عندما أعلن عن تكريم نجمة هوليوود الكبيرة كيم نوفاك في مهرجان فينيسيا السينمائي، عدت بذاكرتي إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما وقعت في فتنة كيم نوفاك من خلال فيلمين شاهدتهما ضمن عروض برنامج “نادي السينما” الذي كانت تقدمه درية شرف الدين في التليفزيون المصري ليلة السبت من كل أسبوع.
الفيلمان هما Picnic وVertigo، اللذان يعدان الآن من روائع السينما العالمية، وخاصة Vertigo الذي يعده الكثيرون أفضل فيلم في تاريخ السينما (من ذلك حصوله على المركز الأول في استطلاع مجلة Sight & Sound في 2014، والمركز الثاني وفقاً لاستطلاع 2024)، وهما بالتأكيد أفضل ما قدمت النجمة الفاتنة التي ألهبت سنوات مراهقتنا مع عدد قليل آخر من نجمات السينما.
آخر النجمات
كيم نوفاك، البالغة من العمر 92 عاماً (من مواليد فبراير 1933) هي واحدة من فاتنات هوليوود الخالدات، ودائماً ما يرد اسمها ضمن استطلاعات أكثر الممثلات جاذبية وسحراً وإثارة.
وهي واحدة من أكمل منتجات مصنع الأحلام ونظام النجوم الذي تعرض للأفول والتغيرات الحادة مع نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن العشرين، كما أنها آخر أسطورة حية من أساطير “العصر الذهبي لهوليوود”.. لذلك لم يكن غريباً أن تُستقبل أثناء صعودها إلى المسرح لتلقي أسد فينيسيا الفخري بعاصفة من التصفيق وقوفاً امتدت لما يقرب من 15 دقيقة.
تصفيق حماسي جياش بمشاعر الحنين للسينما وللأفلام التي شكلت ذائقة وخيال عشاق السينما على مدار عقود، وأيضاً للمرأة القوية التي لم تزل تحتفظ بلياقتها وحضورها، والتي، لمن يعرف تاريخها، اتسمت بالشجاعة والجرأة على تحدي هوليوود ونجوميتها الشخصية لتعيش كما أرادت حرة و”متمردة” على حد وصف مدير مهرجان فينيسيا ألبرتو باربيرا.
أشباح الفتنة
أعتقد أن الاستقبال الحار الذي حظيت به نجمة هوليوود كان محملاً أيضاً بقدر من التقدير المشوب بالشفقة الذي يشعر به الصغار حين يكونون في حضرة كبار السن، خاصة حين يكونون قد تجاوزا التسعين، أو حين يتصفحون صور الأجداد الذين كانوا في يوم من الأيام ممتلئين بالشباب والحيوية والجمال.
ولعل جزءا كبيراً منه ناتج أيضاً عن رؤية الشبح الأكثر جمالاً وغواية على الشاشة، من خلال دورها في فيلم Vertigo، وقد دبت فيه الحياة، وأصبح أمامهم وجهاً لوجه.. حتى إذا كان هذا الشبح قد تحول إلى عجوز فارقها الجمال، تتسلم “الأسد الذهبي” من المخرج المكسيكي جوليرمو ديل تورو، الذي يشارك في المهرجان نفسه بفيلم عن شبح آخر مختلف قادم من أعماق ماضي السينما وهو “فرانكنشتاين”.
المفارقة مرعبة، ولكنها حقيقية، ومرتبطة بذكرى أخرى مع كيم نوفاك: لقد أعلنت النجمة اعتزالها، واختفت عن الأنظار تماماً منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، لتعود للظهور في حفل الأوسكار لعام 2014.
وكانت قد قامت، تهيباً من الحفل وخشية من تأثير علامات السن عليها، ببعض عمليات التجميل، مثل شد الوجه وزرع البوتيكس في خدودها وتصغير أنفها، ما تسبب في تغير ملامحها وظهورها بمظهر مثير للشفقة والجزع.
وقد قام البعض في وسائل الإعلام وصفحات وسائل التواصل بالسخرية منها بعنف، وكان منهم دونالد ترمب (الذي كان رئيساً أيضاً في تلك الفترة)، والذي كتب على موقع “إكس” أن “على كيم نوفاك أن تقاضي طبيب التجميل خاصتها”!
نوفاك التي استاءت كثيراً في تلك الفترة، وعادت للاختفاء حتى ظهورها الأخير في فينيسيا، قالت لاحقاً أن أكثر شيء تندم عليه في حياتها هو إجراء عمليات التجميل هذه التي شوهت ملامحها.
مع ذلك، فقد بدت نوفاك خلال ظهورها في فينيسيا بصحة جيدة وجميلة بالنظر إلى سنها، ولعلها باتت الآن أكثر تقبلاً لقوانين الطبيعة القاسية.
غالباً اتخذت نوفاك قرار إجراء عمليات التجميل في لحظة ضعف غريبة عليها، هي التي تحدت الصورة النمطية التي فرضتها عليها هوليوود، وقررت أن تعيش حياتها بعيداً عن شروط وضغوط السوق والرأي العام.
من جارية إلى ملكة
ولدت مارلين باولين نوفاك (التي عرفت باسم كيم نوفاك) في شيكاجو لأبوين مهاجرين من أصل تشيكي، وكان أبوها عامل سكك حديدية وأمها عاملة في مصنع، وتروي كيم في الفيلم الوثائقي Kim Novak’s Vertigo للمخرج ألكسندر فيليب، الذي عرض بمناسبة تكريمها في فينيسيا أن أمها حاولت إجهاضها بسبب الظروف المادية السيئة، وحتى بعد أن ولدت حاولت خنقها بمخدة، ورغم أنها نجت، إلا أنها ظلت تعاني من مشكلة في التنفس.
تروي أيضاً أنها كانت تتعرض للتنمر والإهانات في صغرها؛ بسبب أصولها الفقيرة والأجنبية، ولكنها تعلمت أن تتحمل وتقاتل، وقد تفوقت في دراستها، وحصلت على شهادة جامعية في الفن التشكيلي، كما أنها تجيد الكتابة، وكانت تنوي أن تتفرغ للرسم والأدب، غير أنها خلال زيارة إلى لوس أنجلوس في بداية الخمسينيات أصبحت عارضة أزياء، ثم تحولت إلى ممثلة بعد ان اكتشفها مدير شركة كولومبيا هاري كون، الذي عرف بصرامته ومعاملته القاسية للمممثلين، وقد فرض عليها كون تغيير اسمها “لا يوجد سوى مارلين واحدة فقط هي مارلين مونرو”، كما فرض عليها تغيير ملامحها لكي تكتسب أسنان جوان كروفورد، وشعر جين هارلو، مما ترك عليها تأثيرا سلبياً شديداً، حتى أنها كرهت هوليوود منذ البداية.
من الطريف أن ما حدث معها يذكر بما يحدث للشخصية الرئيسية من قبل رجلين مختلفين في فيلم Vertigo! وفي حوار أخير لها لصحيفة “الجارديان” البريطانية تقول نوفاك أنها تماهت مع شخصيتي مادلين وجودي اللتين تؤديهما في الفيلم (وهما شخصية واحدة لا نعرف هويتها في الحقيقة) لأنهما تشبهانها كثيراً: “كلتاهما طلب منهما أن تغيراً حقيقتهما، وأن يصبحن شيئا لا يمت لهما”.
خلال سنوات معدودة تحولت الفتاة الصغيرة التي بدأت كعارضة، ثم كومبارساً في بعض الأفلام، ومنها Son of Sinbad، 1954، الذي لعبت فيه دور جارية في حريم السلطان، إلى النجمة الأكثر شعبية، خاصة بعد بطولتها لفيلم Picnic، إخراج جوشوا لوجان، 1954، المصور بتقنية “السينما سكوب” وتقنية “التكنيكولور” التي كانت جديدة وقتها، ودشنت فيه صورتها كنجمة إغراء على طريقة مارلين مونرو، وصولاً إلى دورها الأيقوني في Vertigo، 1958، تحفة ألفريد هيتشكوك، الذي تجسد فيه ذروة الجمال الأنثوي، وغموضه، وفتنته الخطرة، كما لم يفعل فيلم من قبل.
بين الساخن والبارد
وجمال كيم نوفاك فريد من نوعه، فهو بارد وعصي على النمط الإسكندنافي، ولكنه يمكن أن يصبح، بفضل صوتها المبحوح الهامس وجسدها الفارع، يمكن أن يكون حسياً وساخناً للغاية، هذا الجمال الذي يجمع الأرستقراطية مادلين، بابنة الشوارع الخلفية جودي!
وصل الصراع بين نوفاك وهوليوود ذروته؛ بسبب علاقتها بالمغني الأسود سامي ديفيز الابن، في وقت كان ينظر فيه إلى العلاقات العاطفية بين البيض والسود كانتهاك غير مقبول وغير مسموح به علناً، وقد تدخل لاري كون مدير “كولومبيا” لإجبار الاثنين على إنهاء قصة حبهما بعد أن هدد ديفيز بالقتل وبالقضاء على مستقبل نوفاك.
هذه العلاقة التي تحولت إلى موضوع فيلم بعنوان Scandalous من إخراج كولمان دومنيجو وبطولة سيدني سويني وديفيد جونسون، عرض لأول مرة ضمن عروض “سوق كان” في مايو الماضي، ومن المنتظر عرضه العام قريباً، في تعليقها على الفيلم قالت كيم نوفاك لصحيفة “الجارديان”: “لم تكن علاقة “فضائحية، كانت هناك أشياء مشتركة كثيرة بيننا، الحاجة إلى أن يقبلنا الناس على ما نحن عليه حقيقة، وليس على ما نبدو عليه. ولكن أخشى أن يحول الفيلم الأمر إلى أسباب جنسية فقط”.
بمرور الوقت تفاقمت كراهية نوفاك لهوليوود، حيث بدأت تنزعج من الأدوار التي تعرض وتسند إليها، “بدأت أخاف من كيم نوفاك”، رفضت نوفاك الكثير من هذه الأدوار النمطية، كما أضربت عن العمل اعتراضا على حصول زملاءها الرجال على أجور أعلى من النساء، وقامت بتأسيس شركتها الخاصة لتنتج الأفلام التي تحبها.
ورغم الهشاشة التي تبدو عليها على الشاشة، إلا أن كيم نوفاك أثبتت أنها واحدة من أقوى النساء اللواتي مررن على هوليوود. رفضت أن يتحكم فيها أحد، وتركت هوليوود في عز شعبيتها ومجدها وهي لم تتجاوز الثلاثين سوى بسنوات معدودة.
وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض فيلم Kim Novak’s Vertigo في فينيسيا، كشفت سو كاميرون مديرة أعمال نوفاك وأمينة سرها لعقود، والمنتجة المنفذة للفيلم، بعض المعلومات غير المتداولة عن سبب ترك النجمة اللامعة لهوليوود في عز شهرتها ونجاحها، مبينة أن الأمر تفاقم عندما شب حريق في بيتها، ثم تساقطت بعض أجزائه الجبلية، ما اعتبرته نوفاك “علامة”.
ولكن الأمر حسم عندما ذهبت ذات يوم لشراء “المخلل” الذي تعشقه، فلم تجد محلاً واحداً يبيعه، وهنا أدركت أنها لن تستطيع البقاء في هوليوود بعد اليوم، فحزمت أمتعتها، وانتقلت إلى بيت بعيد كانت قد اشترته منذ فترة.
عقب اعتزالها تفرغت كيم نوفاك للرسم. “أمضي 8 ساعات يوميا في الرسم”، كما تقول في الفيلم الوثائقي، “لقد أنقذ الرسم حياتي”. ومن المعروف أنه في بداية الألفية تبين أن نوفاك مصابة باضطراب ثنائي القطب، وعولجت منه.
في حوارها مع “الجارديان” تطرقت نوفاك لتعليق دونالد ترمب السخيف، وقالت أنها لم ترد على تنمره، ولكنها انتقدت ديكتاتوريته، وحثت الناس على التشجع والاعتراض على سياساته، وحول سؤال عن وضع النساء في هوليوود وهل حقق أي تقدم قالت النجمة التي اشتهرت بأنوثتها: “تقدمنا، ولكن دائماً ما نعود إلى الوراء، لا تزال الجاذبية الجنسية هي الأساس، وبات بإمكان وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي إظهار كل شيء غير حقيقي، إنهم مخرجون اليوم السيئون، الذين يحاولون إعادة تصنيع النساء”.
وأخيرا تجيب كيم نوفاك على سؤال كيف تريدين للناس أن تتذكرك؟ فتقول: “أريد أن يفكروا في أنني كنت صادقة مع نفسي، وأنني وضعت لنفسي معايير عالية وعشت بها.”
* ناقد فني