– سدرة الحريري
وسط التجاذب المستمر بين الحكومة السورية و”الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، عاد ملف مطار “القامشلي” إلى الواجهة، بعد إعلان الأخيرة تشكيل “الإدارة العامة لمطار قامشلو الدولي”، في خطوة أثارت جدلًا سياسيًا وقانونيًا واسعًا، لا سيما مع رفض الحكومة السورية لهذا الإعلان، وتأكيد هيئة الطيران المدني أن إدارة حركة الطيران تقع حصريًا ضمن صلاحياتها المعترف بها دوليًا.
يأتي هذا التطور في سياق سلسلة من محاولات التفاهم على تسليم الهيئات المدنية بين الطرفين، بناء على الاتفاق الذي وقع بين الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي.
مطار “القامشلي” في مرمى التنازع
أعلنت “الإدارة الذاتية”، في 21 من حزيران الحالي، عن استحداث “الإدارة العامة لمطار قامشلو الدولي”، على أن تتبع بشكل مباشر للمجلس التنفيذي في الإدارة، ما يضع المطار تحت إشرافها الإداري والمالي بشكل رسمي.
وجاء القرار دون تنسيق معلن مع الحكومة السورية، الأمر الذي اعتُبر مفاجئًا في ظل حساسية موقع المطار ووضعه القانوني.
وكان مدير العلاقات العامة في “هيئة الطيران المدني السورية”، علاء صلال، صرّح سابقًا لعنب بلدي أن مطار “القامشلي” يتبع إداريًا لهيئة الطيران المدني، وأن عملية تأهيله ستتم وفق تفاهمات تُدار بين رئاسة الجمهورية و”قسد”.
وفي المقابل، ردت “هيئة الطيران المدني السورية” في بيان توضيحي نشرته على صفحتها في “فيسبوك“، يوضح أن الهيئة هي الجهة الوحيدة المخولة قانونيًا بإدارة وتشغيل المطارات في سوريا، وتنظيم الحركة الجوية السورية ضمن الأجواء السورية، بما في ذلك إصدار أو تعديل أي إعلانات ملاحية.
ماذا عن الاعتماد الدولي للمطار
تشغيل مطار القامشلي كمطار دولي لا يمكن أن يتم فعليًا ما لم يحصل على اعتماد رسمي من منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) واتحاد النقل الجوي الدولي (IATA)، وهما الجهتان المسؤولتان عن تنظيم الحركة الجوية العالمية ومعايير تشغيل المطارات، وفق ما أكده المختص في الشؤون السياسية والاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط، محمود الطرن، عبر منشور على حسابه في منصة “إكس“.
يتطلب اعتماد المطارات والطائرات في منظومة الطيران المدني الدولي توفر شروط قانونية واضحة، بحسب موقع “إيكاو”، أهمها أن تكون الجهة المشغلة:
-
دولة ذات سيادة.
-
معترفًا بها من قبل الأمم المتحدة.
-
موقعة على اتفاقية “شيكاغو” للطيران المدني الدولي لعام 1944، والتي تأسست بموجبها منظمة “إيكاو”.
وبحسب هذا الإطار القانوني، فإن سوريا تُعد عضوًا مؤسسًا في المنظمة منذ عام 1944، وتُمثلها رسميًا الحكومة السورية في جميع أعمال المنظمة، وهو ما يمنحها حصريًا حق تسجيل الطائرات، وتنظيم المجال الجوي، وتأهيل وتشغيل المطارات ضمن المعايير الدولية المعتمدة.
لذا فإن العضوية في “إيكاو” محصورة بالدول المعترف بها دوليًا فقط، ولا تشمل الكيانات المحلية أو الأقاليم ذات الحكم الذاتي، مثل “الإدارة الذاتية” التي لا تمتلك صفة قانونية تُمكنها من تسيير رحلات جوية معترف بها دوليًا أو تشغيل مطار مستقل خارج الإطار السيادي للدولة السورية.
وبالإشارة إلى حالات دولية مشابهة، فإن إقليم كردستان العراق يُدير مطاراته محليًا، إلا أن جميعها يعمل تحت إشراف الحكومة العراقية، ويحمل رمز الدولة العراقية (IQ) في سجلات “إيكاو”.
وكذلك جمهورية شمال قبرص التركية، غير المعترف بها دوليًا، التي لا تستطيع تشغيل مطار “إيرجان” بشكل مستقل، وتضطر إلى تنسيق عملياتها الجوية عبر تركيا، في ظل غياب أي اعتراف دولي بها.
لذا من الناحية العملية لا يمكن لـ”الإدارة الذاتية” تسيير رحلات دولية معترف بها، ولكن في حال توفر الإمكانية اللوجستية والتشغيلية يمكنها تسيير رحلات داخلية (ضمن مناطق سيطرتها) فقط.
رمزية القرار في ظل تعذر التطبيق
يعد إعلان “الإدارة الذاتية” عن استحداث “الإدارة العامة لمطار قامشلو الدولي” قرارًا ذا طابع رمزي في المقام الأول، في ظل تعذر تطبيقه عمليًا.
ويعكس رغبة في إظهار السيطرة والشرعية المحلية على أحد أبرز المعالم الحيوية في المنطقة، إلا أن هذا الإعلان يواجه جدرانًا قانونية دولية صلبة تحول دون تطبيقه فعليًا، في ظل غياب الاعتماد الرسمي من قبل منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو) والحكومة السورية.
لذا فإن هذا القرار يبعث برسائل سياسية داخلية إلى الحكومة السورية، بحسب ما صرح به رئيس “جبهة كردستان سوريا” ورئيس تيار الحرية الكردستاني، سيامند حاجو، ل، معتبرًا أن إدارة المطارات ليست مجرد قضية إدارية، بل ترتبط بتوزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم.
وفي ظل غياب اتفاق سياسي شامل ينظم العلاقة بين الحكومة المركزية و”الإدارة الذاتية”، من الطبيعي أن تتولى الأخيرة إدارة المطار الواقع ضمن مناطق نفوذها.
وقال حاجو، ” رغم أن (جبهة كردستان سوريا) لا تشكّل جزءًا من (الإدارة الذاتية)، نرى أن الوضع القائم نتيجة فراغ قانوني وسياسي، لذا، نطالب بحل سياسي حقيقي يضمن حقوق الشعب الكردي، ويُحدد شكل النظام الجديد على أسس فيدرالية وشراكة ديمقراطية”.
أما عن رمزية هذه الخطوة، فهي لا تعكس نية تصعيد سياسي بقدر ما تُجسد واقعًا ميدانيًا، حيث لا توجد جهة أخرى تدير المطار حاليًا، والحل النهائي يكون بتسوية سياسية شاملة تضمن توازنًا واضحًا بين المركز والأقاليم، بحسب حاجو.
هاجس السيادة عند “قسد”
يرى المحلل السياسي حسن النيفي أن إعلان “قسد” عن استحداث إدارة مستقلة لمطار القامشلي، لا يمكن قراءته خارج سياق التنافس السياسي مع دمشق، إذ تحمل الخطوة، برأيه، رسالة واضحة مفادها أن “قسد” تسعى لترسيخ نفسها كسلطة مستقلة تفرض أوراقها على الأرض، وتطالب بالتعامل معها كندّ وليس كطرف تابع.
وأشار النيفي إلى أن هاجس السيادة يشكل أولوية قصوى لدى “قسد”، وهو ما ينعكس في كل تحركاتها، بما في ذلك إدارة المطار، معتبرًا أن الصراع القائم مع الحكومة السورية يتخذ طابعًا رمزيًا في كثير من جوانبه، خاصة فيما يتعلق بإثبات السيطرة والسيادة على المؤسسات الحيوية.
وأكد أن الملف الحقيقي الذي يعطل التفاهم بين الطرفين لا يتعلق بالمطار بحد ذاته، بل بقضايا أكثر تعقيدًا، مثل شكل اللامركزية، ومستقبل دمج “قسد” في البنية والعسكرية السورية.
ويرى النيفي أن حل هذه الإشكالات كفيل بتسهيل أي تفاهم لاحق بخصوص المطار.
ويستبعد أن يؤدي ملف المطار إلى تأزيم الوضع عسكريًا أو إلى صدام مباشر بين الطرفين، مرجّحًا أن يتم استخدامه كورقة تفاوضية ضمن إطار أوسع من الترتيبات السياسية العالقة.
ويختم بالتأكيد على أن أي حل لمسألة المطار سيبقى مرهونًا بالتوصل إلى تفاهمات أوسع بين دمشق و”قسد” حول القضايا السيادية الكبرى، مستبعدًا أي خطوات تصعيدية قريبة من الطرفين في هذا الملف تحديدًا.
أهمية استراتيجية تتجاوز الجغرافيا
يُعد مطار “القامشلي” الدولي واحدًا من أبرز المواقع الحيوية في شمال شرقي سوريا، نظرًا إلى موقعه الجغرافي الحساس، ودوره المتنامي في ظل التحولات السياسية والإدارية التي تشهدها المنطقة.
تتزايد أهمية المطار اليوم في ضوء الجدل القائم حول تبعيته وإدارته، ما يجعله نقطة ارتكاز في التوازنات المحلية والإقليمية.
يقع المطار على مقربة من الحدود التركية والعراقية، في قلب منطقة الجزيرة السورية، ما يمنحه دورًا في ربط هذه المنطقة بباقي أجزاء البلاد، وبالخارج في حال تفعيله بشكل كامل.
وهو المنفذ الجوي الوحيد المتاح حاليًا في مناطق “الإدارة الذاتية”، ما يضفي عليه بُعدًا حيويًا في النقل والتنقل والخدمات اللوجستية.
وتتجاوز أهمية المطار وظيفته التشغيلية، لتأخذ طابعًا سياسيًا وسياديًا واضحًا، إذ يُنظر إلى إدارة المطار على أنها انعكاس مباشر لموازين القوى على الأرض.
وتُقرأ أي خطوة باتجاه استحداث إدارة مدنية للمطار من قبل “الإدارة الذاتية” كرسالة سياسية إلى دمشق، مفادها أن الإدارة تكرّس نفسها كجهة قائمة بذاتها، لها مؤسساتها وأدواتها السيادية.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي