توصلت دراسة حديثة إلى أن البروتينات المختلفة التي يمكن أن ينتجها الجين الواحد تؤدي أدواراً متفاوتة في الصحة، وفي تطور الأمراض النادرة، موضحة أن تجاهل هذا التنوع البروتيني ربما يكون أحد الأسباب التي تجعل نسبة كبيرة من المرضى لا يحصلون على تفسير جيني دقيق لأمراضهم.
وكشف الباحثون في معهد وايتهيد للأبحاث الطبية الحيوية بمدينة بوسطن الأميركية، بالتعاون مع مستشفى بوسطن للأطفال، عن حالات سريرية توضح كيف يمكن أن تؤدي الطفرات الجينية التي تؤثر على بروتين دون الآخر إلى اختلافات كبيرة في أعراض المرض وشدته.
ويعاني ما يقرب من 25 مليون أميركي أمراضاً جينية نادرة، ويواجه معظمهم تحديات تتعلق بنقص المعلومات الدقيقة عن أمراضهم، إذ قد لا يعرف الأطباء سبب المرض، أو تطوره، أو حتى كيفية تشخيصه بدقة.
ويقول الباحثون إن العلماء تمكنوا بالفعل من تحديد عدد كبير من الطفرات المسببة للأمراض، لكن نحو 70% من المرضى لا يزالوا دون تفسير جيني واضح.
واعتبرت الدراسة التي نشرتها دورية Molecular Cell، أن المشكلة تكمن في طريقة تحليل الجينات نفسها، إذ إن النظرة التقليدية تفترض أن كل جين ينتج بروتيناً واحداً فقط، وهو ما جعل التركيز في البحث ينحصر غالباً في الطفرات التي تمس هذا البروتين المعروف، إلا أن الأبحاث الحديثة تظهر أن أغلب الجينات قادرة على إنتاج أكثر من بروتين واحد، وأن الطفرات التي لا تبدو مؤثرة على البروتين المعروف ربما تكون في الواقع تغير شكل أو وظيفة بروتين آخر ينتجه الجين ذاته.
أثبتت الدراسة أن الطفرات التي تؤثر على أحد البروتينات دون الآخر يمكن أن تؤدي إلى اختلافات كبيرة في ظهور المرض، سواء في شدته، أو في نوع الأعراض التي يعانيها المريض.
وأوضح الباحثون كيف تستخدم الخلايا قدرتها على إنتاج نسخ متعددة من البروتين نفسه لأداء وظائف مختلفة داخل الجسم، مشيرين إلى أن عملية التنوع البروتيني تحدث أثناء إنتاج البروتين من الشيفرة الجينية، إذ تعتمد الآلة الخلوية على “كودون البداية” – الكودون هو تسلسل مكون من 3 قواعد نيتروجينية في الحمض النووي- لبدء تصنيع البروتين، و”كودون التوقف” لإنهائه، غير أن بعض الجينات تحتوي على أكثر من نقطة بداية ممكنة، فإذا تجاهلت الآلة الخلوية النقطة الأولى، وبدأت من الثانية، فربما تنتج نسخة أقصر من البروتين، وفي حالات أخرى قد تبدأ من نقطة سابقة لتنتج نسخة أطول.
وذكرت الدراسة أن هذه الظاهرة ليست خطأ في الترجمة الجينية كما قد يظن البعض، بل عملية طبيعية أساسية موجودة في معظم الكائنات الحية منذ ملايين السنين، وتؤدي وظائف ضرورية داخل الخلايا، فأحد أسباب وجود هذه النسخ المتعددة هو توجيه البروتينات إلى أماكن مختلفة داخل الخلية، إذ تحمل بعض النسخ شيفرات “عناوين” تشبه الرموز البريدية تحدد وجهتها داخل الخلية، ما يتيح توزيع البروتينات على مواقع مختلفة لأداء وظائف متنوعة.
وتساءل الباحثون عما يحدث عندما تؤدي طفرة جينية إلى إلغاء إحدى النسخ البروتينية فقط، بينما تظل الأخرى سليمة، أي عندما يفقد البروتين من أحد مواقع عمله في الخلية، ويبقى في الآخر، وللتحقق من ذلك، بحث العلماء في قواعد بيانات تضم المعلومات الجينية لأشخاص مصابين بأمراض نادرة، فوجد العديد من الحالات التي تنطبق عليها هذه الفرضية، وربما تصل إلى عشرات الآلاف، لكنهم لم يعرفوا كيف تظهر هذه الطفرات سريرياً في صورة أعراض محددة لدى المرضى.
وشدد الباحثون على ضرورة تنبيه الأطباء إلى أهمية فحص الطفرات التي ربما تؤثر على أي نسخة من البروتين، وليس فقط النسخة التقليدية التي تدرج في التحاليل الجينية، كما أوضحوا أن العديد من الأدوات المستخدمة حالياً لتفسير الطفرات لا تصنف بعض التغيرات التي تلغي النسخة الأقصر من البروتين باعتبارها مسببة للأمراض، رغم أن تأثيرها قد يكون حاسماً.
ويعمل الباحثون الآن على تطوير أداة جديدة باسم SwissIsoform لمساعدة الأطباء على تحديد الطفرات التي تؤثر على نسخ بروتينية معينة من الجين نفسه.
وتهدف الأداة إلى سد الفجوة التي تتركها التقنيات الحالية في تحليل الجينات، من خلال توفير قدرة على التعرف على الطفرات التي قد تغفلها النظم التقليدية؛ لأنها لا تمس النسخة البروتينية “الرئيسية”.
وأشار الباحثون إلى أن فهم هذه الظاهرة على مستوى أوسع قد يفتح الباب أمام ابتكار علاجات جينية أكثر دقة، إذ إن تحديد النسخة البروتينية المتأثرة بالمرض سيساعد على تصميم تدخلات تستهدف الجزء المفقود أو المعطوب فقط دون المساس بالوظائف السليمة الأخرى للجين نفسه.
وتتمثل الخطوة التالية في توسيع نطاق التعاون بين الأبحاث الأساسية والعيادات السريرية، بحيث يتم فحص المزيد من المرضى الذين يعانون أمراضاً نادرة غير مفسرة بالكامل جينياً، لاكتشاف ما إذا كانت الطفرات الجزئية في الجينات المنتجة لنسخ متعددة من البروتينات هي السبب وراء تباين الأعراض وشدة المرض بينهم.
وأكد فريق البحث أن النتائج التي توصلوا إليها تبرز مدى تعقد العلاقة بين الجينات والأمراض، وتكشف أن التركيز الحصري على الجينات الفردية أو النسخة البروتينية الوحيدة قد يكون تبسيطاً مفرطاً يخفي وراءه تفاعلات أعمق.
أوضح الباحثون أن عملية إنتاج نسخ مختلفة من البروتين نفسه ليست عشوائية، بل تخضع لتنظيم دقيق تفرضه احتياجات الخلية.
وأظهرت التحليلات أن بعض النسخ تنتج في أوقات معينة، أو في أنسجة محددة، مما يعكس الدور المتخصص الذي تؤديه كل نسخة في الحفاظ على توازن العمليات الحيوية.
ويمثل الاكتشاف تحولاً في طريقة فهم العلماء لكيفية استخدام الخلايا للمعلومات الجينية، فلطالما اعتبر العلماء الجينات وحدات مستقلة لإنتاج بروتينات ثابتة، لكن الحقيقة أكثر مرونة وديناميكية، إذ يمكن للجين الواحد أن يتصرف كمصنع متكامل ينتج نسخاً مختلفة لأداء مهام متعددة.
ويتطلع الباحثون إلى أن يسهم هذا التوجه في تحسين دقة التشخيصات النادرة وتوجيه المرضى نحو علاجات أكثر تخصصاً، موضحين أن الهدف ليس فقط فهم الأسباب الجزيئية للأمراض، بل أيضاً ترجمة هذا الفهم إلى حلول ملموسة يمكن أن تحدث فرقاً في حياة المرضى الذين يبحثون منذ سنوات عن إجابات.
