اخر الاخبار

فيلم We Live in Time.. فلسفة العيش في متاهة السرد

بعد تعاونهما الناجح في فيلم Boy A عام 2007، والذي أثمر عن جوائز عدة، يعود المخرج جون كراولي في ثنائيته مع الممثل آندرو جارفيلد في دراما رومانسية عن الحب والموت بعنوان We Live in Time، والذي سبق عرضه في مهرجان تورنتو في الدورة الأخيرة، ثم شارك مؤخراً في الدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، ضمن قسم روائع عالمية.

ينغمس صُنّاع الفيلم البريطاني الفرنسي، في فلسفة الزمن والحب والوجود الإنساني، في رحلة شعورية ومعرفية تأخذ المشاهد في مسارات متشابكة، تماماً كحياة الإنسان ذاته.

تبدأ بنية الفيلم بطرح معضلة الزمن، وهي معضلة تتجلى في أسلوب السرد غير الخطي الذي يتبع تشظي الحكاية.الشخصيات لا تتحرك ضمن إطار زمني مترابط، إنها تخرج عن التراتبية وتنجرف بين الماضي والحاضر دون أن تعطي الأولوية لأي منهما.

هذا التشظي انعكاس لحالة الشخصيات التي تعيش دائماً بين تداخل الذكريات، الضياع في الحاضر، والخوف مما هو آتٍ، الزمن في هذا الفيلم لا يصحبنا في تسلسل ميكانيكي، بقدر التأكيد على حالة شعورية ووجودية تُعيد تعريف علاقتنا معه، هنا يصبح السؤال: هل نحن نعيش الزمن أم الزمن هو الذي يعيشنا؟.

خطوط متشابكة

تسير القصة في ثلاثة خطوط زمنية متشابكة، تمثل مراحل مختلفة من الحب وتشخيص المرض والإنجاب، وهو أمر بالغ التعقيد أن تتوازى المفاهيم الثلاثة وإيصالها بحساسية للمشاهد بعد أن وضعه خارج الترتيب الزمني، فالبداية هي تشخيص إصابة “ألموت” بسرطان المبيض بالدرجة الثالثة (تقوم بدورها الممثلة فلورنس بيو).

بعد ذلك تواجه شريكها توبياس “أندرو جارفيلد” في قرارها: (6 أشهر من حياة رائعة دون توقف مقابل عام من العلاج الكيميائي البائس).

“ألموت” شخصية معقدة تواجه قرارات صعبة بسبب تشخيص حالتها، مدفوعة بحبها لجزئين مختلفين من حياتها: الطبخ والأسرة، “توبياس” مدير تنفيذي لشركة حبوب إفطار ومطلق حديثاً، تبدأ علاقتهما بشكلٍ غريب حيث يكافحان مع فكرة الأطفال، يريد “توبياس” أطفالاً، و”ألموت” تعارض ذلك. 

بعد المشاجرة، اقتحم “توبياس” شقة “ألموت” في أثناء تجمع عائلتها وأصدقائها، وأخبرها برغبته في حل الأمور وأنه سيغير ما يريد أن يكون، هنا يقفز السرد إلى الماضي للكشف عن بداية قصة الحب والتي بدأت بحادثة سيارة غريبة، نراهما يقعان في حب بعضهما البعض بعد لقائهما مباشرة. ثم يتجاوز السرد مراحل تراتبية تقليدية ويظهر لنا حمل “ألموت” بابنتهما.

الشخصيات.. مرآة تعكس ضوء السؤال

ردود فعل الشخصيات هي حجر الزاوية الذي يبنى عليه الفيلم أبعاده الفكرية والجمالية، إذ نراها تعيش في مآزق وجودية تحركها مشاعر متباينة وأزمات لا تجد لها حلولاً واضحة، وما يجعلها فريدة هو قدرتها على تجسيد صراعات داخلية تبدو مألوفة للمشاهد، لكنها تُعرض بطرق غير مألوفة من خلال المشاهد القصيرة الصامتة، النظرات الممتدة، وحتى لحظات الضعف البشري العابر، كلها عناصر تُظهر سلاسة الكتابة التي جعلت من الشخصيات انعكاساً معقداً للإنسانية.

فعندما يعود السرد إلى الماضي، يظهر “توبياس” في متجر وهو برداء الاستحمام لشراء أقلام حبر جافة بعدما عجز عن الحصول على قلم في غرفة الفندق الذي يقيم فيه لكي يوقّع على ورقة إجراء الطلاق، يبدو مشهداً عبثياً وغير منطقي، لكنها تظهر اضطراباً شديداً وغضب كامن من الإقدام على مرحلة مفصلية النقطة، هي أن “توبياس” غاضب ومضطرب للغاية. شخصية أخرى تبحث عن خلاصها في فعل الحب رغم خوفها منه.

أما بالنسبة لـ”ألموت”، فهي تتمتع بتفانٍ شرس ومتعصب تقريباً لمهنتها، بينما تستعد للمنافسة في بطولة العالم للطهاة بوكوز دور، في أحد الأيام في العمل، تشعر “ألموت” بألم شديد في أسفل بطنها وتذهب إلى المستشفى، حيث يتم تشخيص إصابتها بسرطان المبيض، يتعين عليها هي و”توبياس” اتخاذ قرار بشأن استئصال الرحم بالكامل وعدم الحمل أبداً، أو استئصال الرحم الجزئي، مع إمكانية إنجاب الأطفال، ولكن مع خطر عودة السرطان.

يثقل القرار على “ألموت” لأنها تعلم أن “توبياس” يريد أطفالاً، يقرران المحاولة لكن الزوجين وبعد مكافحات عدة. أخيراً، تصبح “ألموت” حاملاً وتكافح في أثناء الولادة حيث تلد في حمام محطة وقود. ثم تدخل في مرحلة هدوء المرض.

ثم يعود السرد إلى الحاضر في الجزء الأخير من حياتهما، هو تربية الزوجين لطفلتهما البالغة من العمر 3 سنوات. مطعم “ألموت” مزدهر والأسرة تعيش في مزرعة. بعد عودة سرطان لـ”ألموت”، وقرارها الخضوع للعلاج الكيميائي، تكافح “ألموت” من خلال العلاج الكيميائي والتدريب لمسابقة طبخ دولية لا يريد “توبياس” أن تتنافس فيها. كونها ستقام في نفس اليوم الذي كان من المقرر أن تتزوج فيه هي و”توبياس”، واستمرارها في المشاركة سوف يضعف مناعتها ويعرقل سير العلاج.

كان صراع “ألموت” هو ترك إرث لطفلتها في تخليد اسمها كطاهية ناجحة وليس مجرد أم متوفاة! رغم العناد والرعونة تغادر “ألموت” قبل انتهاء المسابقة، بعد أن شاهدت شريكها وابنتها بين الجماهير، لتصطحبهما إلى قاعة التزلج، ولأنها متزلجة سابقة، تجلى مشهدها الأخير وهي تتزلج مع عائلتها الصغيرة، وتنزلق بعيداً عنهما في النهاية. تبتسم لهما، ثم تلوح لهما من الجانب الآخر من الحلبة. 

في المشهد التالي، يتجول توبياس وابنته “إيلا” في حظيرة الدجاج الخاصة بالعائلة يلتقطان البيض ويضعانه في السلة، ثم يعلّم “توبياس” “إيلا” كيفية كسر بيضة باستخدام يد واحدة بنفس الطريقة التي اعتادت بها “ألموت” أن تفعل ذلك. لا تواجد لألموت في أي مكان في هذا المشهد الأخير، بينما كل العناصر في المنزل والفناء الخارجي وظفت طغيان حضورها رغم الغياب.

الحب.. بوابة إلى الفهم والتغيير

يقدم كلًّ من بوغ وغارفيلد، أداءً حساساَ وإيقاعاً هادئاً في فيلم كلاسيكي من المدرسة الجديدة. ربما كانت كل المفاهيم في الفيلم تتمحور حول منظور ألموت للحياة، بينما قدم الفيلم توبياس كشخصية أقل وضوحاً! ولا نستطيع التقاط مكامن شخصيته إلا من خلال مفهوم الحب.

ألموت وتوبياس لا يعيشان الحب كحالة رومانسية بسيطة، يظهر الحب هنا كعنصر مغير للواقع، قادر على تفكيك الأفكار المسبقة وإعادة بناء الحياة وفق منظور جديد. هل الحب في الفيلم مجرد مشاعر مؤقتة؟ أم أنه القاعدة التي تجعلنا نعيش “في الوقت المناسب” الحب في سياق الزوج (البطل) يُفهم كحالة تناقضية تُوازن بين الحرية والالتزام، وبين التملك والتضحية.

الزوج، في أعماقه، يدرك هشاشة الحب كفكرة. الخوف من الفقد حاضر دائماً، لا كتهديد خارجي بل كحقيقة داخلية تعكس الطبيعة الزائلة لكل شيء. مع الوقت بدأ يدرك  أنه التزام أخلاقي يفرض عليه إعادة تعريف ذاته أمام الآخر. هنا، يمكن ملاحظة أن الزوج يواجه تحدياً عميقاً: كيف يمكن للمرء أن يحب دون خضوع الآخر لإرادته؟ وكيف يمكن أن يكون الحب وسيلة لإعادة اكتشاف الذات بدلاً من ذوبانها في الآخر؟ هذا الصراع يُجسد فلسفة الحب باعتباره نضال كل طرف للاحتفاظ بكيانه المستقل دون أن ينكر حاجته العميقة للتواصل. العلاقة بين الشريكين لا تُقدَّم كمعركة بين التوقعات والمخاوف، وبين الرغبة في التواصل والرهبة من الفقدان. بل كحركة دائمة تُختبر فيها الهوية الفردية وتُعاد صياغتها باستمرار.

لقد طرح الفيلم الحب في هذا السياق كحالة فلسفية تعيد تعريف الرباط الروحي بين الطرفين بعدم حصره حول شعور عاطفي أو رغبات متبادلة، بل تجاوز ذلك فيما بعد ليصبح فعل مقاومة، سؤال مفتوح حول المعنى، وشرط وجودي يُبرز ضعفهما وقوتهما في آنٍ واحد. إنه بحث دائم عن اللحظة التي تجعلنا نؤمن بأننا نعيش في “الوقت المناسب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *