تُصدر الولايات المتحدة، استراتيجية واحدة تقريباً للأمن القومي مع تولي إدارة جديدة، فيما تترقب وتحلل الدول المعنية بالتحالفات والانتشار العسكري حول العالم، ومنها كوريا الجنوبية، كل كلمة داخل الاستراتيجية بشكل مكثف، لأنها تعكس السياسة، والخطط، والنوايا التي تعتزم واشنطن انتهاجها، خلال ولاية الرئيس الحالي في البيت الأبيض.
وما يُقلق سول في استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 أنها لم تتضمن أي ذكر لبيونج يانج، كما لم تتضمن أي استراتيجية بشأن نزع سلاح كوريا الشمالية النووي، وسط تقديرات لخبراء تحدثوا لـ”الشرق”، بأن التجاهل الأميركي لهذه الجزئية متعلّق إما بإبداء “بعض المرونة”، حتى وإن في غياب الحوار المباشر، أو التحول من سياسة “نزع السلاح النووي أولاً”، إلى الاكتفاء باستراتيجية الردع، فيما رأى البعض أن هذه الاستراتيجية تُظهر تغيراً من القيم الأميركية إلى المصالح الاقتصادية.
لا ذكر لـ”النظام المارق”
هذه الاستراتيجية جاءت على النقيض من التي سبقتها خلال إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأولى، والتي ذكرت كوريا الشمالية بانتظام، ووصفتها بأنها “نظام مارق، يسعى إلى امتلاك القدرة على قتل ملايين الأميركيين بالأسلحة النووية”.
ودعا التقرير، الصادر عام 2017، إلى “نزع كامل وقابل للتحقق ولا رجعة فيه” للسلاح النووي لدى بيونج يانج.
الاستراتيجية التالية للأمن القومي في عام 2022، في عهد إدارة جو بايدن، تعهدت فيها الولايات المتحدة بـ”تعزيز الردع ضد تهديدات بيونج يانج”، والعمل على “السعي إلى دبلوماسية مستمرة مع كوريا الشمالية لتحقيق تقدم ملموس نحو النزع الكامل للسلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية”.
وفي ما لم يأت ذكر لكوريا الشمالية في التقرير الأخير، لم تُذكر كوريا الجنوبية إلا ثلاث مرات: مرتين فيما يتعلق بالاقتصاد الصيني، ومرة واحدة في ما يتعلق بالإنفاق الدفاعي.
وبدلاً من ذلك، ركزت استراتيجية واشنطن المتعلقة بمنطقة شرق آسيا على سلسلة الجزر الأولى التي تشمل تايوان، وأوكيناوا، والجزر اليابانية الجنوبية، والفلبين وجزراً أخرى صغيرة، وتمثل حاجزاً استراتيجياً في المحيط الهادئ، يُعتبر خط الدفاع الأول عن الولايات المتحدة وحلفائها أمام الصين.
كما تتوقع استراتيجية الأمن القومي من حلفاء الولايات المتحدة الدفاع عن مصالحهم، إذ ترد فيه عبارة تقول بالحرف الواحد: “لقد ولّى زمن دعم الولايات المتحدة للنظام العالمي برمته”.
هل ينبغي على سول أن تقلق؟
في سول، أثار إغفال كوريا الشمالية من تقرير استراتيجية الأمن القومي حالة من القلق والاستغراب. كذلك، غابت قضية نزع السلاح النووي لبيونج يانج عن استراتيجية الأمن القومي الصيني، التي أعلنتها بكين نهاية نوفمبر، وهو تغير في موقف بكين السابق.
فقد كانت الصين تؤكد على وجوب أن تكون شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية، وتعرب عن تأييدها للوصول إلى ذلك عبر مفاوضات، وسلام دائم بين الشمال والجنوب.
ويثير هذا الإغفال مخاوف في سول من أن قضية البرنامج النووي لبيونج يانج قد تراجعت في سلم الأولويات، وأنها باتت مقبولة فعلياً من قبل القوتين العظميين في العالم.
وفي هذا السياق، قال مايك بوساك، المفاوض الدولي ومؤسس مبادرة بارلي للسياسات، لـ”الشرق”، إن استراتيجية الأمن القومي الأميركي تشير إلى أن كوريا الشمالية ليست من أولويات ترمب، ولكن ذلك قد يعني أن إدارته لم تحسم موقفها بشأن بيونج يانج بعد، أو أنها تفضل إبقاء الأمور غامضة لإتاحة المجال للدبلوماسية.
ويتفق مع هذا الرأي لي جيونج هو، أستاذ وباحث في معهد الدراسات الكورية، الذي رأى في حديث لـ”الشرق”، أن غياب الصياغة الضمنية بشأن كوريا الشمالية يتيح إمكانية إجراء مفاوضات تركز بشكل أكبر على الحد من التسلح، بدلاً من القضاء على البرنامج النووي لبيونج يانج دفعة واحدة.
الدعم الأميركي لم يتغير
وفي ما يتعلق باستراتيجية الأمن القومي الأميركي، قال ديفيد ماكسويل، نائب رئيس مركز استراتيجية آسيا والمحيط الهادئ، وهو مركز أبحاث أميركي، لـ”الشرق” إن “على الكوريين ألا يعتبروا هذه الوثيقة السياسة الكاملة”، مشيراً إلى وثائق أخرى مثل قانون تفويض الدفاع الذي أقره مجلس الشيوخ مؤخراً، والذي يؤكد دعم الولايات المتحدة للدفاع عن كوريا الجنوبية.
ويعتقد ماكسويل، بخصوص إغفال الصين مسألة “نزع السلاح النووي”، أن بكين “لديها ثلاثة موانع تتعلق بكوريا الشمالية: لا حرب في شبه الجزيرة الكورية، ولا زعزعة استقرار النظام فيها أو انهياره، ولا امتلاك أسلحة نووية”، لأن بكين قد تشعر بأن محاولة تغيير الموقف النووي لبيونج يانج قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، أو تدفع كيم إلى رد فعل عنيف.
وبعد صدور استراتيجية الأمن القومي، صرّح كيفن كيم، القائم بأعمال السفير الأميركي لدى كوريا الجنوبية، بأن “نزع السلاح النووي الكامل” لكوريا الشمالية لا يزال سياسة أميركية، مشيراً إلى أن هذا الأمر قد تم التأكيد عليه في البيان الصحافي الصادر مؤخراً عن القمة بين الرئيس ترمب والرئيس الكوري الجنوبي لي جاي ميونج.
“مرونة” تجاه كوريا الشمالية دون حوار
في غضون ذلك، قال مستشار الأمن القومي لكوريا الجنوبية، وي سونج لاك، إنه يتوقع معالجة قضية كوريا الشمالية في وقت لاحق، وأنه لا ينبغي أن يستنتج الناس أن إغفالها يعني أن الولايات المتحدة غير مهتمة باستئناف الحوار مع بيونج يانج، مضيفاً أنه لا جدوى من محاولة التنبؤ بما إذا كان هذا الحوار سيستأنف أم لا.
ويقول بوساك، إنه من غير المرجح أن يجري أي حوار من هذا القبيل خلف الكواليس في الوقت الراهن، معتبراً أن “نظام كيم سيرغب في تحديد توقيت ووتيرة التواصل مع الحكومة الأميركية”، وسيبادر إلى الحوار عندما يكون ذلك في مصلحته.
كما يرى جو هيونج كيم، رئيس معهد إدارة الأمن، وهو مركز أبحاث تابع للبرلمان الكوري الجنوبي، أن استبعاد كوريا الشمالية من استراتيجية الأمن القومي الأميركي يمنح واشنطن مرونةً دون التزام دبلوماسي، في ظل تحول الولايات المتحدة بهدوء: “من نزع السلاح النووي أولاً إلى الردع”.
لكن كيم بدوره، استبعد، في حديثه لـ”الشرق” أن تنطلق محادثات بين بيونج يانج وواشنطن دون حدثٍ مُحفّز، يُغيّر حسابات الجانبين، مشيراً إلى أن واشنطن لا تملك حافزاً سياسياً يُذكر للانخراط مع بيونج يانج في الوقت الحالي، وأن الدخول في مفاوضات دون آفاق واضحة للنجاح ينطوي على مخاطر سياسية.
وبالنسبة إلى كوريا الشمالية، رأى ماكسويل أن “كيم جونج أون يحصل على الدعم من روسيا ويجد طرقاً للتهرب من العقوبات، وبالتالي فإن كوريا الشمالية لا تحتاج عملياً إلى تخفيف العقوبات، ومن غير المرجح أن تُجبر على الجلوس إلى طاولة المفاوضات”.
واشنطن تطالب بزيادة الإنفاق الدفاعي
بدلاً من التركيز على كوريا الشمالية، يركز جزء من استراتيجية الأمن القومي الأميركي المتعلق بآسيا على تايوان، والصين وسلسلة الجزر الأولى. وتقول جملة رئيسية في الاستراتيجية: “يجب على الحلفاء تكثيف جهودهم وإنفاق المزيد، والأهم من ذلك، بذل المزيد من الجهد للدفاع الجماعي”.
وبشأن الإنفاق، وافقت كوريا الجنوبية على زيادة الإنفاق العسكري إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، كما ساهمت في تمويل جزء من الوجود الأميركي على أراضيها.
لكن في ما يخص الجانب العملي من الاستراتيجية، يقول ماكسويل إن “كوريا الجنوبية بحاجة إلى النظر إلى الصورة الأوسع في منطقة آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، حيث من السذاجة الاعتقاد بإمكانية الحفاظ على أي نوع من الحياد في حال نشوب صراع في المنطقة، وباعتبارها دولة جزرية تعتمد كلياً على التجارة البحرية، ينبغي على سول المساهمة في ضمان حرية تدفق التجارة”.
وأضاف ماكسويل أن سول بحاجة أيضاً إلى الاعتياد على مفهوم “المرونة الاستراتيجية”، وذلك مع اعتبار أن غالبية المقدّرات الأميركية في كوريا الجنوبية مُخصصة للدفاع عن سول، ولا يمكن نقلها للدفاع عن تايوان على سبيل المثال.
لكنه أشار إلى أن أصولاً أخرى، ولا سيما أصول القوات الجوية في كوريا الجنوبية، تُنقل في كثير من الأحيان إلى مسارح عمليات مثل الشرق الأوسط عند الحاجة إليها.
وأشار لي، إلى أن وكيل وزارة الدفاع الأميركية، إلبريدج كولبي، صاغ عبارة “بذل المزيد” على أنها “المزيد من الجهد من أجل الدفاع عن أنفسهم”، ما يعني أن تتحمل كوريا الجنوبية المسؤولية الرئيسية عن الردع ضد بيونج يانج، مما يُخفف العبء عن القوات الأميركية التي ستتمتع حينها بقدرة أكبر على التركيز على أولويات إقليمية أخرى.
في كلتا الحالتين، تُوضح استراتيجية الأمن القومي أن الولايات المتحدة رفعت سقف توقعاتها من حلفائها. وكما يقول جو هيونج كيم: “في نهاية المطاف، تُشجع استراتيجية الأمن القومي كوريا الجنوبية على التطور من فاعل دفاعي يركز على شبه الجزيرة إلى مُساهم أوسع على مستوى النظام ضمن سلسلة الجزر الأولى”.
وبما أنه لم يرد ذكر محدد لكوريا الشمالية أو نزع السلاح النووي في استراتيجية الأمن القومي، فلا يمكن اعتبار بيونج يانج مشكلة معزولة، بل جزءاً من صراع واشنطن الأوسع مع بكين وموسكو.
