اخر الاخبار

قناة بنما.. الجفاف وتهديدات ترمب يعصفان بمصير أعجوبة هندسية

عاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وبدأ ولايته بالإعلان عن سلسلة من التدابير الشاملة، التي يقول إنها ستُتخذ “لجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، وأكد اهتمامه بـ”استعادة” قناة بنما في أمريكا الوسطى، متّهماً “الصين مراراً وتكراراً بالسيطرة على القناة الحيوية”. 

وبعد أكثر من 100 عام من بناء هذه “الأعجوبة الهندسية”، التي ربطت المحيطين الأطلسي والهادئ، وبعد 25 عاماً من إعادة القناة إلى بنما من قبل الولايات المتحدة، يواجه الممر المائي “ترهيباً متجدداً” من قبل ترمب.

واتهم ترمب، خلال خطاب تنصيبه رئيساً في ولاية ثانية، بنما مجدداً، بـ”خرق الوعود التي قطعتها على نفسها”، بعد نقل الملكية إليها في عام 1999، وأنها “تنازلت عن تشغيل القناة للصين”، وهو ما تنفيه الحكومة البنمية. وقال: “لم نسلمها للصين. لقد سلمناها لبنما وسنستعيدها”، قبل أن يضيف: “الولايات المتحدة بحماقة منحت القناة لبنما”.

وردّ الرئيس البنمي، خوسيه راؤول مولينو، على مزاعم ترمب قائلاً إن “القناة ستبقى بنمية”، مضيفاً أنه “لا توجد دولة تتدخل في إدارة القناة، وأن الحوار هو أفضل طريقة لحل القضايا التي أثارها ترمب”.

كما بدأت الحكومة البنمية تدقيقاً في شركة موانئ “هاتشيسون” المدرجة في هونج كونج، وتُدير موانئ طرفي القناة.

واستدعت تصريحات ترمب رداً من روسيا، عبر مسؤول شؤون أميركا اللاتينية بوزارة الخارجية الروسية، ألكسندر شيتينين، الذي قال إن بلاده “تتوقع أيضاً أن يحترم ترمب النظام القانوني الدولي لهذا الممر المائي”.

وتمتد قناة بنما بطول 82 كيلومتراً من خليج ليمون في المحيط الأطلسي، وتنتهي عند المحيط الهادي، وتقسم بين قارتي أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية. ويستخدمها ما يصل إلى 14 ألف سفينة كل عام، وهو ما يمثل 6% منِ حركة التجارة العالمية، وميزتها أنها تختصر رحلة الإبحار حول أميركا الجنوبية، والتي تمتد لمسافة 20 ألفاً و900 كيلومتر، لتصبح 8 آلاف و300 كيلومتر.

هذا الاختزال في زمن وصول البضائع، وكلفة نقلها، يجعل من القناة شرياناً مهماً للحياة الاقتصادية لبنما ولبلدان الأميركتينِ، وغيرها حول العالم.

وفي عام 2024، حققت القناة ما يقرب من 5 مليارات دولار من الأرباح الإجمالية. وفقاً لدراسة نشرتها IDB Invest في ديسمبر الماضي.

رحلة إلى تاريخ القناة

انتقلت “الشرق” إلى بنما، من أجل تسليط الضوء على قناتها وتاريخها، ودورها الحيوي في التجارة العالمية، والأخطار المناخية، التي تُهدد ديمومة عملها، والتقت مع أورلاندو كوستا، مدير قسم الذاكرة التاريخية لقناة بنما، الذي سرد قصة الممر الذي “افتُتح في عام 1914، حيث أبحرت أول سفينة في القناة في 15 أغسطس من العام نفسه، وكان اسمُها (أنكون) التجارية، وكانت أول تجربة حقيقية للإبحار في القناة”.

من جانبها، قالت ليسلي تو، التي تعمل مشرفة في القناة لـ”الشرق”، إن طول الممر، يبلغ 50 ميلاً ( حوالي 80 كيلومتراً)، يمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. وتضمّ “مسارين يعملان بشكل مستقل تماماً عن بعضهما البعض. ولدينا الممر الثاني وهو القناة الموسعة”.

كيف تعمل القناة؟

تتألف قناة بنما من ممرين. الأول يطلق عليه اسم “بنما ماكس”، وهو الأقدم إذ يعود تاريخ افتتاحه إلى عام 1914، ويتألف الممر من مسارين متوازيين يسمحان بالعبور ذهاباً وإياباً، تبحرُ من خلالهما السفن ذات الأحجام الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.

يبلغ الطول الأقصى للسفن المسموح بعبورها 291.4 متر، بعرض لا يتجاوز 32.3 متر، وعلى ألا يزيد عمق الغاطس 12.4 متر. وبقدرة استيعابية تصل إلى 5 آلاف حاوية. ويطلق على هذه السفن اسم “بنما ماكس”، نسبة إلى القناة.

أما الممر الثاني، الذي بدأ تشغيله في عام 2016، فبلغت تكلفة بنائه قرابة 7 مليارات دولار، وذلك بهدف توسيع أعمال القناة واستقبال سفن ذات حجم أكبر. يعمل هذا الممر بطريقة مختلفة، إذ تعبر السفن الواحدة تلو الأخرى، ويسمح بمرور سفن ضخمة، ويطلق عليه اسم “نيو بنما ماكس”، حيث يمكن أن يصل طولها (السفن) إلى 366 متراً، وعرضها 49 متراً وعمق الغاطس 15.2 متراً، أما قدرته الاستيعابية فتصل إلى 14 ألف حاوية.

عبقرية الأقفال المائية للقناة

عن الأسلوب العبقري الذي اعتماده في تصميم أقفال مداخل القناة ومخارجها، يشرح أياكس موريلو بورجوس، مهندس في قناة بنما لـ”الشرق”، أنه تم استلهامها من تصاميم الفنانِ الإيطالي من زمن عصر النهضة في القرون الوسطى، ليوناردو دافنشي. فهي على شكل حرف V اللاتيني، وتعمل بنظام الضغط الهيدروليكي. فعندما يتم ضخ المياه لتحريك الأبواب، تغلق تلقائياً، وبشكل محكم متأثرةً بضغط المياه الكبير داخل الحجرات، الذي يأتي عبر عشرات الفتحات التي تعمل على ضخ المياه من القاع إلى الأعلى.

يتكون ممر القناة من حجرات عدة، يبلغ طول الواحدة 305 أمتار، وعرضها يصل إلى 33.5 متر، ويقدر العمق بـ16 متراً تقريباً، أي بارتفاعِ بناءٍ مؤلفٍ من خمسة طوابق.

أما الأقفال، فهي تعمل بنظام مزدوج، وذلك منعاً لحصول الحوادث ولسهولة تنفيذ عمليات الصيانة، وتقدر كمية الفولاذ التي استخدمت في بناء الأقفال بأكثر من 26 ضعف الكمية التي استخدمت لبناء برج إيفل، حيث تستطيع هذه الأقفال أن تحتجز كمية مياه تكفي لملء 40 بركة سباحة أولمبية. وهي كمية كبيرة من المياه، يشكل توفرها، بكميات كافية، شرطاً ضرورياً لاستمرارية عمل القناة.

المصاعد المائية

وعن المياه في القناة، تشرح المشرفة في المنشأة، ليسلي تو، أن “القناة تربط بين المحيط الهادئ والبحر الكاريبي. ولدينا المحيطان على مستوى المياه نفسه، ولكن هناك بحيرة من صنع الإنسان تم إنشاؤها فوق سلسلة الجبال المعروفة باسم “بحيرة جاتون”، ويبلغ متوسط ارتفاع البحيرة 26 متراً فوق مستوى البحر”.

وهنا السؤال: كيف يتم رفع تلك السفن العملاقة من مستوى سطح البحر إلى ارتفاع 26 متراً؟ الإجابة كالتالي: عندما تدخل السفينة من أحد جانبي القناة، فإن الهيكل الخرساني يعمل كمصعد مائي. حيث تقوم الأقفال بحجز المياه ضمن الحجرات، من أجل رفع السفينة يتم ضخ المزيد من المياه داخل تلك الحجرة، وبمجرد وصولها إلى مستوى المياه في الحجرة الثانية يتم فتح الأقفال بين الحجرتين كي تعبر السفينة، ويكرر هذا الأمر في بقية الحجرات إلى أن تصبح السفينة بارتفاع مستوى مياه بحيرة جاتون، والتي تمتد ضمن سلاسل جبلية.

أما آلية الإنزال فتعمل بشكل معاكس، ويتم إنزال السفن ضمن الأقفال، لتصبح بارتفاع مستوى مياه المحيط في الطرف المقابل.

عملية العبور هذه تستغرق حوالي 8 إلى 10 ساعات، ويتم فيها قطع مسافة 80 كيلومتراً.

قصة الفكرةٌ الهندسيةٌ المبتكرة

في عام 1880 أطلق المهندس الفرنسي، فرديناند ديلسبس، فكرة حفر قناة بنما. وهو نفسه من أشرف على حفر قناة السويس في مصر.

وعلى الرغم من تشابه الفكرة بين القناتين، فإن كثرة التعقيدات التي أحاطت بإنشاء القناة في أميركا الوسطى، جعلت منها عقدة، عجز الفرنسيون عن تطويعها.

فعمليات الحفر في التضاريس الصعبة، وتفشي الأمراض، ولا سميا الملاريا والحمى الصفراء، والانهيارات الأرضية، وآلاف الضحايا ممن سقطوا نتيجتها، بالإضافة إلى تجاوز ميزانية المشروع المبلغ المرصود لها، والبالغ في حينها 300 مليون دولار، كلها أفشلت مشروع الفرنسيين.

أسباب فشل الفرنسيين

عن خسائر الفرنسيين خلال بناء القناة، يقول جان بورسول، مدير قسم الأبحاث التاريخية في متحف قناة بنما، إنه لا توجد سجلات لكل حالة وفاة حدثت خلال عمليات إنشاء القناة، لكنه أشار إلى أن تقديرات المؤرخين تتحدث عن الكثير من الأرقام، والتي تتراوح بين 5 آلاف و20 ألفاً.

وأضاف أن الرقم الحقيقي “غير معروف على وجه اليقين. لقد توفي الكثيرون خلال فترة المشروع الفرنسي، وهذا كان ذلك كافياً لانسحابهم”.

وذكر أنه “بعد عدة محاولات فاشلة من قبل شركات فرنسية أخرى لاستكمال الأعمال في بناء القناة، اضطرت الحكومة الفرنسية إلى بيع المشروع لصالح الأميركيين مقابل 40 مليون دولار فقط”.

وأشار إلى أنه تم توقع اتفاقية “هاي-بوناو-فاريلا” في عام 1903، بين فرنسا والولايات المتحدة.

عملية البيع هذه، شكلت عنصراً حاسماً في استقلال بنما عن كولومبيا، وطبعاً، لغاية في نفسها، الولايات المتحدة كانت داعماً رئيساً للثوار البنميين من أجل إعلان الانفصال، وفي الثالث من نوفمبر من ذلك العام، أعلنت بنما نفسها دولة حرة وذات سيادة، وتفاوضت مباشرة مع الأميركيين على شروط معاهدة لاستكمال أعمال بناء القناة على أراضيها.

استراتيجية أميركية لتجنب الفشل

أولى الخطوات التي قامت بها الحكومة الأميركية هي إرسال عدد كبير من الطواقم الطبية المتخصصة في مكافحة الأوبئة، وذلك بهدف وقف المذبحة التي تسببت بوفاة الآلاف من العمال.

وخلال عامين، نجح الدكتور ويليام جورجاس، وهو طبيب في الجيش الأميركي في السيطرة على تلك الأوبئة، وذلك من خلال محاربة البعوض عبر استخدام المبيدات الحشرية وردم المستنقعات وإزالة المناطق العشبية الطويلة. كما أمر ببناء نظام صرف صحي حديث. وقد مهد هذا النجاح الطبي، الطريق أمام الأعجوبة الهندسية، التي تمكن الأميركيون من بنائها لاحقاً، بخطط وتقنيات خلاقة، مكنتهم من القفز فوق فشل الفرنسيين.

بالنسبة إلى البنميين، لا تشكل القناة أهمية اقتصادية فحسب، بل هي إرث حضاري، ناضلوا من أجل بنائه، وخاضوا صراعات امتدت عقوداً من أجل استعادتها، وضمان بقائها تحت سيادتهم الوطنية، ونجحوا في انتزاعها من أيدي الدول الطامعة بالسيطرة عليها.

استنساخ تجربة تأميم السويس

يقول بورسولو إن “النضال الذي خاضه المصريون من أجل استعادة (تأميم) قناة السويس (في 26 يوليو 1956) ألهم الكثير من البنميين، واعتبروه مثالاً يحتذون به من أجل استعادة حقوقهم وسيادتهم على قناة بنما. لذلك، ما قام به الزعيم المصري جمال عبد الناصر من تأميم قناة السويس والسيطرة عليها، كان له صدى كبير وحقيقي في بنما، وكان سبباً في بدء الحراك الشعبي”.

وفي هذا السياق، يستعيد أورلاندو أكوستا، مدير قسم الذاكرة التاريخية لقناة بنما، أن “الحراك الشعبي بدأ بالتصاعد بشكل تدريجي إلى أن وصل إلى ذروته في 9 يناير 1964، عندما قام عدد من الطلاب البنميين برفع علم البلاد في أراضي منطقة القناة. وتحديداً في الساحة الرئيسة لإدارة القناة، التي كانت خاضعة للإدارة الأميركية، حاولت الشرطة التصدي لهم، ما أدى إلى مواجهات بين الطرفين”.

وأضاف أن “الرئيس البنمي آنذاك (روبرتو تشياري) قرر على الفور قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة آنذاك، واشترط إعادتها بطلب واحد وهو بدء التفاوض على شروط معاهدة جديدة بين الولايات المتحدة وبنما”.

وأشار إلى أن “المفاوضات لم تكن سهلة وخاصة أن الإدارة الأميركية، التي كانت تحت قيادة الرئيس جيمي كارتر، رافضة لفكرة تسليم القناة، لكن الانقلاب الذي حصل في بنما وساهم في وصول عمر توريخوس، إلى سدة الحكم، غير مجرى المفاوضات”.

وذكر أكوستا بأن توريخوس “كان يتمتع بتقدير من الطبقة المتوسطة واحترام الطبقات الفقيرة من شعب بنما. وكان مصمماً على استرداد الأراضي البنمية. في المقابل، حاولت الولايات المتحدة الاستعانة ببعض دول الجوار للضغط على حكومة بنما، لكن حكومات أميركا اللاتينية أجمعت على وجوب أن تعيد الولايات المتحدة القناة إلى البنميين”، مطالبين بإعادة النظر في الاتفاقية، وباتخاذ قرار عادل والاعتراف بحق أصحاب البلد في التفاوض من أجل توقيع معاهدة جديدة.

واعتبر أكوستا أن الاتفاقية الجديدة “كلفت كارتر حياته السياسية في الولايات المتحدة، وكان التوصل إليها نتيجة للجهد الدولي الذي قام به الجنرال عمر تورخيس، وأدت أيضاً إلى القضاء على النظام الاستعماري في منطقة القناة، وعودتها إلى البنميين”.

وتابع أنه في 7 سبتمبر 1977، “تحققت مطالب البنميين.. فقد وقعت معاهدة (كارتر- توريخوس) والتي نصت على استلام البنميين للقناة في عام 1999 وانسحاب الولايات المتحدة”، معرباً عن اعتقاده بأن “معاهدات كارتر-توريخوس يمكن أن تكون مثالاً يحتذى به في حل النزاعات”.

وأضاف أكوستا أنه بعد أن تم توقيع المعاهدة عام 1979، التي كانت تنص على تقاسم إدارة القناة بين الولايات المتحدة وبنما “خرجنا للاحتفال، وتم رفع العلم في ساحة (السير الكون) المطلة على القناة، أذكر أني في ذلك اليوم كنت برفقة والدي، وكانت هنالك حشود كبيرة في ساحة 5 مايو، عندها خرج الجنرال توريخيس وخاطب الجمع وأتذكر كلماته، عندما قال إن كل الأطفال البنميين المتواجدين اليوم في الساحة سيكونون رجال ونساء القرنِ العشرين، وسينعمون بخيرات القناة”.

غزو القناة

في عام 1989، وتحديد في 20 ديسمبر من ذلك العام، غزت القوات الأميركية، بنما، بأمر من الرئيس جورج بوش الأب، بهدف الإطاحة بزعيمها، مانوييل نورييجا، في عملية أطلقت عليها اسم “عملية السبب العادل”، وبررت ذلك باتهامها إياه بالاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال، وبحماية مواطنيها المقيمين في ذلك البلد الذي يتوسط الأميركيتين، وبتأمين الممر الاستراتيجي.

وعن هذه الجزئية، يضيف جان بورسولو، مدير قسم الأبحاث التاريخية في متحف قناة بنما، تبريراً أميركياً آخر على هذا الغزو، وهو “استعادة النظام الديمقراطي” في البلاد، الأمر الذي دفع نورييجا إلى اللجوء إلى سفارة الفاتيكان، الذي ظل مختبئاً فيها حتى يناير من العام 1990، ليسلم نفسه بعدها إلى الولايات المتحدة، حيث تمت محاكمته.

في نهاية ديسمبر من عام 1999، تسلمت بنما الإدارة الكاملة للقناة رسمياً، منهية آخر وجود أميركي في القناة، والذي استمر نحو 97 عاماً.

من أين تأتي المياه العذبة؟

وبشأن مصدر المياه العذبة، التي ترفد المصاعد المائية في القناة، فهو بحيرة جاتون، التي انشأها الأميركيون خصيصاً لتجميع المياه العذبة من الأمطار والأنهار، وتعتبر من أكبر البحيرات الاصطناعية في العالم، إذا تبلغ مساحتها نحو 400 كليومتر مربع.

ووفق ليسلي تو، المشرفة في القناة، “يتم جر المياه من البحيرة عن طريق الجاذبية باتجاه الأقفال (التي تضغط على أبواب المصاعد المائية لتغلقها) سواء على جانب المحيط الأطلسي أو المحيط الهادئ”.

وتنبه إلى أن المياه التي يستخدمونها كانت ستتدفق عبر الأنهار باتجاه المحيطات “لذلك نحن، ومن خلال إجراءات معينة، ندير المياه بشكل مدروس وصحيح، فهذه المياه العذبة مهمة جداً ليس فقط لعبور السفن، بل أيضاً للاستهلاك البشري، حيث إن هنالك ما يزيد على 50% من السكان في بنما يشربون من مياه هذه البحيرة، والقسم الآخر من المياه يتم تسخيره لعبور السفن، ولهذا الأمر قمنا ببناء السبخات لتجميع المياه وضمان استمرار تدفقها”.

وتشير ليسلي تو إلى كل سفينة تعبر القناة، تحتاج لاستخدام مليون لتر من الماء العذب في المصاعد المائية، في دخولها وخروجها، أي ما يكفي لملء 80 بركة سباحة أولمبية، وفي كل عملية عبور تذهب المياه بمعدل 100 مليون لتر باتجاه المحيط الأطلسي، و100 مليون لتر إلى المحيط الهادئ.

رسوم العبور

بالنسبة إلى الرسوم التي تدفعها الشركات المالكة للسفن لقاء عبورها ضمن القناة، فهي تعتمد على عدة عوامل أهمها حجم الحمولة. حيث تستقبل القناة أنواعاً وأحجاماً مختلفة بدءاً من السفن الشراعية وصولاً إلى السفن التجارية الكبيرة “نيو بنما ماكس”.

وتدفع السفن والقوارب الصغيرة رسماً يتراوح بين 700 و5000 دولار أميركي. وبالنسبة إلى السفن التجارية التي تصل حمولتها إلى 5 آلاف حاوية، تتراوح رسوم عبورها بين 100 ألف و400 ألف دولار.

أما السفن التي تعبر من خلال الممر الجديد الذي تم تصميمه لاستيعاب السفن الكبيرة، التي تصل حمولتها إلى 14 ألف حاوية فتتراوح رسوم عبورها بين 500 ألف دولار ومليون دولار لكل سفينة.

التحضيرات لعبور السفن

عن عمليات التحضير لعبور السفينة، قال خورخي بيتي، مدير العمليات في قناة بنما، إنه تبدأ قبل أشهر من وصولها، حيث يكون كل شيء مخططاً له سواء التاريخ أو ساعة الوصول، وحتى الحمولة. ويتم ذلك من خلال وكالة الشحن، التي تمثل السفينة في بنما، ويتوجب عليهم التواصل مع إدارة قناة بنما، ويتم أيضاً الدفع مسبقاً.

وأضاف أن فرق القناة تقوم بكل الخطوات اللازمة، بحيث تكون لدى تلك السفينة، عند وصولها، جميع الخدمات والموارد اللازمة، التي ستحتاجها، ويمكنها بعد ذلك المرور عبر قناة بنما”. وشرح أنه منذ لحظة وصول السفينة، يتم التواصل مع طاقم السفية من قبل إدارة حركة المرور البحرية، ثم يخبرون السفينة أين يجب أن تنتظر، في حال كان يتوجب عليها الانتظار، أو إلى أين يجب أن تتوجه، في حال كانت ستمر مباشرةً.

وقال إنه يتم “إرسال فريق من القناة لكي يصعد على ظهر السفينة، ويتولى بدوره عملية المرور، حيث يتألف الفريق من مختصين يصل عددهم إلى 20 شخصاً في بعض الأحيان”.

مخاطر تغير المناخ

وتشير ليسلي تو، المشرفة في القناة، إلى أن عدد السفن التي تعبر القناة يومياً، يترواح بين 35 و38 رحلةً يومياً. لكنها تنبّه إلى ما تواجهه القناة حالياً من “جفاف شديد. في الحقيقة العالم بأسره يواجه هذه المشكلة، وذلك بسبب تغير المناخ وظاهرة النينيو. لقد أثرت على المناخ، وبنما لم تنج من هذا التأثير. لذلك اتخذنا إجراءات معينة لسلامة عبور السفينة. وقمنا بخفض عدد السفن، حالياً تعبر 24 سفينة في اليوم.

هذا الخطر بدأ قبل سنوات، فقد ازدادتِ الظواهر الطبيعية، حدةً وقسوةً، ومنها ظاهرة النينيو المناخية، التي أثرت بشكل مباشر على المنطقة المحيطة، بقناة بنما، لتتركها فريسةً لأكثر السنوات جفافاً.

فقد سجلت معدلات هطول الأمطار مستويات أقل من الطبيعي، وبنسبة تتراوح بين %40 و50%.

هذا الجفاف أدى إلى انخفاض حاد في تدفق المياه الضرورية لتشغيل “المصاعد المائية”، التي تعتليها السفن، ما تسبب بمشكلات كبيرة أثرت على عدد وحجم السفن التي يمكنها العبور.

ويرى الصحافي المتخصص في البيئة، أبدييل دي ليون، أن إحدى المشكلات الرئيسية في قناة بنما حالياً هي نقص المياه، وذلك له عوامل عديدة. وتحدث عن تغير المناخ، فبشكل رئيسي في العام الماضي، “لم يهطل المطر بما فيه الكفاية، لدرجة أن إدارة القناة اضطرت ولمرات عدة لأن تخفض عدد السفن التي يمكنها العبور على جانبي القناة، سواء باتجاه المحيط الأطلسي أو المحيط الهادئ”.

وفي هذا السياق، يقول أياكس موريلو بورجوس، وهو مهندس في القناة، أن المنطقة تتعرض لظاهرة النينيو المناخية حالياً، وحمل تلك الظاهرة المسؤولية عن ارتفاع درجة حرارة مياه المحيط الهادئ قبالة سواحل الإكوادور وبيرو، منبهاً إلى أن استمرار نشاط هذه الظاهرة يؤثر على كميات هطول الأمطار في حوض قناة بنما، وفي جميعِ أنحاء أميركا الوسطى، والذي انخفض بشكل كبير، قبل ذلك بسنتين كنا أيضاً تحت تأثير ظاهرة النينيو.

نقص مياه الشرب

تأثيرات هذه التغيرات المناخية لا تقتصر على القناة فقط، بل تتعداها لتشمل كل شيء حي تقريباً.

وقال الصحافي البيئي أيدييل دي ليون، إن المدن الرئيسية مثل بنما العاصمة، وبنما الشرقية وكوكليه، “تعاني من مشكلات في تأمين مياه الشرب، حيث إن عدد السكان في هذه المناطق يصل إلى مليوني شخص، أيضاً، لم تعد محطات معالجة المياه قادرة على توفير مياه الشرب لجميع الأماكن التي يقطنها السكان”.

وأشار إلى أن هناك حديثاً عن ضرورة إنشاء خزانات ضخمة لمياه الشرب، لكن الحكومة تريد استخدام مياه تلك الخزانات نفسها، لضخها باتجاه القناة. لذا هناك ازدواجية في الخطة، “فليس من المنطقي القيام بذلك، إلا إذا قاموا بتخطيط حقيقي. ولكن لم يتم فعل أي شيء جدي من أجل السكان، وخصوصاً الفلاحين، ناهيك عن مشكلات أراضي السكان الأصليين، هذه المنطقة تجب حمايتها وطنياً ودولياً”.

تأثيرات اقتصادية

الخبيرة الاقتصادية والأستاذة في جامعة بنما، ماريبيل كالديرون، تؤكد على التأثير الكبير لتغير المناخ على اقتصاد بنما، “خاصة أن الموارد المائية تشكل مصدراً مهماً للدخل بالنسبة إلى بنما، فالقناة تؤمن 5% من إجمالي الناتج المحلي. ففي العام 2021، بلغ صافي دخل القناة حوالي ملياري دولار أميركي”.

وأعربت عن اعتقادها بأن “الحكومة الحالية لم تأخذ التدابير الكافية لمواجهة هذه الأزمة. على سبيل المثال، تم إقرار تقليص حوض القناة، وهذا بلا شك يؤثر على القناة، ما يعني أننا سنشهد المزيد من طوابير السفن التي تنتظر العبور، ولم نتمكن من ملء الخزانات، التي يجب أن تتراكم فيها المياه، هذا العام وصلنا إلى 50% فقط من احتياجاتنا”.

وخلصت إلى أن البنميين الآن “أمام تحد كبير، وسؤال صعب، كيف سنستخدم هذه المياه؟ هل ستكون الأولوية للقناة، أم لمياه الشرب؟”

إجراءات لتوفير المياه

نتيجة لهذه الأزمة، تقول ليسلي تو، المشرفة على القناة، إن إدارة قناة بنما اتخذت إجراءات عدة لتوفير المياه خاصة في الأقفال القديمة. حيث إننا نقوم باستخدام الممر الثاني كخزان نحفظ من خلاله المياه القادمة من بحيرة جاتون، ومن ثم نقوم بنقل الماء أثناء عبور السفن بين الممرين، وذلك لتقليل كمية المياه، التي ستخرج باتجاه البحر، ونستخدم الكمية التي تخرج بسبب السفينة، لحمل السفينة التي تليها. وبتطبيق هذه الخطوة نحن نوفر ما بين 40% و50% من المياه، وهذا أيضاً يعتمد على حجم السفينة وكمية المياه اللازمة لنقلها.

وفيما يخص الممر الجديد في القناة، فهو مزود بتسعة أحواض لتجميع المياه، تم بناؤها خصيصاً لتوفير المياه العذبة القادمة من بحيرة جاتون، ترتبط الأحواض ببعضها من خلال شبكة أنابيب ضخ تعمل على نقل المياه من وإلى الممرات، هذه التقنية تقلل من هدر المياه بنسبة 60%، ومن أجل ضمان فاعليتها يتوجب على السفن خفض حمولتها لكي يبقى غاطس السفينة عند أقل من المستوى الطبيعي بـ10 إلى 15%.

انخفاض مستوى بحيرة جاتون

ويشير المهندس في القناة أياكس موريلو بورجوس، إلى أن العام الماضي “شهد انخفاضاً في مستوى المياه في بحيرة جاتون إلى قرابة 1.5 متر، قمنا بتعليق ضخ المياه في سد البحيرة والمسؤول عن توليد الطاقة الكهرومائية للقناة، كل هذه الإجراءات التي نقوم بها ضرورية من أجل الحفاظ على حركة السفن”.

وشدد بورجوس على ضرورة الحذر “فظاهرة النينيو، قد يتراجع تأثيرها قريباً ولكنها ستعود مرة أخرى، يجب أن نكون مستعدين لذلك، الآن نحن يمكننا أن نلوم هذه الظاهرة، ولكن في المرة القادمة سنكون نحن الملامين إذا لم نتخذ قرارات حاسمة وجدية”.

من جانبه، اعتبر مدير قسم الذاكرة التاريخية لقناة بنما، أورلاندو أكوستا، أنه “من المحزن أن نرى هذه المشكلة، خاصة أن بنما من الدول التي لديها أعلى معدلات هطول الأمطار في العالم”، معترفاً بوجود “سوء إدارة للموارد المائية أوصلنا إلى هذه الحال، لدينا أنهار ولدينا بحيرات ضخمة مثل بحيرة جاتون”.

وأعرب عن اعتقاده بأنهم سيكونوا “ملزمين بوضع سياسات عامة من أجل توفير المياهِ ليس فقط لتشغيل القناة بل أيضاً للسكان. أنا متفائل بأننا سوف نقوم بهذا على أكمل وجه”.

إذاً، فالقناة، وبنما عموماً، تصارع في ظل الجفاف الذي تسببه ظاهرة النينو، وسط آمال بأن تنتهي هذه الظاهرة، وتعود الأمطار إلى الهطول بغزارتها المعتادة على البلاد، لترفع منسوب بحيرة جاتون، وكذلك من منسوب القناة، وتالياً، تعود إلى توفير مداخيل مهمة لخزينة الدولة، فتحسن من الأداء الاقتصادي، وتقلل مستوى العطش فيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *