يُلقي فيلم Nino الذي شارك في الدورة الثامنة لمهرجان الجونة، نظرة خاطفة على حياة عادية، ربما لم تُحقق كامل أهدافها، وعلى نفسية رجل معاصر يحاول إعادة ترتيب أموره في أعقاب تحدّ ما. 

الفيلم عُرض لأول مرة في قسم أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي الثامن والسبعين، وهو أول فيلم روائي طويل للكاتبة والمخرجة الفرنسية بولين لوكيس.

فيلم Nino يطرح فكرة إن الحياة أحياناً لا تسير كما حلمنا أو تجرأنا على تخطيطها، لكننا ما زلنا بحاجة إلى عيشها، إنها الحياة الوحيدة التي نملكها، حتى المزايا والامتيازات لا تُفضي بالضرورة إلى الرخاء أو الحظ أو السعادة.

يُحدد المشهد الافتتاحي إيقاع الفيلم بشكل جميل، حيث يتلقى نينو ببساطة تشخيصه الطبي بالسرطان، بينما تعتقد الطبيبة أنه قد أُبلغ به بالفعل، بسبب خطأ إداري، المشهد صادم ومحزن في آنٍ واحد، لكن لوكيس والممثل الكندي ثيودور بيليرين نجحا بطريقة ما في إيجاد حس فكاهة به.

تجميد الحيوانات المنوية

تدور أحداث الفيلم في باريس المعاصرة، ويؤدي بيليرين دور نينو، البالغ من العمر 28 عاماً، والذي يتلقى تشخيصا غير متوقع بسرطان الحلق بعد ذهابه إلى المستشفى بسبب ما ظنه التهاباً مُستمراً في الحلق وإرهاقاً.

ولأنه لا يملك وقتاً ليُضيعه، أُخبر نينو أنه سيُضطر إلى بدء علاج كيميائي وإشعاعي مكثف خلال ثلاثة أيام، وأن هناك احتمالًا أن يُسبب له العلاج العقم، لذا عليه تجميد حيواناته المنوية خلال عطلة نهاية الأسبوع إذا أراد إنجاب أطفال.

بينما تتنقل طبيبة نينو بين الاستفسارات والخطوات التالية، هناك إحساس طاغٍ يتخلل وجه بيليرين، لكن إحدى نقاط القوة العظيمة في هذا الفيلم هي أن أدائه نادراً ما يُظهر المشاعر بصوت عالٍ، في الواقع، فإن الفيلم بأكمله تقريباً مُغطى بوجهه الجاد الذي يرفض السماح لأي شيء بالظهور.

إنه أداء داخلي، وصدمة حقيقية يتم تقديمها بوضوح. بينما تواصل طبيبته حديثها، هناك رتابة وسخافة في الأسئلة التي تُطرح، لا شك أن لها غرضاً طبياً، لكن من السهل فهم سبب عدم اهتمام نينو أو حتى إدراكه للتغيرات الدقيقة التي تطرأ عليه، وتركيزه الأكبر على فرص نجاته وشفائه.

ما زاد الطين بلة، أن نينو فقد مفاتيح شقته، وبواب المبنى لا يُجيب، مما يعني أنه سيضطر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في مكان آخر. قد تؤمن له زيارة والدته (جين باليبار) وجبة ساخنة وسرير مراهقته لينام ليلته.

تصل الكوميديا السوداء إلى ذروتها عندما يزور نينو والدته، عازماً على إخبارها بالخبر، فتقول له: “هل أنت في مرحلة تحول جنسي؟” يكتفي بإخبارها بأنه مكتئب، لكن الكتابة والأداء لا يشككان في مدى رغبته في إخبارها الحقيقة، وهي مجرد واحدة من عدة تفاصيل مؤثرة في الفيلم. نينو ليس أشجع شخص في العالم، لذا لا يستطيع ببساطة إخبار حبيبته السابقة (كاميل رذرفورد) بحالته الصحية وأسبابها.

قد يكون الوقت يمر، والمخاطر كبيرة من دون شك، لكن هذا ليس فيلم إثارة يسابق الزمن، بل يتجول نينو في أرجاء باريس، ويلتقي بأصدقائه، الذين يُفاجئونه بحفلة عيد ميلاده التاسع والعشرين.

شرارة علاقة رومانسية

يحدث التغيير المُلح في حياته وهو لقاءٌ صدفة بصديقته القديمة في المدرسة الثانوية زوي (سالومي ديويلز) التي لا يتذكرها جيداً، فهي تُربي ابناً كأمٍ عزباء، وتتصرف كشخص جدير بالثقة يمكنه أن يصارحها، تشعل صداقتهما المتجددة شرارة علاقة رومانسية، كما أنها تأتي مع بعض المزايا الثمينة التي لا يمكن إفسادها.

يشكل كفاح نينو المستمر لنقل خبره المزلزل إلى أقرب الناس إليه وأحبائهم القلب النابض للفيلم، الذي يصبح احتفالاً بالحب والصداقة واللطف، قد يكون تشخيصه مميتاً، لكن الفيلم يجد فيه أيضاً لمحات من الأمل، لا سيما في لقاء نينو اللطيف واللطيف، وتفاعلاته اللاحقة مع شخصية زوي، وابنها الصغير.

حساسية صادقة 

من خلال سيناريو كتبته بولين لوكيس بالتعاون مع مود أميلين، تُظهر لوكيس خيارات إخراجية مناسبة ومهارة قد لا تكون مبهرة تماماً، ولكنها ليست عادية، يبدو السيناريو شخصياً للغاية منذ البداية، وبالفعل، تلك حقيقة أكدتها المخرجة بأن القصة وُلدت من فقدانها لصديق حقيقي؛ بسبب السرطان في سن مبكرة، وبالتالي، فإن حساسيتها الصادقة واضحة طوال الفيلم، بينما يستكشف نينو العالم من حوله في ضوء حالته.

رغم أن أحداث الفيلم تدور في باريس، لكنها لا تظهر مثل صورة بطاقة بريدية، لوكيس ترى جانباً من باريس لا نراه عادة، خاصة في الأفلام، لا توجد لقطات مبهرة لبرج إيفل أو كاتدرائية نوتردام هنا،  تعجّ الشوارع في الفيلم بشخصيات متنوعة.

بولين لوكيس أُظهرت هذه المدينة التي تتغير باستمرار، كأنها في طور البناء الدائم، جدران يجب هدمها، فجوات يجب ملؤها، ومساحات جديدة يجب خلقها.

قدمت مدينة أكبر منا بكثير، لا تتكيف أبداً مع ما نمر به، فعندما تلقى نينو الخبر، شعر وكأن كل شيء يتوقف فجأة، لكن إيقاع المدينة لا يتوقف، ولا صخبها، يذكره ذلك بأنه مجرد حياة واحدة من بين حياة أخرى، وأن للآخرين مشاكلهم الخاصة، كبيرة كانت أم صغيرة، وأن عليه أن يكمل حياته ويتدبر أمره. لو كان بإمكان نينيو، كان سيقضي تلك الأيام الثلاثة وحيداً، تحت الأغطية، لكن ضياع مفتاح شقته، أجبره على التجول في المدينة حيث لا يمكنه أن يكون وحيداً، أينما ذهب، سيكون هناك دائماً شخص ما على بعد أمتار قليلة – للأفضل أو للأسوأ.

اختارت المخرجة بولين لوكيس إطاراً زمنياً قصيراً – ثلاثة أيام – بين تشخيص السرطان وبدء العلاج، في ذلك الوقت الضائع بين هذين الحدثين الكبيرين، لا تزال هناك أيام وليال لنعيشها، لنعرف كيف يمرّ المرء بها؟ كيف يعيش الإنسان العادي في لحظةٍ استثنائية من حياته؟.

وسواس المرض

فيلم Nino دراما مُتقنة التمثيل، تتجاوز حبكتها الكئيبة ظاهريًا لتقدم شيئًا مميزًا. كان من المثير للاهتمام رؤية ما قدمه الفيلم. حيث سيترك الفيلم بلا شك المشاهدين الذين يعانون من وسواس المرض في حيرة من أمرهم.

يُركز الفيلم في معظمه على الممثلين، وخاصة الممثل الكندي ثيودور بيليرين، على الرغم من مسيرته الفنية في أمريكا الشمالية. يبدو تمامًا مثل نينو. رقيق، ومتواضع، وضعيف، وهذا ما جعل المشاهد متابعا لكل حركة من حركاته لمدة ساعة وثلاثين دقيقة. واجه بيليرين واحدة من أصعب المهام التمثيلية في السينما حيث تجسيد شخصية رجل عادي، بفضائله ورذائله، آماله ومخاوفه، أحلامه وحدوده.

كان هناك ممثلين وممثلات شباب حساسين ومميزين. يُطلب من الممثلين الآخرين أداء أدوار مماثلة، مع فارق أن لديهم عادةً مشهدًا أو مشهدين، بينما يضطر بيليرين إلى لفت انتباهنا طوال مدة الفيلم. في دوره الأكثر إقناعًا حتى الآن، يحقق بيليرين ذلك من خلال أداء مُحكم تحت إشراف المخرجة.

ثراء علاقة الأم

كانت جين باليبار خياراً واضحاً للعب دور والدة نينو، فهي تتمتع بهذه الصفة المراهقة المشاغبة والحكمة العظيمة، إنها تنقل ثراء علاقة الأم والابن في مشاهد قليلة جداً، بينما تُقدم ديويلز أداءً ساحراً ومحبوبًا في دور زوي، مما يُولد انسجاماً مؤثراً مع بيليرين، وبالمثل، تُقدم كاميل رذرفورد أداءً حيوياً وجذاباً في دور صديقة نينو المُقربة – ويعتبر المشهد الذي يساعدها فيه في حقنة التلقيح الاصطناعي في الحمام مشهداً بارزاً آخر ومثالاً رائعاً على تصوير الفيلم المتكامل للصداقة.

علاوة على ذلك، يقدم ويليام ليبجيل أداءً رائعاً في دور صديق نينو المقرب، كما يُقدم النجم الفرنسي ماثيو أمالريك ظهوراً مفاجئاً في مشهد رائع ودور غريب، حيث يُقدّم النصائح، يلتقيه نينو في حمام تركي.

في الواقع إن الجمع بين التصوير اليدوي للوسي بودينو والمونتاج من كليمنس ديارد، أضاف على دراما الفيلم – قطع مفاجئة ومتوازنة حيث يجد البطل نفسه في محنة، ممزوجة بلقطات أطول وأكثر هدوءاً، بينما يصل إلى السكينة. 

شاركها.