تظهر الولايات المتحدة اهتماماً خاصاً بنفط فنزويلا، خاصة خلال الولاية الثانية للرئيس دونالد ترمب، على الرغم من أن واشنطن أصبحت في السنوات الأخيرة واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، ولكنها شددت القيود على النفط الفنزويلي، ثم ظهور نقاشات داخل واشنطن بشأن ترتيبات محدودة قد تسمح بعودة بعض البراميل إلى السوق الأميركية وفق شروط صارمة.

وقد يبدو الأمر متناقضاً، لماذا يحتاج بلد يملك إنتاجاً ضخماً واحتياطيات استراتيجية كبيرة إلى نفط من دولة تخضع لعقوبات، ويشن عليها حرباً ولو محدودة في محيط ساحلها؟ الإجابة تتعلق بنوع النفط، وبالهندسة التي بُنيت عليها مصافي أميركية محددة، وبحسابات سوقية وتقنية تجعل بعض البراميل “أكثر فائدة” من غيرها، حتى لو كانت الكميات الإجمالية من النفط وفيرة.

نفط “ثقيل” لا يُستبدل بسهولة

النفط الفنزويلي في معظمه “خام ثقيل” وعالي الكبريت. وهو أكثر كثافة ولزوجة من النفط “الخفيف والحلو” الذي تنتجه كثير من الحقول الأميركية، وخاصة حقول النفط الصخري في تكساس ونورث داكوتا.

هذا الفارق ليس هيناً ولا ثانوياً بالنسبة لواشنطن، بل هو عنصر يحدد طريقة التكرير ونوعية المنتجات النهائية، فالخام الثقيل يعطي عادةً حصصاً أكبر من منتجات مثل الديزل، ووقود السفن، والمواد المستخدمة في صناعة الأسفلت، مقارنة بالنفط الخفيف الذي يوجه أكثر نحو إنتاج البنزين ومشتقات أخف.

والأهم أن معالجة الخام الثقيل تتطلب وحدات صناعية متقدمة داخل المصافي، مثل وحدات التكسير الحراري cokers، ومنشآت إزالة الكبريت، وهي معدات مكلفة صُممت خصيصاً للتعامل مع هذا النوع من الخام.

لذا.. لا تستطيع المصافي المعقدة التي اعتادت الخام الثقيل أن “تستبدله” فوراً بنفط خفيف دون تبعات. التحول إلى خام أخف قد يستلزم تعديلات تشغيلية، ويغير مزيج الإنتاج، وفي بعض الحالات يضغط على كفاءة المصفاة وربحيتها. بمعنى أبسط، ليس المهم فقط وجود النفط، بل أن يكون النفط مناسباً لما صُممت عليه آلات التكرير.

ساحل الخليج.. تاريخ طويل مع الخام الثقيل

تتركز المصافي الأميركية الأكثر تعقيداً على ساحل الخليج، في ولايات مثل تكساس ولويزيانا. وهذه المصافي، تاريخياً، بُنيت للاستفادة من الخام الثقيل المستورد من جوار الولايات المتحدة، خصوصاً من فنزويلا والمكسيك.

وكانت تلك الإمدادات، لسنوات طويلة، توفر خاماً يلائم تصميم المصافي ويأتي غالباً بسعر أقل من الخامات الأخف.

لكن هذا النظام تعرض لاهتزازات سياسية واقتصادية متكررة. ففي 2019، وخلال الولاية الأولى لترمب، فرضت واشنطن عقوبات واسعة على قطاع النفط الفنزويلي للضغط على حكومة الرئيس نيكولاس مادورو. ثم خففت لاحقاً بعض القيود عبر تراخيص سمحت بتدفقات محدودة.

وفي 2025، عادت السياسة لتتجه نحو تشديد جديد، حين ألغت وزارة الخزانة الأميركية تراخيص كانت تسمح باستيراد محدود للنفط الفنزويلي، مبررة ذلك بقضايا سياسية داخل فنزويلا وملفات أخرى مرتبطة بالهجرة. وكانت النتيجة المباشرة أن مصافي أميركية اعتادت هذا النوع من الخام وجدت نفسها مضطرة للبحث سريعاً عن بدائل.

إذا لم يكن من فنزويلا.. فمن أين يأتي الخام الثقيل؟

العامل الذي جعل 2025 عاماً حساساً لسوق الخام الثقيل هو أن فنزويلا لم تكن وحدها المشكلة. فالمكسيك أيضاً، وهي مصدر تقليدي لخامات ثقيلة مثل “مايا”، كانت تخفض صادراتها، سواء بسبب تراجع الإنتاج أو بسبب توجهها لتغذية مصافيها الداخلية، إضافة إلى تغيرات في نوعية الخام من حيث ارتفاع الكبريت.

أبرز البدائل للمصافي الأميركية:

  • كندا: أكبر مورد للنفط إلى الولايات المتحدة إجمالاً، بفضل إنتاج الرمال النفطية. الخام الكندي الثقيل بات واحداً من أهم البدائل، ومع أي نقص في الإمدادات من فنزويلا أو المكسيك يتزايد الطلب عليه سريعاً.
  • أميركا اللاتينية خارج فنزويلا: مثل كولومبيا والبرازيل، إذ ارتفعت صادرات بعض الخامات الثقيلة إلى الولايات المتحدة في 2025 لتعويض جزء من الفجوة.
  • الشرق الأوسط: حين لا تكفي البدائل القريبة، تلجأ المصافي أيضاً إلى خامات أثقل وحامضة من العراق والكويت والسعودية وغيرها. هذا الخيار يعني مسافات شحن أطول، لكنه يوفر خصائص خام قريبة مما تحتاجه المصافي.

غير أن الاعتماد على هذا “الخليط” من البدائل يظل أقل استقراراً من مصدر قريب ومتخصص مثل فنزويلا، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بخامة ذات مواصفات محددة تحتاجها المصافي بشكل منتظم.

لماذا لا يكفي النفط الأميركي؟

الولايات المتحدة تملك إنتاجاً ضخماً، كما تمتلك احتياطياً استراتيجياً كبيراً يُستخدم عادة في حالات الطوارئ أو اضطراب الإمدادات. لكن هذه الحقيقة لا تجيب وحدها عن السؤال التقني، هل النفط الأميركي هو “النوع” الذي تحتاجه كل المصافي؟

الإنتاج الأميركي في معظمه يميل إلى النفط الخفيف، فيما تحتاج مصافٍ محددة، خاصة في ساحل الخليج، إلى كميات ثابتة من الخام الثقيل لتحقيق أفضل تشغيل. ولهذا، فإن وفرة النفط لا تعني بالضرورة وفرة المواصفات المناسبة.

كما أن سوق الوقود الأميركي لا يقوم فقط على البنزين، بل على الديزل ووقود الطائرات ومنتجات صناعية أخرى. وفي كثير من الأحيان، يكون النفط الثقيل خياراً اقتصادياً وتقنياً أفضل لإنتاج بعض هذه المشتقات، وهو ما يفسر استمرار استيراد الولايات المتحدة لدرجات ثقيلة، حتى في أوقات ارتفاع إنتاجها المحلي.

فنزويلا.. احتياطي هائل وإنتاج أقل من القدرة

تملك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، ويتركز جزء كبير منه في “حزام أورينوكو”، حيث النفط فائق الثقل. لكن هذه القوة النظرية اصطدمت بواقع تراجع الإنتاج على مدى سنوات، نتيجة ضعف الاستثمار، وتدهور البنية التحتية، وتعقيدات العقوبات.

ومن هنا يظهر البعد الاستراتيجي، فنزويلا ليست فقط مورداً محتملاً لخام ثقيل تحتاجه مصاف أميركية، بل هي أيضاً لاعب يمكن لعودته أو غيابه أن يؤثر على سوق النفط العالمية، خصوصاً في فئة الخام الثقيل التي تُعد أضيق سوقاً من النفط الخفيف.

و”حزام أورينوكو” هو منطقة تقع في الشريط الجنوبي لحوض نهر أورينوكو الشرقي في فنزويلا، والتي تحتوى على أكبر احتياطيات للنفط في العالم.

شاركها.