تنفّس الغرب الليبي الصعداء، بعد التوصل إلى اتفاق بين حكومة الوحدة الوطنية المقالة من البرلمان، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، و”جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب”، التابع للمجلس الرئاسي الليبي الأسبوع الماضي، ينص على تسليم مطار معيتيقة الدولي، في العاصمة طرابلس، على أن يتبعها ترتيبات تتعلق ببقية المؤسسات.
ورغم عدم الإعلان الرسمي عن الاتفاق، تأتي التسوية بين حكومة “الوحدة الوطنية” و”الردع” في توقيت حساس لخفض التوتر في طرابلس وتفادي تجدّد الاشتباكات التي شهدتها العاصمة والمنطقة الغربية هذا العام.
وتشير الاشتباكات المسلحة التي وقعت الأحد، في منطقة جنزور غرب طرابلس، إلى التحديات التي تواجه هذا الاتفاق.
وقال زياد دغيم، المستشار السياسي لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، في تصريح اـ”الشرق”، إن الاتفاق يهدف إلى تعزيز الاستقرار بعد أشهر من التوتر، وتفعيل مؤسسات الدولة وفق التشريعات والمعايير الدولية الأساسية. ويشمل الاتفاق المنافذ البحرية والجوية والسجون ومراكز الاحتجاز، إضافة إلى وضع ضوابط تُنظم إجراءات القبض والتحقيق، بما يضمن خضوع هذه المؤسسات لسلطة الدولة والوزارة المعنية.
وفي مقابل المخاوف بشأن التحديات والصعوبات التي قد يواجهها الجانب الإجرائي والعملي للاتفاق، تمنح التسوية دفعة للتفاؤل في ظل هدوء حذر يخيّم على المدينة، بعد أسابيع من وصول أرتال عسكرية للطرفين من معسكراتها في العاصمة ومناطق أخرى، إلى طرابلس.
وتشكلت الحشود العسكرية من مجموعات موالية لحكومة الوحدة الوطنية المقالة من البرلمان بقيادة الدبيبة، ومعظمها من مسقط رأسه في مصراتة، ومن قوات “جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب”، المدعومة بمجموعات من الزاوية والزنتان، وجميع تلك الأرتال تمركزت في عدد من المحاور الحيوية في العاصمة.
وقبل الاتفاق، فاقمت هذه الحشود المخاوف من تجدّد التوتر بالعاصمة، وسط أجواء مشحونة كانت تُنذر باندلاع مواجهات واسعة، لا سيما أن مواجهات اندلعت منتصف مايو الماضي، بين قوات الحكومة وجهاز الردع بقيادة عبد الرؤوف كارة.
وبهذا الاتفاق، يرى سياسيون وخبراء أن طرابلس تمضي نحو “طي صفحة التوتر والاقتتال وإحلال الأمن”، ما يقود إلى تكريس سيادة المؤسسات والقانون في العاصمة، فيما يحذر آخرون من أن العقبات على طريق التنفيذ قد تكون أكبر من الآمال المعلقة.
تفاصيل الاتفاق
وكشف زياد دغيم، المستشار السياسي لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، في تصريح خاص لـ”الشرق”، تفاصيل الاتفاق، مشيراً في الوقت نفسه، إلى أن جهاز الردع قام بخطوة تسليم مطار معيتيقة، فيما ستتوالى الخطوات اللاحقة لتفعيل بنوده.
وقال دغيم إن الاتفاق جاء بعد جهود مكثفة لمدة شهرين برعاية المنفي والدبيبة ومتابعة من بعثة الأمم المتحدة.
وأضاف أن “المؤسسات الأمنية والعسكرية التابعة للمجلس الرئاسي وللحكومة المقالة من البرلمان توصلت إلى اتفاق مكتوب لتعزيز الاستقرار وتفعيل مؤسسات الدولة بشكل طبيعي وفق التشريعات والمعايير الدولية الأساسية لحقوق الإنسان”.
وأوضح أن الاتفاق يشمل “المنافذ البحرية والجوية والسجون ومراكز الاحتجاز، إضافة إلى وضع ضوابط تنظم إجراءات القبض والتحقيق”.
لكن دغيم لم يُحدد طبيعة ما تم الاتفاق عليه بخصوص هذه المؤسسات، سواءً من ناحية تسليمها إلى الحكومة، أو من ناحية الترتيبات المتفق عليها.
ومراعاة لأي عقبات محتملة، أشار المسؤول الليبي إلى أن الاتفاق ارتكز على “معايير شمولية التطبيق بكل جغرافية مناطق سيطرة السلطة المدنية المعترف بها دولياً دون استثناء”، ولضبط خارطة التنفيذ في بيئة بالغة التعقيد، شمل الاتفاق “تفاصيل فنية لسبل تفعيل بعض البنود بشكل دقيق”، وفقاً لقوله.
كما شمل آليات ومعايير تسمية قادة أجهزة وكتائب معنية بشكل مباشر بتنفيذ أهداف الاتفاق لمنافذ مدنية تخضع لسلطة الدولة والمؤسسات المتكاملة وسجون تخضع لوزارة العدل والنائب العام.
وبحسب دغيم، شمل الاتفاق أيضاً تدابير أخرى لتعزيز الترتيبات الأمنية بالعاصمة والسارية منذ أشهر مع بداية وقف إطلاق النار وكذلك قضايا أخرى تضمن العدالة وعدم التمييز بين المؤسسات والمناطق.
في 18 مايو الماضي، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أنها شكّلت، بالاشتراك مع المجلس الرئاسي، لجنة للهدنة عقب التوتر والمواجهات المسلحة التي كادت تدفع بالمدينة إلى أتون الحرب.
ولاحقاً، في 5 يونيو الماضي، أصدر رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي قراراً بتشكيل لجنة للترتيبات الأمنية والعسكرية برئاسته، تتولى إعداد وتنفيذ خطة لإخلاء طرابلس من المظاهر المسلحة.
معضلة التنفيذ.. رغم التفاؤل
الأنظار تتجه حالياً إلى المسار العملي للاتفاق، ففي منطقة تنبض على وقع الحشود وتعقيدات الولاءات، والتقلبات المرتبطة بها، يتفق خبراء على أن التحدي الأبرز يكمن في تحويل التسوية المكتوبة إلى إجراءات عملية.
مع ذلك، تبدو التطورات، على الأرض، مُبشرة حتى الآن، حيث أعلن دغيم أن “جهاز الردع” بدأ بخطوة تسليم المطار، السبت الماضي، “بانتظار توالي بقية الخطوات”.
ويرى المحلل السياسي الليبي ناصر بوديب، في الاتفاق المبرم “خطوة ممتازة”، كونه خطوة باتجاه “التهدئة وحقن الدماء في أي مكان في ليبيا”.
وفي حديث لـ”الشرق”، قال بوديب: “هذا أمر ثابت لأننا ضد الصراعات المسلحة وضد قتل الليبيين وسفك دمائهم من أجل مكاسب أو مغانم أو استحواذ على سلطة، أو على مربعات في أي مكان بالبلاد. هذا الشيء مفروغ منه”.
ولأن الجانب الإجرائي يظل الفيصل في الاتفاقات والتسويات، أكد بوديب، المنحدر من طرابلس، على “الحاجة للوثيقة التي تم التوقيع عليها حتى نستطيع أن نقول إن هذا الاتفاق سار على ما هو مكتوب فيه أم لا”.
وسبق أن أكد مستشار المنفي، في تصريحه لـ”الشرق” أن التسوية عبارة عن اتفاق مكتوب، من دون الإشارة إلى أي تفاصيل إضافية بشأن ما إن تم التوقيع عليها أم أنها وثيقة أشبه بخارطة طريق متفق عليها بانتظار ما سيسفر عنه المسار العملي.
وفي جزئية التفعيل، يتفق مع بوديب، عضو مجلس النواب عبد المنعم العرفي، والذي يربط في حديث لـ”الشرق”، أي حكم على الاتفاق بإمكانية تنفيذه على الأرض، وهي الخطوة التي يعتقد معظم الليبيين أنها نقطة الارتكاز في الموضوع برمته.
وقال النائب الذي يتخذ من بنغازي (شرق) مقراً له، أنه يقرأ “الاتفاق في سياقه من حيث تعزيز السلطة المدنية وضبط سلوك الأجهزة الأمنية، لكن الاتفاق أمر وتنفيذه أمر آخر”، حيث يعتقد أن “الاتفاق لن يصمد ولن يكون هناك تفعيل له”، معتبراً أنه “مجرد (وسيلة) لكسب الوقت لا أكثر ولا أقل”.
وعلى الرغم من أن المحلل السياسي الليبي عبد الرحمن الفيتوري، أكد أهمية الاتفاق من حيث توقيته وسياقه، إلا أنه أبدى، بدوره، المخاوف نفسها، والمتعلقة بجانبه الإجرائي.
وفي حديث لـ”الشرق”، أضاف الفيتوري، وهو من طرابلس أن الاتفاق الأمني “يأتي في وقت حاسم لتجنيب العاصمة الانفجار، وحين نقول الانفجار، فهذا يعني أن المنطقة الغربية بأكملها كانت على شفا حمام دم”.
واعتبر أن التسوية “جاءت بعد جهود قادتها الحكومة والمجلس الرئاسي لوضع خطوط عريضة لتهدئة التوتر وإعادة هيكلة التشكيلات المسلحة وفق القوانين الليبية والمعايير الدولية”، لكنه استدرك أن “الإشكال والمعضلة الحقيقية تكمن في التنفيذ، لأن المسار العملي هو المعرض للكثير من التحديات، وهذا قد يكون من بين الأسباب التي منعت الأطراف المعنية من إصدار إعلان رسمي سواءً في بيانات منفصلة، أو في بيان مشترك بشأن الاتفاق وتفاصيله وبنوده، لعلمهم اليقين بصعوبة التنفيذ وحتى يتركوا المجال لتقييم التقدم المُحرز بعد كل خطوة من هذا الطرف ومن ذاك”.
صراع مؤجل؟
هذه المقاربة، يتبناها أستاذ العلوم السياسية عثمان البوسيفي، منطلقاً من نقطة “غياب ضمانات ملموسة” لتطبيق البنود المتفق عليها.
وقال البوسيفي لـ”الشرق”، إن ما حصل هو “تأجيل للصراع وليس اتفاقاً، لأن الاتفاق في الحقيقة يشمل ضمانات تطبيق ملموسة لإنهاء الأزمة من جذورها، خصوصاً أن هذه التشكيلات (المسلحة) تتغذى مالياً على أماكن نفوذها وتغلغلها في مؤسسات الدولة”.
واعتبر أن هذه التشكيلات “تخضع للأسف لمساومة مع داعمين لها سياسياً، مما يجعل الأمر واضحاً بأنه هدنة مؤقتة لتأجيل الصراع”.
لكن الفيتوري أبدى موقفاً مختلفاً، إذ يعتقد أن الاتفاق لا يُترجم مجرد هدنة هشة تتيح لمختلف الأطراف تأجيل الصراع، بل “هو خطوة شجاعة تستهدف وأد فتيل الأزمة من جذورها”.
ويستشهد الخبير على ذلك بأنه “لولا تمسك مختلف الأطراف بالتهدئة لكانت العاصمة اشتعلت عقب الحشود العسكرية التي وصلتها بالفترة الماضية، مشيراً إلى أن المدينة والمنطقة الغربية كانت تربض على بارود من التوتر كان كفيلاً بتحويلها لرماد”.
ولا يستبعد الفيتوري ظهور صعوبات وعراقيل بوجه تفعيل الاتفاق، إلا أنه يُعرب عن قناعته بأن جنوح مختلف الأطراف إلى “صوت الحكمة من شأنه أن يغلب على جميع حسابات السياسة والنفوذ”، معتبراً أن هذا ما أثبتته الفترة الماضية ومساعي حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي منذ أسابيع من أجل التوصل لتفاهمات سياسية وأمنية.
“فرصة” لإنهاء مظاهر السلاح
ويمضي عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، أحمد همُومة، في الاتجاه نفسه، معرباً عن اعتقاده بأن الاتفاق مهم” ويمكن البناء عليه لحل كافة التشكيلات المسلحة.
وفي حديث لـ”الشرق”، أعرب همومة عن أمله في “إعطاء الحكومة فرصتها لإنجاز خيار الشعب الليبي في إنهاء كافة مظاهر السلاح في الشارع وتعزيز الأجهزة الشرطية ودعمها لتثبيت الأمن ورصد الخروقات”.
وبالنسبة له، فإن ما تقدم يدفع نحو منح “الفرصة الحقيقية لإنجاز الانتخابات في جو يسوده الأمن والاطمئنان على أرواح وأصوات الناس، كي نصل إلى الدولة المنشودة في أقرب الآجال”.
لا إعلان رسمياً
في منطقة تقف على رمال متحركة، تجعل من الصعب ضمان نجاح أي خطوة أو اتفاق بسبب الاختلافات والخلافات السياسية، يبدو عدم الإعلان رسمياً عن الاتفاق مقصوداً لعدة أهداف أوضحها مستشار رئيس المجلس الرئاسي الليبي لـ”الشرق”.
وفي وقت لم تصدر أي بيانات حول الاتفاق سواء من حكومة الوحدة الوطنية المقالة من البرلمان أو من المجلس الرئاسي، أكد دغيم أن الهدف من هذا هو “ضمان تنفيذ الاتفاق”، لافتاَ إلى أن “طبيعة التسويات تشمل تنازلات متبادلة، وهذا الأمر يشكل ضغوطاً على كل الأطراف وخاصة في ظل عقلية صفرية سائدة وخطاب إعلامي غير مسؤول”.
كذلك أشار دغيم إلى أن “التنفيذ (يجري على أساس) خطوة تقابلها خطوة، ولذلك ليس من المصلحة إعلانه كاملاً”.
وفي هذه الجزئية، يعتقد ناصر بوديب أنه “إذا كان هذا الاتفاق لم يخرج للعلن بسبب وجود بنود معينة، فإنه بهذا الشكل يكون منقوصاً”، معرباً في الآن ذاته عن أمله في أن “لا تكون هناك مطالبات أخرى”.
ولكنه من جانب آخر يرى بشكل عام أن “حكومة الوحدة تسعى باتجاه فرض سيطرة الدولة على كل الأجهزة أو أصحاب السلاح، وجعل هذا السلاح بيد الدولة”.
أما عبد الرحمن الفيتوري، قال في معرض تعقيبه على مسألة عدم إعلان الاتفاق بشكل رسمي: “نحن نتحدث اليوم عن اتفاق مكتوب، لكن غير معلن بشكل رسمي، وهو أقرب منه إلى تسوية لا تزال بانتظار عربون حسن نية من جميع الجوانب تجاه بعضها البعض، حتى يتقدم التنفيذ ونصل للنقطة التي ينتظرها الليبيون في طرابلس والمنطقة الغربية، والمتمثلة في تحقيق الاستقرار ونزع مظاهر التسلح”.
وأعرب المجلس الأعلى للدولة في ليبيا عن بالغ تقديره لـ”الجهود الوطنية المخلصة” التي أفضت إلى حل سلمي لأزمة مطار معيتيقة، والتي نجحت في تجنيب البلاد مزيداً من الصراع والخسائر.
وأكد المجلس، في بيان صدر حينها، واطلعت عليه “الشرق”، أن استعادة الأجهزة المختصة مهامها في إدارة المطار وسجن معيتيقة تحت إشراف السلطة التنفيذية الشرعية “يُعد خطوة هامة نحو تعزيز سيادة الدولة على مؤسساتها الحيوية”.
وشدّد البيان على أن “هذه الخطوة ترسي مبدأ أن القانون هو المرجع الوحيد الذي يجب أن يحتكم إليه الجميع”، مثمناً في الآن نفسه، الروح الوطنية التي تحلّت بها كافة الأطراف، والتي وضعت المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار.
ضمانات التنفيذ
في ظل عدم نشر نص الاتفاق، تظل التساؤلات حول ضمانات تنفيذه قائمة، وأيضاً المخاوف من تكرار سيناريوهات الفشل، لكن دغيم اعتبر أن عدم نشر الوثيقة في حد ذاته يعد جزءاً من ضمان سير الاتفاق بسلاسة وبالتالي نجاحه.
والفيتوري يمضي أيضاً في الاتجاه نفسه، معتبراً أن التجربة أثبتت أنه حين تُنشر أي اتفاقية، فإن جميع الأطراف تترك مضمونها وأهدافها، وتقوم بتأويلها ضمن أفق ضيق، خصوصاً حين يتعلق الأمر ببيئة مضطربة مثل تلك التي تشهدها طرابلس منذ مايو الماضي.
ويُعرب عن يقينه بأنه “لو جرى نشر نص الاتفاق لأدى ذلك إلى صب الزيت على نار طرابلس، لأن المؤكد أن كل تسوية بين أكثر من طرف تتضمن تنازلات نابعة من مراجعات لصالح الأمن العام والاستقرار، لكن هذا الأمر لن يُنظر إليه بهذه الطريقة من المحيطين أو حتى من داخل الأطراف نفسها، وهو ما كان سيحكم على أي تسوية بالموت في مهدها”.
وأحياناً تكون الضمانة في الخطوة نفسها، وفق الخبير نفسه، بمعنى أنه إذا قرر جهاز بقوة وحجم “الردع” تسليم مطار معيتيقة على سبيل المثال، فهذا في حد ذاته يشي بوجود ضمانات حصل عليها في المقابل، خصوصاً أن هذا التشكيل يتخذ من قاعدة معيتيقة، شمالي العاصمة، مقراً رئيسياً له، وهذه القاعدة تضم العديد من المنشآت العسكرية، بالإضافة للمطار والميناء.
وبالتالي، يخلص الفيتوري إلى أن “تسليم الردع أو قبوله بالاتفاق يعني أن هناك ضمانات حصل عليها، يبقى أن نعرف ما هي هذه الضمانات، لا سيما أننا نعرف أن مثل هذه الخطوة قد تُكلف قيادات هذا الجهاز الكثير، لأنهم مطلوبون على حد علمي من العدالة الدولية”.
من جانبها، أوضحت أمينة المحجوب، عضوة المجلس الأعلى للدولة، الجزئية الأخيرة، التي تحدث عنها الفيتوري بالتأكيد على أن “هذا الجهاز طالما أنه سلمّ (المطار) فمعنى ذلك أنه ارتضى أن ينضوي تحت المؤسسة العسكرية بغض النظر إن حمل لقباً أو صفة في المؤسسة العسكرية، أم لم يحمل”.
وفي تصريح لـ”الشرق”، قال المحجوب: “طالما أنه (جهاز الردع) سلّم فهذا يعني أن هناك ضمانات لتسليمه لكل السجناء والمختفين قسراً ومهجري المنطقة الشرقية الذين جرى سجنهم بدون وجه حق”.
تكهنات عن وعود بتجنب الملاحقات القضائية
وفقاً لأمينة المحجوب، فإن مسؤولين في “جهاز الردع” مطلوبون للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية شكاوى من أهالي مفقودين وغيرهم، وبناء على تحليلها، “من المرجح أن يتوجس (عبد الرؤوف) كارة (قائد جهاز الردع) والمحيطين به من أن تطالهم يد العدالة الدولية، وبالتالي قد يكون هناك ضمانات بعدم المساس بهم أو ملاحقتهم قضائياً”.
واعتبرت أنه من الممكن أن يُشكل هذا الأمر دافعاً قوياً لقيام الجهاز بخطوة التسليم بهذه السهولة، خصوصاً بالنظر لحجم الأسلحة التي لديه وقوته البشرية، مشيرةً إلى أنها على مقربة من الملف بحكم اطلاعها على “مذكرات الشكاوى المقدمة للجنائية الدولية”، والتي تتضمن اتهامات لكارة بسجن أشخاص بدون وجه حق.
وبناء على ذلك، جدّدت المحجوب، خلال حديثها لـ”الشرق”، اعتقادها بأن الضمانات التي تعفي كارة من ملاحقة الجنائية الدولية هي تسليم كامل جهاز “الردع” للمؤسسة العسكرية في الغرب الليبي وانضوائه تحت غطاء الحكومة.
لكن ناصر بوديب أصرّ من جهته على أنه من الضروري معرفة الضمانات المقدمة لتفعيل الاتفاق، وأيضاً معرفة من قدمها، وتابع: “نحن لا نعرف حتى من هي الدول التي رعته، والأكيد أن بعض الأطراف الخارجية هي من أعطت الضمانات، لكن ما هي هذه الضمانات، وإلى أي مدى تصل هذه الضمانات، وبالتالي، أعتقد أنه لا بد أن نطّلع على الوثيقة حتى نقوم بتفصيل الأمر وحتى تكون هناك بالفعل ضمانات للعديد من الأطراف”.
إنهاء مظاهر التسلح
يتفق خبراء على أنه بعيداً عن تفاصيل الضمانات والإعلان الرسمي، تظلُّ الخطوة إيجابية من حيث بسط نفوذ المؤسسات الحكومية، وضبط انفلات التشكيلات المسلحة، وهذا ما يؤكده بوديب أيضاً: “نحن مع الدولة المدنية ومع بسط سيطرتها على السلطة في ليبيا عموماً، وبالتالي فإن كل ما يحدث هو أمر إيجابي من ناحية وقف إطلاق النار والهدنة، لكن هل الهدنة هشة؟ هذا لا نتبينه إلا باطلاعنا على تلك الوثيقة التي من خلالها يمكن الحكم على هذا الاتفاق”.
وفي 20 أغسطس الماضي، قرر الدبيبة حل جهاز “الردع” ونقل أصوله واختصاصاته إلى وزارة الداخلية بحكومته بذريعة أنه خارج سلطة الدولة، في خطوة جاءت ضمن خطة شاملة لتفكيك التشكيلات المسلحة.
إلا أن الجهاز رفض القرار، معتبراً أن مسألة حله أو إعادة هيكلته شأن يخص المجلس الرئاسي الذي شكل في الشهر نفسه لجنة للترتيبات الأمنية لكبح التحركات العسكرية والأمنية.
وسرعان ما تجلّى ذلك التوتر في حالة استنفار أمني واسعة النطاق شهدتها طرابلس بوصول أرتال مسلحة من خارجها بالتزامن مع انتشار مكثف للمركبات العسكرية داخل أحيائها.
وفي غضون ذلك، عززت قوات تابعة لرئاسة الأركان وجودها في مواقع على خطوط التماس بين قوات وزارتي الدفاع والداخلية من جهة، وقوات جهاز “الردع” من جهة أخرى، وشمل التمركز بشكل خاص مناطق زاوية الدهماني وباب بن غشير وعين زارة والسراج، في مشهد منح حينها انطباعاً بأن المدينة على شفا اقتتال مدمر.
ولم تكن تلك بداية الأزمة، حيث يعود التوتر المستمر حتى وقت قريب قبل الاتفاق الأخير إلى مواجهات اندلعت منتصف مايو الماضي، بين قوات الدبيبة وجهاز “الردع” وذلك غداة القضاء على جهاز دعم الاستقرار في منطقة أبوسليم بالعاصمة، ومصرع قائده عبد الغني الككلي الملقب بـ”غنيوة”.
ورغم احتواء الاقتتال بعد ساعات قليلة، إلا أن التوتر ظل قائماً، خصوصاً مع تمسك الدبيبة بأنه لا سبيل لاستعادة الدولة سيطرتها على مؤسساتها إلا بحل الجهاز بشكل كامل، واصفاً إياه بـ”الميليشيا الخارجة عن القانون”.
لكن ومع بدء تنفيذ الاتفاق وتسليم مطار معيتيقية، يبدو أن الدبيبة ماض في خطته “لكن بتعديل يشمل تسوية بدل المواجهة”، على حد قول الفيتوري، الذي يعتقد أن هذا المسار يخدم مصالح جميع الأطراف، وأضاف: “لقد سلّم الردع مطار معيتيقة لقوة تابعة للمجلس الرئاسي الذي ينتمي إليه أيضاً، وهذا من شأنه أن لا يُظهر الجهاز بمظهر الخاضع أو من قدم تنازلات”.
وبشكل عام، عبّر المحلل السياسي الليبي عن قناعته بأن “الاتفاق في ضمنه هو مضي في خطة التفكيك لكن تحت مسمى مختلف وممكن بطريقة مختلفة، أي أن تسليم المطار مثلاً من قوة الردع لقوة أخرى تابعة للمجلس الرئاسي من شأنه أن يُحقق لجميع الأطراف رغبتها، وكما قلت تبقى مجريات ما سيحدث بالأيام المقبلة هي الفيصل في الحكم على نتيجة هذا الاتفاق”.
وشدّد على أن “الهدف من كل ذلك هو ضبط الأجهزة الأمنية وتعزيز إدارتها المدنية من أجل إنهاء مظاهر التسلح في طرابلس وأيضاً التصرفات غير المنضبطة للبعض”.
لكن هذا الطرح لا يلقى تأييداً من النائب عبد المنعم العرفي، والذي يرى أن “الاتفاق لا يُشكل الحقيقة خطوة من أجل مضي الدبيبة في تفكيك التشكيلات بل من أجل تقوية وضعه التفاوضي بدرجة أولى والتهام كل التشكيلات المسلحة”.
هل يصمد الاتفاق؟
بدوره، توقع العرفي أن لا يصمد الاتفاق “لأنه إن صحت التسمية مهادنة مؤقتة من أجل قص أذرع الردع، لا كي يتم تحييده وإنهاؤه بشكل كامل”.
وبالنسبة له، فإن هذه الخطوة “لن تنجح في نزع فتيل التوتر بالعاصمة والصعوبات التي تعترض تنفيذ الاتفاق، لأن الكل لديه سلاح، أي أنه عبارة عن نقل هذا السلاح من مكان لآخر، وأشك في ذلك (نجاح الاتفاق) لأن عملية الخروج من المؤسسات تمت بشكل كامل باتفاق الطرفين.. هذا ما سمعناه ونتمنى أن يكون حدث كذلك”.
من جانبه، أقر الفيتوري أيضاً بوجود صعوبات جسيمة أمام تفعيل الاتفاق، إلا أنه يدفع أكثر نحو التفاؤل والتركيز على “النقاط المضيئة” من الموضوع، معتبراً أن “إدارة الأزمات تتطلب مرونة دقيقة توازن بين المكتسبات والتحديات”.
وأوضح: “كلنا يدرك حجم المعوقات الكامنة أمام تنفيذ الاتفاق، لكن دعونا لا نركز على الجزء الفارغ من الكأس، ونكتفي بما حققه الاتفاق حتى قبل المضي في تفعيله من طمأنة لدى الليبيين في طرابلس، وهم الذين كانوا يخشون النوم ليلاً مخافة اندلاع حرب وهم نيام.. لقد سئم الناس الاقتتال ومشاهد الدم، وبات أي اتفاق مهما كان كفيلاً ببث الارتياح بنفوسهم”.
وقال: “دعونا لا نستبق الأحداث. نعم هناك صعوبات جسيمة، لكن أملنا كبير”.
لكن جرعة التفاؤل التي يبديها الفيتوري تغيب عن قراءة أستاذ العلوم السياسية عثمان البوسيفي، والذي اعتبر أن “ما جرَّ العاصمة طرابلس إلى هكذا وضع هو تماهي حكومة الوحدة مع هذه الأجسام منذ البداية، وبدل أن تقوم بحل أي تشكيلات خارج نطاق المؤسسات الأمنية الرسمية للدولة، أصبحت تستخدمها كذراع لصراعات سياسية تديرها ضد خصومها”.
ورأى أن ما تقدم “انعكس سلباً فيما بعد على أمن المؤسسات والمواطن جراء انفصال وانفلات هذه التشكيلات عن شركائها سابقاً وخصومها اليوم، ولذلك نخلص إلى أن ما حدث ليس اتفاقاً وإنما تأجيلاً للصراع”.
خلافات؟
بعد ساعات فقط من إعلان التوصل إلى اتفاق لإنهاء التصعيد وتطوير المؤسسات الأمنية، برز بعض التضارب في المواقف، إذ هناك من اعتبره خلافاً بين حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي بشأن تسمية رئيس جهاز الشرطة القضائية.
والأحد الماضي، أصدر الدبيبة قراراً بتعيين اللواء عبد الفتاح أبو القاسم دبوب رئيساً لجهاز الشرطة القضائية، خلفاً للواء أسامة نجيم المحسوب على قوة “الردع”.
وبدا القرار مفاجئاً بصدوره بعد ساعات فقط من إعلان مكتب المنفي عن التوافق على تعيين اللواء عطية الفاخري آمراً للجهاز.
وفي خضم الجدل المتفجر بهذا الخصوص، أوضحت أمينة المحجوب عضوة المجلس الأعلى للدولة الأمر وفق رؤيتها، مشيرة إلى أن تعيين رئيس جهاز الشرطة القضائية من اختصاص وزارة العدل، أي أن التسمية تعود للحكومة وليس للرئاسي، مشيرة إلى أن الأخير “انتزع هذا الاختصاص من الحكومة”.
ولا علم للمحجوب بوجود توتر من عدمه بين الحكومة والرئاسي بهذا الخصوص، لكن في حال وجود خلاف، فإنها ترجح “تسمية مؤقتة لشخص حالياً لتسيير أعماله، لأن هذا الجهاز حساس جداً، فهو ينظم السجون بالكامل، ويجلب الموقوفين والسجناء لمقرات المحاكم والنيابات، ولذلك فإنه من الضروري تسمية رئيس للإشراف على أعماله، وبالتالي تكليف شخص من الزاوية لتسيير أعماله لغاية تسمية رئيس للجهاز”.
وشدّدت على أنه “لا بد من الخلاف، لكن المؤكد هو أنه سيحل وفق القانون الذي سيكون الفيصل”.
ويدعم الفيتوري ما قالته المحجوب، مشيراً إلى أن مثل هذه الأمور قد تحصل، معتبراً أنه “لا ينبغي دائماً تصنيفها ضمن خانة الخلافات وتهويل الأمر لدرجة ربطه بتنفيذ الاتفاق”، وأكد أن جهازاً بحساسية الشرطة القضائية لا ينبغي أن يبقى لفترة طويلة بدون رئيس، حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت لضمان تسيير أعماله وعدم تعطلها.