينال المكسيكي -كاردينال كنيسة كابول السرية- عبر التصويتات المختلفة، بداية من صوتين وحتى بلوغ القمة واعتلاء الكرسي، يسير هذا الخط دون ضجيج يرافق خط معاناة كبير الكهنة في الحفاظ على دقة الاقتراع ونزاهته، محاولاً هو نفسه التجرد من أغراضه الدنيوية، في ذروة الصراع النفسي يكتب كبير الكهنة اسمه، ويضعه في الوعاء الفضي لفرز الأصوات، فتنفجر القاعة ويدخل إليها النور والدخان. 

هذا الخط يتسرب أمامنا بنعومة ونحن منشغلون بهواجس كبير الكهنة تجاه تولي الكرسي، والتي لا يتمكن من حسمها؛ لأنه مريض بالشك، وخطوط المواجهة مع التيار المتشدد، وفضحية الكاردينال الأفريقي، وفساد الكاردينال الأوروبي الأبيض وصولاً إلى اللحظة التي يفجر فيها انتحاري نفسه على أسوار المجمع ليضع الكل في مواجهة سؤال: هل يمكن مواجهة الإرهاب بالتشدد؟، أم أن أحدهما صنيعة الآخر.

هنا ينهض الكاردينال المكسيكي ليلقي الخطبة التي سوف تتوجه على الكرسي، الكنيسة ليست طقوساً، ولا تمثل الماضي، الكنيسة هي ما هو آت، ولو بدلنا لفظة الكنيسة باسم أي مؤسسة دينية كبرى سوف نجد أن الفيلم يحرر المتلقي من العالم المسيحاني مطلقاً إياه إلى أفق أرحب في تأويل الحكاية من بدايتها.

مونتاجياً يكون الانفجار الذي يحدث على أسوار المعتزل المقدس هو الذي يجلب الضوء إلى السقف المظلل، كأنما هو انشقاق حجاب الهيكل على حسب الرواية المسيحية وقت الصلب، حيث صارت كل الأسرار تحت طائلة الكشف والنور.

البابا يحمل رحماً

أخيراً يتولى رأس المؤسسة الدينية الأكبر إنسان يحمل في داخله رجل وامرأة، كأن هذا ما تحتاجه كل المؤسسات الدينية في العالم، أن يكون على رأسها إنسان يحمل ما بين العقل والرحمة، ويعرف أنه يخدم الرب، وليس الكرسي على حد قول كبير الكهنة.

لا تأتي النهاية انطلاقاً فقط من عملية المراوغة الدرامية التي تصعد بكبير الكهنة للترشح إلى المنصب، ثم وقبل توليه تقوم بتنحيته بمهارة لصالح الكاردينال المكسيكي، بعد أن يلقي خطبة قصيرة عن الموت الذي لا يفرق بين عقائد البشر، والحرب التي تطال الجميع في كل مكان، دون أن تأخذ ديانتهم بعين الاعتبار.

لكن الأسرار لا تنتهي والماضي لا يموت، فالكاردنيال المكسيكي يعاني من مشكلة جندرية فسيولوجية، تجعله على هيئة رجل برحم امرأة، والدلالة واضحة دون تمعن والصوابية السياسية تطل علينا بشكلٍ فاضح وبلا مواربة، ولكنها هنا في موضع يمكن تقبله نسبياً أو على الأقل لا يبدو مقحماً، بل متسق مع كامل التراكم الخاص بكل سياقات النقد المقدم للمؤسسة والاحتفاء المطلوب بالإنسان ككل، واحد دون تفرقة لونية أو جندرية والتأكيد على أن أسئلة الشك وتقبل الآخر ورفض التماهي مع سلطة مطلقة هي فقط التي تملك حق التكليف والحساب، كل هذا هو الأكثر حضوراً بالفيلم، حتى لو تماس بقصد أو بغير قصد مع الشعارات المسيطرة أو صراخ الحركات الصاعدة، والتي نراها تزج بصيغتها المعلبة في كل عمل فني بسبب ودون سبب.

في اللقطة الأخيرة نرى كبير الكهنة، وهو يقف في باحة خضراء صغيرة، بينما الكاميرا تراقبه من الداخل، من خلف بوابة جديدة مفتوحة كأنه تحرر، ومن أسفل قوس حجري ثقيل كأن رأسه صارت مكشوفة للسماء، بينما تعلن ابتسامته عن لحظة نقاء شعوري منتظرة منذ بداية الاجتماع السري، لحظة دون سرية، وربما دون شك. 

* ناقد فني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *