“قصائد على حيطان المدن”.. صفحات مفتوحة لأصوات الشعراء

بدأ اهتمام الشاعر والفنان العراقي ناصر مؤنس، بالعلاقة العميقة بين الشعر والمكان، بمصادفة غير متوقعة عام 1995، عندما لاحظ زوجين مسنّين يتأملان أحد الجدران، وهو في طريقه إلى مكتبة جامعة ليدن في هولندا. اقترب ليرى ما يشدّ انتباههما، وفوجئ بأبيات شعرية مكتوبة بالعربية:
أيامُنا كالشتاء القطبي/ ساعات الفرح فيها كالضياء، خاطفة/ والفواجع كالليل لا تنتهي/ للإشراقات أوقات ما أسرع ركضها/ وللظلمات المواسم المقيمة..
كانت القصيدة للشاعر الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، ابن بيت لحم، ومنذ تلك اللحظة، بدأ مؤنس بالبحث عن القصائد المكتوبة على حيطان المدينة، وتوثيقها صورياً وترجمتها إلى العربية.
لم تكن هذه المصادفة وحدها ما دفعه للاستمرار في هذا المشروع، بل جاء تأكيد آخر بعد سنوات، عندما عثر في مكتبة “بريل” على كتاب “أدب الغرباء”، المنسوب لأبي الفرج الأصفهاني، الذي يوثّق أشعاراً كُتبت على جدران المساجد والكنائس والأسوار، وحتى على ألواح السفن. وكأن الشعر كان دائماً يبحث عن فضاء عام ليبقى حياً في الذاكرة الجماعية.
يتحدث ناصر مؤنس لـ”الشرق” عن المدن التي تُبنى وفق نظام دقيق، “حيث يجد الشعر موضعه الملائم، وتصبح الكتابات الحائطية نافذة لرؤية جديدة للفضاء العام في المدينة المعاصرة. فلكل مدينة طابعها الهندسي وطقوسها اليومية، قضاياها ومحكمتها، ولكل جدار شهادته الخاصة التي يعرضها بصدق أمام قضاة وجمهور المدينة”.
ضد أفلاطون.. قصائد على الحيطان
في كتابه “ضد أفلاطون.. قصائد على حيطان المدن”، الصادر عن “دار مخطوطات” في هولندا (2024)، يستكشف ناصر مؤنس العلاقة العميقة بين الشعر والمكان، عبر توثيق القصائد المكتوبة على جدران مدينة “ليدن” الهولندية، وترجمتها إلى العربية، وتقديم شروحات حول مضامينها، وظروف إنتاجها.
الكتاب يمثّل تجربة غنية لفهم التفاعل بين الأمكنة والشعر، حيث تتحوّل الجدران إلى صفحات مفتوحة تحمل أصوات الشعراء، وتصبح القصائد جزءاً من النسيج اليومي للمدينة. وخصوصاً وأن هذه القصائد رُسمت على واجهات المنازل، والمؤسسات، ومختلف الأبنية، ما يجعل الحفاظ عليها مسؤولية جماعية، لا تقتصر على جهة بعينها.
إقصاء الشعراء
أقصى أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة، بغض النظر عمّا إذا كان قد استبعدهم جميعاً أم استهدف فئة معينة منهم. المهم هنا ليس تفاصيل القرار، بل موقفه العدائي تجاه الشعر والشعراء.
لقد فرض عليهم قيوداً وفق ما تتيحه له سلطته، ليقف في صفِّ السلطويين، الذين يستغلون نفوذهم لفرض رؤاهم على الآخرين، من دون إفساح المجال للاختلاف. وهكذا، حين أبعد الشعراء، لم يكن مجرد إقصاءٍ لهم، بل كان تجريداً للمدينة من روحها الإبداعية.
هذا الفعل لم يستقم مع التمرّد الشعري الذي لا يستجيب للسلطة، ولا يرضخ لها، بل تجاوز ذلك ليكون حاضراً في كل مدينة وعندَ كل قارىء ومبصر.
يقول مؤنس: “إن الشعراء يذرعون العالم، المدينة الكبيرة الشاسعة، ويطوفون في كل أحيائها، كما لو أن الشعر نفسه يصرّ على البقاء رغم كل محاولات الإقصاء. هنا يأتي عنوان الكتاب ليؤكد عمق العلاقة بين الشعر والمدينة، متخذاً موقف الضدّ من أفلاطون، الذي لم يستوعب هذا التلازم أو يتقبّله”.
مدينة تكتب شعرها
يتجلى هذا التمرّد بأبهى صوره في مدينة ليدن الهولندية، حيث لا يُطرد الشعر، بل يتم استقباله على حيطانها بكل اللغات، في تجربة فريدة، جعلت المدينة نفسها كتاباً مفتوحاً على احتمالات المعنى. 116 قصيدة لشعراء من مختلف أنحاء العالم كُتبت على الحيطان، لتؤكد أن القصيدة ليست مجرد كلمات داخل كتاب، بل كيانٌ حيّ يرافق الناس في مسيرهم اليومي.
وهج القصيدة
الكتابة على الجدران ليست مجرد فعل توثيقي، بل هي إصرار على أن الشعر ينتمي للفضاء العام، وليس حكراً على النخبة الثقافية. أن يجد المارّة قصيدة مكتوبة على حائط قديم، أن يقرأها صدفة ودون تخطيط، هو نوع من الاكتشاف الشعري الذي يحطّم الحواجز بين القارئ والنص.
حتى لو لم يفهم العابر الياباني قصيدة بالعربية، فإنه سيشعر بإيقاعها البَصري من حيث تشكيل الحرف واللون، تماماً كما يهتزّ القارئ الإسباني لوهج قصيدة يابانية، من دون الحاجة إلى ترجمة مباشرة.
هنا يقول الكاتب: “إن فكرة الكتابات الحائطية تعمل كمقاومة ثقافية، عبر مجموعة واسعة من التقنيّات والقراءات والاستراتيجيات، التي تُناصر وتدعم فكرة التطوّر المجتمعي. وهي التي تدمج بين الفنون والآداب، وبين النشاط الذي يرفض كل هذا الخراب الذي يطوّقنا. والهادفة إلى إعادة إيقاظ سكان المدن من خلال تحفيزهم على التواصل”.
هكذا، تمتد القصيدة عبر التاريخ، شاهدة على أن الشعر لا يُنفى، بل يعيد تشكيل العالم من حوله، يندمج في الذاكرة الجمعية، ويترك أثره في روح كل من يعبر بجواره. في النهاية، لم تستطع مدينة أفلاطون الفاضلة أن تخرجه، بل أصبح هو المدينة الفاضلة التي تسكن في كل مدينة.
هل تستعيد مدننا علاقتها بالكلمة؟
في كتابه، يثير مؤنس سؤالاً جوهرياً: لماذا يُحبس الشعر بين دفّتي الكتب والمناهج الدراسية، فيما تُحرم منه الأعين، ولا يجد طريقه إلى الفضاء العام؟
لماذا لا نشاهده منثوراً على الجدران، ولا يزيّن الشوارع، ولا تلامسه الأيدي على واجهات الباصات والقطارات، ولا يطالعنا على أكياس الخبز وعلب الحليب وسائر المرافق العامة التي يرتادها الناس يومياً؟
هذا التساؤل ليس محض استفسار عابر، بل هو نتيجة التشبّع بالمشاهدات التي عاشها الكاتب أثناء تتبّعه للقصائد المكتوبة على جدران ليدن، هناك، يلتقي المارّون يومياً بكلمات لشعراء من ثقافات شتى، يقرأونها بعفوية، وربما يتفاعلون معها من دون أن يدركوا أن تلك اللحظة العابرة قد تترك أثراً طويل الأمد.
المدن العربية والشعر
لكن المفارقة تظهر حين نقارن هذا الواقع بمدينة عربية، حيث يُفترض أننا “أهل الشعر وديوانه الكبير”، إلا أننا بالكاد نراه في شوارعنا. فماذا لو جرّبنا تحويل مدننا إلى مساحات شعرية مفتوحة، حيث تكتب القصائد على الحيطان، لا باللون الواحد، بل بلغات متعددة؟ هل سيكون لهذا المشروع فرصة، أم ستقابله الاعتراضات باسم الهوية؟
غير أن السؤال الأهم الذي يبرز هنا: هل يمكن أن تصبح فكرة نشر القصائد على الجدران مشروعاً عربياً ناجحاً؟
يجيب مؤنس: “في ما يتعلّق بالمجتمع العربي، مثلما اعتادت السلطة أن تعزل المثقّف عن التخطيط لبناء الحياة، كذلك أبعدت الفنان الجرافيتي عن التخطيط للشكل المعماري الحديث في بناء المدينة العربية”.
يضيف: “علاوة على ذلك، يجب أن تكون هناك “مطابقة” بين المواطن ومؤسساته العامة، من دون تهديده كل يوم بالإجراءات التأديبية، ويجب أن يكون الفحص الدقيق والرؤى المثمرة هما الأساس في الترويج ونشر الفن الجرافيتي، ويُمكِن لجهود متعددة التخصصات، أن تنمو بشكل فعال لتوجيه الحياة نحو النمو. عندها يمكننا القول إن المدينة العربية أصبحت مهيأة لاستقبال هذا المشروع”.