بعد مرور 7 سنوات على أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة، توقفت الحكومة الفيدرالية عن العمل منتصف ليل الأول من أكتوبر، عقب إخفاق الكونجرس في إقرار قانون إنفاق جديد يضمن استمرار تمويلها.
ولا يستبعد خبراء تحدثوا لـ”الشرق” أن يتجاوز الإغلاق الحالي الرقم القياسي الذي حققه إغلاق عام 2019 الذي استمر 35 يوماً، مؤكدين أن الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) يستعدان لمعركة تفاوضية حول أولويات الإنفاق وإصلاحات الرعاية الصحية.
وكان مجلس النواب، الذي يسيطر عليه الجمهوريون، أقر مشروع قانون مؤقت لتمديد التمويل حتى 21 نوفمبر، لكن مجلس الشيوخ رفضه بأغلبية ضئيلة لأنه لم يتضمن مطلب الديمقراطيين تمديد إعانات “الرعاية الصحية الميسرة” المقرر انتهاؤها نهاية العام، فيما يتمسك الجمهوريون بخفض الإنفاق.
ما الاختلاف عن إغلاق عن 2019؟
منذ عام 1976، أُغلقت الحكومة الأميركية نحو 20 مرة، وكانت حالات الإغلاق لأكثر من يوم أو أيام قليلة، أمر نادر للغاية.
غير أن ولاية ترمب الأولى شهدت الإغلاق الأطول في تاريخ الولايات المتحدة لـ35 يوماً بين ديسمبر 2018 ويناير 2019، بسبب تمويل الجدار الحدودي بين أميركا والمكسيك.
وفي حديث لـ”الشرق”، توقع أستاذ السياسة في الجامعة الكاثوليكية الأميركية، جون وايت، أن يحطم الإغلاق الحالي الرقم القياسي السابق.
ويرى وايت أن الوضع الحالي مختلف تماماً عن إغلاق عام (2018-2019) بسبب الخطوات التي اتخذها ترمب بالفعل في ولايته الثانية، من إقالة موظفين فيدراليين، وإنهاء برامج اتحادية أقرها الكونجرس، ورفض إنفاق أموال سبق أن خصصها الكونجرس، إلى جانب قرار المحكمة العليا الذي يمنحه حصانة عن الأفعال الرئاسية.
وأوضح أن هذه الأمور، وغيرها، تعني أنه حتى لو توصل ترمب إلى اتفاق مع الديمقراطيين، فقد “يلغيه بلا عواقب”، لافتاً إلى أن كلا الطرفين متصلّب في موقفه، في وقت تصرُّ قاعدة الحزب الديمقراطي على رؤية مزيد من المواجهة من جانبهم، بينما يعتقد الجمهوريون أنهم يمتلكون اليد العليا وأن ذلك سيفيدهم.
ويتفق أستاذ الشؤون الحكومية في جامعة كورنيل، ريتشارد بنسل، مع وايت في أن الإغلاق الحكومي الحالي أكثر خطورة من السابق، لكن بنسل بدا أكثر تفاؤلاً من حيث مدة الإغلاق، قائلاً إن جميع التوقعات في هذه الحالة محفوفة بالمخاطر، وأضاف: “لكنني أظن أن الإغلاق سيستمر 7 أيام على الأقل وينتهي خلال أسبوعين”.
وتبدو قوة ترمب المتصاعدة مكمن الخطورة بالنسبة لبنسل، معتبراً أن ترمب أصبح “قوة أكبر بكثير” في الحزب الجمهوري مما كان عليه قبل 7 سنوات. موضحاً أنه “إذا لم يُبدِ ترمب استعداده لقبول تسوية مؤقتة بشأن التمويل، فسيكون من الصعب جداً على أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين التصويت عليها”.
وتابع بنسل: “هناك مجال أوسع للمناورة لدى الجانب الديمقراطي، لأن الناخبين الديمقراطيين، على الرغم من إحباطهم، لن يعاقبوا أعضاء مجلس الشيوخ على الأرجح بنفس الشدة التي سيعاقب بها ترمب المنشقين من الجانب الجمهوري”.
الحل الأسرع.. انشقاق ديمقراطي
وفي الساعات الأخيرة قبل دخول الإغلاق الحكومي حيّز التنفيذ، ومرة أخرى عندما أُعيد التصويت الأربعاء 1 أكتوبر بعد الإغلاق رسمياً، انشق 3 أعضاء من مجلس الشيوخ عن موقف الديمقراطيين وصوّتوا لصالح تمديد قصير للتمويل لا يتجاوز 7 أسابيع تقريباً.
وكان اثنان من المنشقين الديمقراطيين يمثلان ولايتي نيفادا وبنسلفانيا المتأرجحتين، اللتين صوتتا لترمب في الانتخابات الأخيرة، أما الثالث فهو السيناتور المستقل، المتحالف مع الديمقراطيين، أنجوس كينج من ولاية ماين، الذي يترشح ابنه انجوس كينج الثالث لمنصب حاكم الولاية.
ويحتاج إنهاء الإغلاق الحكومي إلى انشقاق 8 على الأقل من صفوف الديمقراطيين، كما قال أستاذ الشؤون الحكومية بنسل.
وأوضح بنسل أن مشروع قانون التمويل يتطلب 60 صوتاً على الأقل في مجلس الشيوخ الأميركي، بينما يمتلك الجمهوريون 53 عضواً فقط في المجلس.
لكن لم يصوت جميع الجمهوريين للقانون، فقد عارض السيناتور راند بول من كنتاكي مشروع القانون الثلاثاء والأربعاء لطلبه تخفيض أكبر.
وقال بنسل إنه إذا انشق هؤلاء الديمقراطيون الثمانية عن بقية أعضاء حزبهم، فسيؤدي ذلك إلى إنهاء الإغلاق فوراً، لكن أستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في جامعة أوهايو، بول بيك استبعد مثل هذا الانشقاق.
وقال بيك لـ”الشرق” إن محور الخلاف يدور حول إعانات الرعاية الصحية التي ستنتهي بنهاية العام، وهي جزء أساسي من تشريع “أوباما كير”.
وأضاف أن الديمقراطيين يرون أن التمسك بها ليس مجرد قضية فنية مرتبطة بالإنفاق، لكنها ورقة سياسية تمنحهم فرصة لاستخدام الإغلاق كوسيلة ضغط على إدارة ترمب، “وبالتالي تحويل الخلاف المالي إلى معركة أوسع حول المبادئ والسياسات العامة، كما أن الرعاية الصحية ملف مهم جداً للديمقراطيين”.
الحل المعتاد.. تسوية
خلال ولايته الأولى، وقع خلاف بين ترمب وأعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين بشأن طلبه 5 مليارات دولار لتمويل الجدار الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك، وعلى أثره أغلقت الحكومة الفيدرالية لمدة 35 يوماً، فيما شكّل أطول إغلاق في تاريخ البلاد.
وفي 25 يناير 2019، توصل ترمب إلى اتفاق مؤقت مع أعضاء الكونجرس لإعادة فتح الحكومة لمدة 3 أسابيع بينما تستمر المحادثات بشأن الجدار الحدودي.
وعادة، ما ينتهي الإغلاق الحكومي بإقرار الكونجرس تمديد مؤقت “CR”، والذي يوفر تمويلاً قصير الأجل بينما تستمر المفاوضات بشأن ميزانية طويلة الأجل، وهو ما حدث منذ عام 1990، حيث انتهت جميع الإغلاقات بتمديدات مؤقتة.
ويعتقد أستاذ الشؤون الحكومية بنسل أن هذا هو السيناريو الأقرب للحدوث، مشيراً إلى أنه يمكن أن تحدث تسوية مؤقتة يتفق فيها الجمهوريون والديمقراطيون على تمويل الحكومة لعدة أسابيع تقريباً ريثما يتم التوصل إلى اتفاق أكثر ديمومة، “وقد دارت بعض النقاشات حول هذه التسوية. أعتقد أن الحزبين سيتفقان في النهاية على تسوية مؤقتة”.
لكن عميد كلية “شار للسياسة” في جامعة جورج ماسون، مارك روزيل يختلف مع بنسل في إمكانية حدوث تسوية. وقال روزيل لـ”الشرق” إن تسوية شبيهة لما حدث خلال فترة الإغلاق الحكومي لعام 2019، تتطلب قدراً من الثقة بين الحزبين “لكن الثقة بين الجانبين قد تلاشت الآن”.
الحل الأصعب.. تراجع
في وقت سابق الثلاثاء، هدد ترمب من المكتب البيضاوي بتسريح أعداد كبيرة من العاملين الفيدراليين إذا حدث الإغلاق، قائلاً “يريد الديمقراطيون إغلاقه، لذلك عند إغلاقه، سيتوجب تسريح عدد كبير من الموظفين”.
وأضاف “سنُسرح عدداً كبيراً من الأشخاص الذين سيتأثرون بشدة، وهم ديمقراطيون. سيظلون ديمقراطيين”.
وبعد إلقاء اللوم على الديمقراطيين في الإغلاق وسط مزاعم برغبتهم توفير الرعاية الصحية للمهاجرين غير القانونيين، وأى رئيس مجلس النواب مايك جونسون أن تصويت الديمقراطيين “يُضيّق الخناق على الحكومة، وهذا يعني معاناة حقيقية للأميركيين الحقيقيين الذين ستتوقف رواتبهم”.
في المقابل، قال زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر “لقد بدأ الإغلاق الحكومي الجمهوري للتو لأن الجمهوريين لم يحموا نظام الرعاية الصحية الأميركي. سنواصل النضال من أجل الشعب الأميركي”.
واتهمت السيناتورة إليزابيث وارن الجمهوريين في الكونجرس بأنهم يفتقرون إلى الشجاعة، قائلة “إنهم يُفضلون زيادة تكلفة الرعاية الصحية لملايين الأميركيين، بناءاً على رغبة ملكهم المزعوم، على إبقاء الحكومة مفتوحة”.
وقد يؤدي الضغط المتبادل ولعبة إلقاء اللوم بين الجمهوريين والديمقراطيين، مع الخسائر الملموسة، في نهاية المطاف، إلى تراجع أو استسلام أحد الطرفين للآخر. وهو ما يرجحه عميد كلية شار للسياسة مارك روزيل، حيث يعتقد أن وجود سيناريو يتمسك فيه كل جانب بموقفه يعني أن أحدهما سيضطر في النهاية إلى التراجع للتوصل إلى اتفاق “لكن كل هذه المواقف العلنية من كلا الجانبين تزيد من صعوبة ذلك”.
فيما استبعد أستاذ الشؤون الحكومية بنسل تراجع أي طرف من الطرفين.
أما أستاذ العلوم السياسية بيك من جانبه، رأى أن التراجع في مرحلة ما سيكون بمثابة مكسب لأي طرف، قائلاً إن الديمقراطيين إذا تراجعوا من أجل الأميركيين وإعادة تشغيل البرامج الحكومية والرواتب يكفيهم أنهم خاضوا معركة وسلطوا الضوء على الرعاية الصحية وأظهروا أن الجمهوريين هم من تعنتوا أمام مصالح الأميركيين من محدودي الدخل.
وتابع: “في الوقت نفسه قد يتنازل الجمهوريون، خاصة أن ملف الرعاية الصحية قد يؤثر على ناخبيهم من محدودي الدخل”.
لعبة اللوم والانتخابات النصفية
مع وصول الأزمة بين الديمقراطيين والجمهوريين إلى طريق مسدود وقبل تنفيذ الإغلاق رسمياً، أظهرت استطلاعات رأي أن ترمب والحزب الجمهوري يتحملان اللوم أكثر من الديمقراطيين في الإغلاق الحكومي.
وبعد دخول الإغلاق حيز التنفيذ، كشف استطلاع رأي أجرته صحيفة “واشنطن بوست” الأربعاء 1 أكتوبر، أن 30% من المشاركين قالوا إن الديمقراطيين في الكونجرس هم المسؤولون عن الإغلاق، بينما قال 23% إنهم غير متأكدين من المسؤول عن الإغلاق، في حين ألقت النسبة الأكبر من المشاركين في الاستطلاع 47% باللوم على ترمب والجمهوريين في الكونجرس باعتبارهم المسؤولين بشكل رئيسي عن الإغلاق الجزئي للحكومة الفيدرالية.
و”هو لوم يمكن أن يؤثر على فرص الجمهوريين في الانتخابات النصفية 2026″، كما قال روزيل.
وأضاف عميد كلية “شار للسياسة” في جامعة جورج ماسون أنه “سواء كان ذلك عادلاً أم لا”، فإن اللوم في الرأي العام، في هذه الحالات، يقع على عاتق البيت الأبيض، مشيراً إلى أنه إضافة إلى ذلك، يسيطر الجمهوريون على كلا السلطتين، ولذلك من الصعب في حكومة يهيمن عليها حزب واحد إلقاء اللوم على حزب المعارضة.
وأشار إلى استطلاعات الرأي وأن عدداً أكبر من الأميركيين يلومون الرئيس ترمب والحزب الجمهوري، اللذان يعانيان بالفعل من تراجع في الدعم الشعبي، مرجحاً أن يؤدي الإغلاق الحكومي الطويل إلى تفاقم السخط الشعبي عليهما، “مما سيخلق المزيد من التحديات أمام الجمهوريين الضعفاء الذين يترشحون لإعادة انتخابهم العام المقبل”.
ويتفق بيك مع روزيل في أنه حالياً يُحمّل الجمهوريون المسؤولية، ومع ذلك يرى بيك أن ترمب “أقل ميلاً للتنازل من أجل إنهاء الإغلاق”.
وأضاف أستاذ العلوم السياسية أنه عادةً ما يُلام الحزب الحاكم أكثر، “لكن ربما قد يختلف موقف ترمب وأعضاء الكونجرس الجمهوري في ظل استمرار الإغلاق الحكومي واقتراب موعد الانتخابات النصفية لأنها في تلك الظروف ستكلفهم الكثير”.
أما أستاذ الشؤون الحكومية بنسل، يعتقد أن لعبة اللوم بين الجمهوريين والديمقراطيين وما يترتب عليها تزيد الأمر صعوبة، قائلاً إن الناخبين الديمقراطيين، حالياً، يلقون باللوم على الجمهوريين، ويلقي الجمهوريون باللوم على الديمقراطيين، “ومع ذلك، إذا كانت استطلاعات الرأي صحيحة، فإن أغلبية من الناخبين المستقلين الذين لا ينتمون لأي من الحزبين يلومون الجمهوريين حالياً.
وأضاف: “هذا يجعل التوصل إلى تسوية أكثر صعوبة، لأن الديمقراطيين قد يعتقدون أنهم يتمتعون بميزة ضئيلة في هذه المعركة، بينما ليس من الواضح أن ترمب يهتم بشكل خاص بما قد يحدث لزملائه الجمهوريين في الانتخابات القادمة، خاصة وأنه لن يترشح للرئاسة مرة أخرى”.
من جانبه، لفت أستاذ السياسة وايت إلى أن العوامل السياسية هي التي ستؤدي إلى إنهاء الإغلاق، عندما يتضح بشكل كلي أي حزب يُلقى عليه اللوم الأكبر.
وأضاف أنه إذا ذهب ترمب إلى حد التسبب في تسريح جماعي للموظفين الفيدراليين، فإن ذلك سيكون له أثر على انتخابات منتصف المدة، “لكن من الصعب الجزم بذلك الآن، لأننا ما زلنا على بُعد عام من تلك الانتخابات النصفية”.