قول في عبادة الأصنام –
غزوان قرنفل
لم تنتهِ عبادة الأصنام بمجرد أن حطمها إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وترك أكبرها ووضع فأسه عليها ليحرض لدى عبّادها وعبيدها ملكة المنطق والسؤال عمّن فعل ذلك، ثم ليقدم لهم ردًا يصعق المادة الدماغية في رؤوسهم ليحرضها على العمل، فقال: اسألوا كبيرهم (!) وكان جوابهم المنطقي: كيف نسأل حجرًا لا ينطق؟ ثم أوقفوا الفعل العقلي لرؤوسهم عند تلك الحافة ولم يجرؤوا على السؤال الأكثر منطقية، ولماذا إذًا نعبد هذا الحجر الذي لا ينطق ولا يملك القدرة على دفع الأذى عن مساعديه من صغار الآلهة!
ولكن لماذا توقف قوم إبراهيم ولم ينزلقوا إلى ما يفترض منطقيًا أنه تداعٍ للأفكار والأسئلة؟ والجواب بكل بساطة، أن الخشية من الكفر بتلك الآلهة والانتقال إلى ضفة الإيمان بما يبشر به إبراهيم، هي التي فرملت عقولهم، لأن تلك العقول اكتفت باستنساخ وتكرار ما ألفوا عليه آباءهم، فما أرادوا العبث في سكونيتها المريحة.
الخشية والارتعاد من كل ما هو جديد، ومن كل فعل أو قول يمس ما تحنط من أفكار في عقولنا هي التي تخلق آلية دفاعية في تلك العقول، خشية نبذ وطرد كل ما تم حشوه بها على مر السنين، وخشية المسّ بما يعتقده الإنسان من أفكار راكمها أو تمت مراكمتها في بنيته الذهنية على أنها الحقائق المطلقة التي يجب التسليم بها والانقياد لموجباتها، مهما طرأ من تبدلات وتطورات علمية ومعرفية في حياة البشر التي يعتقد الكثير من أصحاب الاعتقادات المتحنطة في عقله، أنها تستهدف كينونة تلك الأفكار والمسلمات ومضامينها الإيمانية.
وعلى هذا النسق يمكننا القول إن عصر عبادة الأصنام لم ينقضِ قطّ، ولا يزال الإنسان يبدع في صناعة أصنامه ليخر لها ساجدًا متعبدًا بكل ما يعتمل قلبه من هيام بها بكونها أبدع وأصوب ما رسّخه في عقله من حقائق لا يأتيها الباطل ولا يدحضها المنطق.
مناسبة هذا القول هو ما يتحفك فيه الكثير من محاوريك أو قارئيك أو متابعيك من آراء أو مواقف صنمية صلدة متلحفة بالإيمان ومتدثرة بالقداسة، مما ينقلك فورًا إلى خانة الزندقة والكفر إن حاولت رفع دثار القداسة عنها، وأن ما تحته ليس سوى أفكار وقول بشر يصيبون ويخطئون، وأنك تملك كل الحق في تمحيصها والقبول والأخذ بها أو دحضها ورفضها لمخالفتها قوام العقل وقيمة المنطق. لكن هيهات، فعبثًا تحاول، لأن ما ترسخ في تلك الأذهان هو مماثل تمامًا لأصنام إبراهيم عليه السلام التي قوضها، وموقف هؤلاء لا يغاير موقف قوم إبراهيم ودهشتهم من فعلته التي قذف لأجلها في نار جعلها الله عليه بردًا وسلامًا.
فالحديث النبوي شرط مكمل للإيمان حتى لو كان الحديث مناقضًا لنص من تلك الآيات والسور التي أرسلها لنا الله مرشدًا وهديًا، فإن نقضته وحاججت بعدم صحته، نقض إيمانك واعتور، وإن حاججت بهذا التناقض مع النص الإلهي، جاءك جواب أكثر إسرافًا وامتهانًا للنص والعقل أن الحديث ينسخ القرآن، فتجفل من ذلك التطاول على مقام الله وربوبيته ورسالته، لتدرك أن هؤلاء أخذتهم العزة بالإثم للدرجة التي جعلوا فيه لله أندادًا يعبدونها ويتوسلونها سبيلًا للغفران. ولكن أليس هذا تمامًا ما كان يفعله عبدة اللات والعزى؟ ألم يكونوا يتخذونها وسيلة ووسيطًا إلى الله الأحد!
قد يحدث أن تقارب رأيًا فقهيًا بالنقاش والمجادلة العقلية لأنك رأيت ما فيه مجافيًا للعقل والعلم، فينبري أمامك رهط من “حراس العقيدة” يحملون أقواسهم ورماحهم يطعنون فيها روحك وعقلك بلا هوادة، فكيف لمسخ مثلك أن تقارع رأيًا للشافعي أو لمالك أو غيرهما وهم من أرباب العلم والفقه والاجتهاد!
عجبًا، أليس هؤلاء بشرًا أعملوا عقولهم في النصوص واجتهدوا وخلص كل منهم إلى رأي قد يكون حصيفًا صائبًا، وربما يكون هشًا ومتهافتًا، فكيف تقر لهم بالحق في إعمال العقل والاجتهاد في النصوص، وترفض وتحجب ذلك عن غيرهم؟ فهل حق استعمال العقل حقًا حصريًا لفئة من البشر أم واجبًا على عموم البشر؟ وكيف تقبل رأيًا أو اجتهادًا، حتى لو كان صاحبه الشافعي أو مالك أو غيرهما، وأنت ترى أمامك أنه يناقض المنطق والعلم والعقل القويم؟ هل تذييل الرأي أو الاجتهاد باسم الشافعي أو غيره يكسبه حصانة من النقد أو النقض؟
إن علّقت على فتوى أو رأي إمام أو رجل دين وخطأته ستقوم قيامتك لا محالة، وستتعرض لهجمة من سرب كبير من البعوض الذي لطالما استمرأ العيش في مستنقعات “الفقه الأجوف”، في محاولة لنقل البكتيريا المستوطنة في تلك المستنقعات إلى الدماء التي تغذي عقلك الذي سمحت له بالتطاول على أفكار تلك الأصنام البشرية أو البشر المصنّمة لا فرق، علّه يكف عن القيام بوظيفته التي خلق لأجلها. أليس كل ذلك يشبه صورة قوم إبراهيم الذين ما تجرؤوا على الإجابة عن ردهم الاستنكاري عليه (وكيف نسأل حجرًا عمّن دمّر أصنامنا)؟
فقه التصنيم وعبادة الأصنام ليس قاصرًا بالقطع على زمان مضى وانقضى، فهناك من يصنّم كاتبًا أو مفكرًا ويسبغ عليه وعلى نتاجه كامل القداسة التي لا يجوز لأي ناقد أو باحث أو مفكر النيل منها، وهناك أيضًا من يصنّم زعيمًا سياسيًا فيرى فيه دون غيره أعلى مستوى من الحنكة والبصيرة والوطنية وكل من يخالفه خائن وعميل.
هو فقه راسخ وعابر للزمن والمحتوى في مجتمعاتنا التي أدمنت تنحية العقل وإقالته من وظيفته، فيما لا تزال تطوف حول كعبة أفكارها المزنرة باللات والعزى وهبل ومناة وسواع وود، وآلهة أخرى من كل شكل ولون.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي