اخر الاخبار

لماذا فشلت جهود السلام في السودان؟

على مدى عامين من حرب السودان فشلت كل جهود السلام على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، على رغم المحاولات المتتالية لهندسة معادلات يمكن أن تقفز على إشكاليات التفاعلات المعقدة بشأن البلاد على المستوى الإقليمي والدولي من حيث تقاطع المصالح، وكذلك تستطيع التعامل مع حالة تراكم الخلافات بين أطراف المعادلة السياسية السودانية على المستوى الداخلي.

في البداية، نرصد المبادرات المتعجّلة التي أطلقت في محاولة تطويق توسيع خيار الصراع العسكري الذي اندلع في الـ 15 من أبريل 2023، ومحاولة وقف إطلاق النار. كانت هذه المحاولات قائمة على التواصل بين طرفي الصراع بشكل مباشر، إذ حاولت القاهرة عبر إطلاق ثلاث مبادرات لوقف إطلاق النار بشراكات إقليمية في الأسبوع الأول من اندلاع الحرب، بينما بلورت مبادرة أكثر شمولاً انطلقت تحت عنوان مبادرة دول جوار السودان في يوليو 2023، وسبقتها مبادرة جدة السعودية، التي انطلقت في مايو 2023، وجمعت طرفي الصراع، كما جرى البناء عليها حتى أغسطس 2024، بينما فشلت المبادرة الشاملة على المستويين الإٍقليمي والدولي في سويسرا أغسطس 2024، ولم تستطع إلا أن تحقق اختراقاً محدوداً في نطاق الإغاثات الإنسانية فقط عن طريق اتفاق الطرفين المتصارعين على فتح معابر لمرور المساعدات.

في السياق يمكن النظر إلى حالة الفشل الشامل التي مُنيت بها مبادرات السلام في السودان من زوايا متنوعة، إذ أسهمت عوامل داخلية وإقليمية ودولية في استمرار الصراع لا وقفه.

على المستوى الداخلي

منذ اللحظة الأولى للحرب تباينت الروايات بشأن من أطلق الرصاصة الأولى، ومن ثمّ تبلورت عوامل الاستقطاب السياسي الداخلي بين الجيش، الذي يعتبر “الدعم السريع” قوى متمردة على الدولة من زاوية الضلوع في محاولة اغتيال الفريق عبد الفتاح البرهان وزير الدفاع فجر الـ 15 من أبريل 2023، وبين الرواية الأخرى التي تقول إن هجوماً جرى تنفيذه في مواقع “الدعم السريع” بالمدينة الرياضية من جانب الميليشيات المحسوبة على النظام القديم، وذلك عطفاً على رفض اتفاق سياسي (الاتفاق الإطاري)، الذي صُنف بأنه ضد مصالح قوى نظام البشير، وفي مصلحة القوى السياسية والشبابية الراعية ثورة ديسمبر 2018، والداعمة الحكم المدني والتحول الديمقراطي.

وتعمّق الاستقطاب السياسي بين الأطراف السياسية إلى حد ممارسة تحريض على الكراهية والقتل على الهوية تحت مظلة تصاعد العمليات العسكرية، إذ رفض الجيش الاعتراف بـ”الدعم السريع” طرفاً معادلاً له على أي مائدة مفاوضات، إضافة إلى عامل إضافي للتمرد، وهو ممارسة قوات “الدعم السريع” انتهاكات واسعة، صُنفت لاحقاً على المستوى الدولي بالإبادة الجماعية، من هنا وباستثناء مفاوضات جدة والمنامة لم يحضر الجيش أي منصة للتفاوض مع “الدعم السريع”.

في المقابل مارس “الدعم السريع” بعد تحقيقه انتصارات في إقليم دارفور نوعاً من التعالي على قيادة الجيش، حين جرى تفجير محاولة منظمة الإيغاد مطلع عام 2024 في جمع الطرفين في جيبوتي، ومنذ هذا التاريخ تبلور ثأر على نحو ما بين كل من الفريق البرهان وحميدتي.

على المستوى الإقليمي

شكل تناقض المصالح الإقليمية بين دول جوار السودان، خصوصاً مصر وإثيوبيا، وحلفائهما عقبة رئيسية في مساهمة دول الجوار الإقليمي المباشر للسودان في الانخراط في مجهودات وقف الحرب، إذ توقفت مبادرات الأسبوع الأول للحرب من جانب مصر، بسبب التحرك الإثيوبي ضدها على مستوى اختطاف شركاء المبادرة المصرية مثل جنوب السودان لمبادرة إِثيوبية موازية بمشاركة كينيا على أن تقودها جنوب السودان كعامل إغراء.

وقد تحرّكت منظمة الإيغاد التي تتضمن عضويتها دول شرق أفريقيا، وكانت تترأسها السودان في هذا التوقيت لعقد قمة في يونيو 2023 نشطت فيها إثيوبيا، إذ جرت بلورة مخطط تضمن نزع السلاح في العاصمة السودانية، وبدء عملية سياسية شاملة، مع وقف الأعمال العدائية، ونشر قوات أفريقية لحراسة المؤسسات الاستراتيجية في العاصمة، على أن تقوم قوات الشرطة والأمن بتأمين المرافق العامة.

وقد أعلن مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي تأييده خطة الإيغاد، فيما رفضتها الحكومة السودانية. كما أعلنت رفضها لرئاسة الرئيس الكيني وليام روتو اللجنة الرباعية، واتهمته بعدم الحياد، وبأن له علاقات تجارية ومصالح مع قائد “الدعم السريع”، كما أفشلت الحكومة السودانية أيضاً المحسوبة على نظام البشير اتجاهات الفريق البرهان، التي تبلورت في ديسمبر 2023 بقبول لقاء حميدتي في جيبوتي بعد زيارة قام بها إلى كل من إثيوبيا وكينيا وجيبوتي.

في المقابل، بلورت القاهرة قمة “دول جوار السودان” بعد قمة الإيغاد بشهر، التي نجحت في أن يحضرها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وشُكلت لجنة من وزراء الخارجية المشاركين في القمة، وانعقد لها اجتماعان الأول في السابع من أغسطس 2023 في العاصمة التشادية أنجمينا، وهو الاجتماع الذي اعتمد خطة عمل من ثلاث نقاط هي: تحقيق وقف إطلاق نار نهائي، وتنظيم حوار شامل بين الأطراف السودانية، وإدارة القضايا الإنسانية، ودعا الاجتماع إلى إقامة مستودعات للمساعدات الإنسانية في بلدان الجوار، لتسهيل نقلها إلى مناطق السودان المختلفة، وانعقد الاجتماع الثاني في الـ19 من سبتمبر بالأمم المتحدة بنيويورك، وأكد اعتماد خريطة الطريق والتنسيق بين الدول للعمل على تفعيلها، لكن أسهم في عرقلة هذا المجهود عدم بلورة موقف دولي داعم للجهود المصرية في التنسيق بين مصالح دول جوار السودان المتناقضة.

أما على صعيد مبادرة جدة فقد حازت دعماً إقليمياً ودولياً، وحضر اجتماعها الثاني الاتحاد الأفريقي في أكتوبر 2023 إلا أنها لم تصل إلى وقف شامل لإطلاق النار، نظراً إلى رفض “الدعم السريع” الانسحاب من الأعيان المدنية، وإصرار الجيش على ذلك، وهو ما دانته منصة جدة، وحملت الطرفين مسؤولية استمرار الحرب في السودان.

وعلى صعيد موازٍ، جرت بلورة محاولة إقليمية عربية لوقف إطلاق النار في السودان اتسمت بالسرية في المنامة عاصمة البحرين، إذ جرى لقاء في يناير 2024 بين وفدين يمثلان الجيش و”الدعم السريع”، رأس وفد الجيش الفريق شمس الدين كباشي مساعد القائد العام، ووفد “الدعم السريع” نائب القائد الفريق عبد الرحيم دقلو. وقد كان اللقاء بوساطة وحضور من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر والبحرين. وتوصل الاجتماع إلى مشروع وثيقة اتفاق حمله رئيسا الوفدين للتشاور، لكن يبدو أن ضغوطاً وحسابات داخلية قد برزت فدعت الجيش السوداني إلى إنكار حدوث الاجتماع أصلاً.

مع الفشل المستمر في وقف إطلاق النار بالسودان أقدمت الولايات المتحدة على تعيين مبعوث لها في السودان، وهو ما تجسّد في بلورة تنسيق إقليمي تقوده الولايات المتحدة عبر مبعوثها توم بيرييلو، الذي هندس منصة جنيف في أغسطس 2024 بعد عملية تشاور واسعة، شملت جميع الأطراف الإقليمية والدولية الضالعة في محاولة وقف الحرب السودانية، لكن على رغم هذه المجهودات فإن الجيش السوداني رفض الحضور إلى جنيف.

على المستوى الدولي

قد يكون من اللافت أنه منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب السودانية، لم تعتمد الأوساط الدولية فكرة تمرد “الدعم السريع” على الدولة السودانية، إذ أعطت شرعية للطرفين المتحاربين على قدم المساواة، وهو الموقف الذي برز أيضاً في بيان الخارجية الأميركية، الذي أعلن في أعقاب سيطرة الجيش السوداني على الخرطوم.

ومع تولي دونالد ترمب مسؤولياته في يناير 2025 لم يظهر لإدارته اهتمام كبير بالحرب السودانية، إذ تركزت مجهوداته على الحرب في أوكرانيا وأزمة غزة، بالتالي لم تنخرط الإدارة الأميركية في أية مجهودات لوقف الحرب السودانية، واكتفت بإعلان مواقف من التفاعلات العسكرية الجارية على الأرض، كما لم يعين مبعوث أميركي للسودان خلفاً لتوم بيرييلو.

في هذا السياق حدث انقلاب في الموازين العسكرية الميدانية لمصلحة الجيش عطفاً على حصوله على دعم تسليحي، واستناده إلى مخطط استراتيجي استطاع به أن يفخخ مسارات قوات “الدعم السريع” عبر توسيع ميادين المواجهة العسكرية، واستطاع أن يسيطر على مناطق سبق لـ”الدعم السريع” أن سيطر عليها في كل من شرق ووسط السودان، وكذلك جرت السيطرة على العاصمة التاريخية للبلاد ومبانيها ذات الرمزية السياسية كالقصر الجمهوري ومقرات أسلحة الجيش والمطار والإذاعة والتلفزيون.

إجمالاً، حتى هذه اللحظة لم يستطع أي من طرفي الحرب السودانية تحييد الطرف الآخر عسكرياً بالكامل، كما لا تتوافر حتى اللحظة إرادة سياسية لإنهاء الحرب عبر التفاوض، وعلى ذلك فإن طرفي الصراع وحلفاءهما ما زالوا يرون أن الحسم العسكري هو الخيار المستقر عليه، وطبقاً لذلك فلا تبدو هناك مؤشرات واقعية لإنهاء الحرب السودانية التي تدخل عامها الثالث.

*هذا المحتوى من “إندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *