في السابع عشر من يونيو 2025، بلغ المخرج البريطاني كين لوتش عامه التاسع والثمانين، محتفظاً بمكانته كأحد أكثر المخرجين التزاماً بقضايا الطبقة العاملة والعدالة الاجتماعية في السينما العالمية، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن، ظلّ لوتش وفياً لرؤية سينمائية منحازة للإنسان العادي، في مواجهة أنظمة القهر السياسي والاقتصادي.
وُلد لوتش في بلدة نونيتون البريطانية عام 1936، وترعرع في بيئة شعبية كانت مصدر إلهام دائم لأعماله، حيث يتقاطع اليومي بالسياسي، وتتحوّل قصص الحياة البسيطة إلى مرآة لواقع معقد.
من التلفزيون إلى السعفة الذهبية
كانت انطلاقة لوتش مع فيلم Cathy Come Home (كاتي، عودي إلى البيت – 1966)، الذي عُرض على شاشة التلفزيون البريطاني، وسرعان ما تحوّل إلى صدمة مجتمعية بسبب تصويره القاسي لانهيار أسرة بريطانية في دوامة الفقر والتشرد.
توالت بعدها أعماله ذات الطابع الواقعي والنقدي، أبرزها Kes (1969)، وMy Name is Joe (اسمي جو – 1998)، وThe Wind That Shakes the Barley (الريح التي تهز ذؤابات الشعير – 2006)، وهو الفيلم الذي نال عنه السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي، ثم كرر الإنجاز ذاته بفيلم I, Daniel Blake (أنا دانييل بليك – 2016)، في تتويج لمسيرة لم تنفصل يوماً عن نبض الفئات المهمّشة.
سينما الالتزام الأخلاقي
تميّزت أعمال لوتش بسينما تقوم على البساطة الشكلية والمضمون العميق، حيث يتقدم السرد الواقعي على أي تزيين بصري، أفلامه تمضي مباشرة إلى الجرح: البطالة، الخصخصة، تفكك الدولة، وضياع الكرامة الفردية تحت وطأة البيروقراطية.
في Sorry We Missed You (عذراً، لم نجدكم – 2019)، يُقدّم لوتش صورة قاسية عن اقتصاد “العمالة المؤقتة”، بينما يحفر في I, Daniel Blake داخل فجوة الانهيار بين القانون والرحمة، موثقاً كيف يمكن لقانون الرعاية أن يتحوّل إلى أداة قهر.
The Old Oak.. حين يصبح الغريب حليفاً
في فيلمه الأخير The Old Oak (2023)، يُسلّط لوتش الضوء على بلدة بريطانية تحتضر اقتصاديًا، تتبدّل ملامحها بوصول مجموعة من اللاجئين السوريين. ومن خلال علاقة إنسانية بين صاحب حانة بريطاني ولاجئة شابة، يبني لوتش سردًا متعاطفًا يدعو إلى إعادة اكتشاف التضامن الإنساني في مواجهة العنصرية والخوف من الآخر.
مواقف لا تُهادن
يُعرف لوتش بمواقفه الصريحة خارج الشاشة أيضاً، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لم يتردد يوماً في وصف السياسات الإسرائيلية بأنها شكل من أشكال الفصل العنصري، ودعا مراراً إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الإسرائيلية. بالنسبة إليه، “السينما لا يمكن أن تقف على الحياد حين يُقتل الأبرياء ويُهجَّر الأطفال”، على حد تعبيره في إحدى المناسبات.
ورغم حصوله على جوائز رفيعة، منها مرتان للسعفة الذهبية من مهرجان كان، إلى جانب تكريمات من مهرجانات برلين وفينيسيا والبافتا، إلا أن لوتش ظلّ يرى في السينما أداة مقاومة لا منصة للاحتفاء.
قال ذات مرة: “المهرجانات تنتهي، لكن معاناة الناس لا تنتهي. عليّ أن أكون هناك، في الحكاية، لا على السجادة الحمراء”.
شكراً كين جِئتَ إلينا ووجدتنا!
لقد جعل كين لوتش من السينما وعداً أخلاقياً بالعدالة، وحفّز من شاهد أفلامه على الاقتناع بأنّ التغيير ممكنٌ، وبأنّ التضامن بين البشر ومعهم، ليس كلمة عابرة، بل خيارُ وجود.
بعد عرض The Old Oak، أشار لوتش إلى أنّه قد يكون فيلمه الأخير، بسبب التقدم في العمر. لكنه ترك الباب موارباً قائلاً: “إذا ما وجدت قصة تقتضي أن تُروى، سأرويها. لا أتقاعد من قول الحقيقة”.
وفي عامه التاسع والثمانين، يواصل كين لوتش تذكيرنا بأن السينما ليست فقط للترفيه، بل يمكن أن تكون أيضاً صوتاً لمن لا صوت لهم.