في 31 يوليو، تنفست كوريا الجنوبية الصعداء بعدما استيقظت على خبر توصل مفاوضيها إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، وسط مخاوف في سول من تداعيات مُستقبلية على قطاع الصناعات الوطنية والعاملين فيه، نتيجة مساعي واشنطن لإلزامها بالإنتاج على الأراضي الأميركية.
ويأتي ذلك في ظل اعتقاد لدى خبراء، تحدثت إليهم “الشرق” في سول، بأنه من الصعوبة بمكان أن تتمكن كوريا الجنوبية من الإيفاء بموجبات الاتفاق الذي يُلزمها بضخ استثمارات في الاقتصاد الأميركي، تُعادل 80% من الميزانية السنوية للدولة الآسيوية.
وبالنسبة إلى كوريا الجنوبية، لم يُنجز العمل بالكامل، فبعض المجالات مثل الأدوية وأشباه الموصلات، لم يتم التفاوض عليها بعد، كما لا تزال الولايات المتحدة تتوقع إبرام صفقات بشأن “تحديث التحالف”، أو بالأحرى جعل سول تدفع المزيد من المال مقابل مظلة الحماية التي توفرها الولايات المتحدة.
في ظل هذه الظروف، يتوجه الرئيس الكوري الجنوبي الجديد لي جاي ميونج إلى واشنطن لـ”عقد أول قمة له مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب”، في “أول اختبار دبلوماسي” خلال فترته الرئاسية.
الاختبار الدبلوماسي الأول
أول قمة للرئيس “لي” مع ترمب ستعقد في وقت متأخر نسبياً من تنصيب الرئيس الكوري الجنوبي، بعدما أدى اليمين في الرابع من يونيو الماضي، مقارنة مع ما درَج عليه أسلافه باقتناص أقرب فرصة بعد انتخابهم من أجل المسارعة إلى زيارة واشنطن، ولقاء “سيد البيت الأبيض”، أياً كان شاغله.
فقد التقى سلف “لي”، يون سوك يول، بالرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن بعد عشرة أيام فقط من توليه منصبه، وقبل ذلك، التقى مون جاي إن، بترمب بعد حوالي شهر ونصف من توليه منصبه.
ويعود ذلك جزئياً إلى أن الرئيس “لي” لم يكن لديه فترة تنصيب، بل تولى منصبه مباشرةً بعد الانتخابات الرئاسية المبكرة في يونيو.
وقبيل قمته مع ترمب، سيعقد “لي” أيضاً قمة مع رئيس الوزراء الياباني شيجيرو إيشيبا، مما يجعل الأيام القليلة المُقبلة أول اختبار حقيقي للدبلوماسية بالنسبة له، على أن يرافقه في زيارته إلى واشنطن، رؤساء بعض أكبر الشركات الكورية الجنوبية، مثل سامسونج، ومجموعة إس كيه، ومجموعة هيونداي.
تفاصيل الاتفاقية “المُكلفة”
بعد عقد اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، من المتوقع أن تركز القمة على تفاصيل تلك الاتفاقية، لا سيما الاستثمارات القياسية التي وافقت كوريا الجنوبية على ضخها في الاقتصاد الأميركي.
ويُنظر إلى الرسوم الجمركية البالغة 15% في سول على أنها انتصار، إذ تضعها على قدم المساواة مع منافسيها في الاتحاد الأوروبي واليابان، وأشار استطلاع رأي حديث إلى أن ما يقرب من ثلثي الكوريين ينظرون إلى الاتفاقية بإيجابية.
إلا أن هذا الانتصار في الرسوم الجمركية تحقق بكلفة باهظة، إذ وافقت سول بموجبه على فتح أسواقها أمام المزيد من السلع الأميركية، واستثمار 350 مليار دولار في الصناعة الأميركية.
وقال مراقبون إن حوالي 150 مليار دولار من استثمارات كوريا سيجري تخصيصها لصناعة بناء السفن، بينما يذهب الباقي إلى مجالات أخرى اختارها ترمب الذي قال إنه “سيعلن عنها في القمة”.
هواجس كورية من الاتفاقية التجارية
البروفيسور تشو جاي وو، من جامعة كيونج، استبعد في تصريح لـ”الشرق” أن يكون استثمار مبلغ 350 مليار دولار من بلاده في الولايات المتحدة، قابلاً للتنفيذ، مشيراً إلى أن هذا الرقم يعادل حوالي 80% من الميزانية السنوية لكوريا الجنوبية.
وأشار “تشو” إلى نفي ترمب تصريحات الحكومة الكورية الجنوبية بأن هذه الأموال قد تكون على شكل قرض من البنوك الكورية المملوكة للدولة، إلى جانب وجود مخاوف من أن كل هذا الاستثمارات في الولايات المتحدة، وإعادة التصنيع على أراضي الأخيرة، سيؤدي إلى فقدان الوظائف في كوريا الجنوبية.
ورأى “تشو” أن حقيقة ما إذا كانت الصفقة التجارية جيدة أم سيئة لكوريا، ستُحدد من خلال كيفية تطور هذا الاستثمار، مشبهاً الاتفاق بأنه “سيكون أشبه بصندوق باندورا، الذي يرمز وفق الأساطير اليونانية إلى احتوائه على كل الشرور، الذي لا نعرف ما بداخله”.
ومن بين المجالات المُقلقة، مصير قطاع أشباه الموصلات، التي تنشط في تصنيعها شركات كوريّة جنوبية، وسبق أن صرّح ترمب بأنها “ستواجه تعريفة جمركية بنسبة تقارب 100%”.
ويعتقد المسؤولون الكوريون أن بلادهم تتمتع بوضع أفضل في ما يتعلق برسوم الرقائق، ولكن لا يزال من غير الواضح ما هي الرسوم الجمركية التي قد تواجهها شركات أشباه الموصلات الكورية، مع ذلك أشار وزير التجارة الأميركي هوارد لوتنيك إلى أن “شركات أشباه الموصلات التي تلتزم ببناء مصانع في الولايات المتحدة ستُعفى من هذه الرسوم”.
من ينفق على القوات الأميركية؟
إلى جانب التجارة، ستركز القمة على ملف آخر مهم، وهو الدفاع، فقد أراد المفاوضون الكوريون في البداية ربط التجارة والأمن في صفقة شاملة، على أمل أن تتمكن بلادهم من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي من الحصول على صفقة تجارية أفضل.
ويشار إلى أن كوريا الجنوبية تنفق نسبة عالية من ناتجها المحلي الإجمالي على جيشها، مقارنةً بالعديد من أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذين ألزمهم ترمب برفع إنفاقهم في هذا المجال إلى 5%، ولكن بعض القضايا الدفاعية الأخرى مثل عدد القوات الأميركية المتمركزة في كوريا ودورها ومن يتحمل تكاليفها، قد تُشكل تحدياً أكبر.
رئيس معهد إدارة الأمن في كوريا الجنوبية جو هيونج كيم، يعتبر في تصريح لـ”الشرق” أن أفضل نتيجة للرئيس “لي” هي “الحصول على ضمانات صريحة من التحالف مع التزام الولايات المتحدة الواضح بمستويات القوات الحالية”، متوقعاً أن تسعى سول “إلى تعزيز الإنتاج المشترك في مجال الدفاع والصناعة من خلال إبرام مشاريع ملموسة تُسهم في خلق فرص عمل أميركية، وتعزيز الجاهزية المشتركة”.
استعادة “عظمة بناء السفن الأميركية”
ويُعد قطاع الدفاع في سول من أقوى الأوراق التي من الممكن استخدامها في المفاوضات مع الولايات المتحدة، لا سيما في مجال بناء السفن، وقد سلّط المفاوضون الكوريون الضوء على ذلك من خلال مُغازلة الرئيس ترمب الفخور بشعاره “اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً” (MAGA)، عبر إهداء المسؤولين الأميركيين قبعات “بيسبول” حمراء، كُتب عليها شعار “استعادة عظمة بناء السفن الأميركية”.
وقال “كيم” إن “أقوى أوراق كوريا الجنوبية هي تطوير مفهوم MAGA بحسابات وظيفية واضحة، من خلال ربط التمويل والأدوات والتدريب الكوري مباشرةً بأحواض بناء السفن الأميركية، وتوظيف الولايات المتأرجحة.
وتستثمر شركات بناء السفن الكورية، مثل “هانوا” في أحواض بناء السفن الأميركية؛ لأن هذه الأحواض القائمة على الأراضي الأميركية، لا يمكنها بناء ما تحتاجه البحرية الأميركية.
من هنا، تأتي استعانة الولايات المتحدة بكوريا الجنوبية للمساعدة على سد هذا النقص، وبذلك يتصدر ترمب عناوين الصحف بأنه يحقق شعاره “صنع في أميركا”، بينما تسد وزارة الدفاع الأميركية ثغراتها على صعيد سلاحها البحري.
ورأى “كيم” أن “كوريا الجنوبية يُمكنها أيضاً إبراز موثوقية سلاسل توريدها الدفاعية كوسيلة لتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، وتوفير تسليم سريع للقوات الأميركية”.
تكاليف الدفاع و”التحديث”
وأثار ترمب موضوع وجوب تقاسم تكاليف الدفاع مع كوريا الجنوبية مرات عدة، قائلاً إن “على سول دفع 10 مليارات دولار سنوياً لدعم القوات الأميركية في كوريا”، مدعياً أنه حصل سابقاً على صفقة ممتازة لكن بايدن ألغاها.
وبموجب الاتفاقية الحالية التي تستمر حتى عام 2030، ستدفع كوريا الجنوبية 1.14 مليار دولار في عام 2026 لتغطية تكاليف العمال الكوريين في القواعد الأميركية في كوريا، وبناء المنشآت العسكرية والدعم اللوجستي، وقد يُعيد ترمب التفاوض على هذه الاتفاقية.
ويُثير دور القوات الأميركية في كوريا الجنوبية تساؤلات أيضاً، وما إذا كان من الممكن تقليص حجم هذه القوات في المستقبل القريب.
وصرح مسؤول حكومي كوري جنوبي سابق، طلب عدم الكشف عن هويته لـ”الشرق” بأنه من المتوقع أن تُشكل القضايا الأمنية المتعلقة بالقوات الأميركية في كوريا وتحديث التحالف تحديات لرئيس بلاده في قمته مع نظيره الأميركي، معتبراً أن مفتاح نجاح سول يكمن في كيفية التصدي لهذه التحديات.
وأضاف المسؤول السابق أن “هذه هي بداية (لي) على الساحة الدبلوماسية، وأن العديد من المحافظين الذين عارضوه خلال الانتخابات الرئاسية يأملون في فشل دبلوماسيته بالقمة”.
كوريا الجنوبية والنزاع مع الصين
وقد تضغط الولايات المتحدة أيضاً على كوريا الجنوبية للمشاركة بشكل أكبر في الجهود الأميركية لاحتواء النفوذ الإقليمي للصين، ودفع “لي” لاختيار أحد الجانبين، لا سيما وأنه يُعتبر مؤيداً لبكين.
وعلق “لي” علناً على ضرورة أن تقول سول “شي شي” أي ( شكراً) لكل من بكين وتايبيه، في حال تورطتا في نزاع، وهو ما يُفهم على أنه يجب أن تُحافظ كوريا الجنوبية على الحياد، وعدم التدخل في هذه النزاعات.
ويعتقد رئيس معهد إدارة الأمن في كوريا الجنوبية جو هيونج كيم أن “(لي) يرغب في تقليص التزام بلاده تجاه تايوان، وأن أفضل نهج هو ترك الأمر دون حسم وتأجيله إلى قمة مقبلة مع الرئيس الأميركي”.
وقال “كيم” إن “الحكم على الرئيس (لي) سيعتمد على ما إذا كان سيحصل على أي إعفاء من الرسوم الجمركية، ويتجنب زيادة كبيرة في تقاسم تكاليف الدفاع، ويحظى باحترام واضح من ترمب”.
ومع أن اتفاقية التجارة مع واشنطن لا تضع سول في وضع غير مواتٍ مقارنةً بالدول المنافسة للولايات المتحدة، إلا أنها تُنهي المعاملة التفضيلية التي حظيت بها كوريا الجنوبية في الماضي.
ولهذه القمة هدف أوسع من مجرد المفاوضات، ونجاحها ضروري لإعادة تأكيد الثقة المتبادلة في إطار التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، مع الأخذ في الاعتبار أنه على الرغم من توقيع اتفاقية تجارية مع واشنطن، إلا أن هذا النوع من الاتفاقيات يبقى قابلاً للتفاوض.