نشر الصحفي المدافع عن حقوق الإنسان، منصور العمري، ورقة بحثية تناول فيها التحديات التي تواجه مسار العدالة في سوريا بعد تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، في 17 من أيار الماضي.
واعتمدت الورقة، التي نشرت الأربعاء 3 من أيلول، في مؤسسة “مبادرة الإصلاح العربي” للأبحاث بعنوان “تعميم العدالة الانتقالية في سوريا: مقترح للتكامل الوزاري”، على مراجعة تجارب دولية ومقترحات عملية.
وشددت الورقة على أن معالجة الانتهاكات الواسعة لا يمكن أن تقتصر على لجنة مركزية، بل تتطلب إدماج العدالة الانتقالية في عمل الوزارات نفسها عبر وحدات متخصصة، بما يجعلها جزءًا من الحوكمة اليومية وإصلاح مؤسسات الدولة.
وينطلق الباحث من أن الانتهاكات التي وقعت في أثناء النزاع لم تقتصر على قوات أمن محددة، بل تغلغلت في مختلف أجهزة الدولة، ومن ضمنها المسؤولة عن الرعاية الصحية والتعليم والممتلكات، لذلك تتطلب معالجة هذه الأمور فهمًا واستجابة خاصة بكل قطاع على حدة.
وبحسب الورقة البحثية، فإن بناء سوريا الجديدة يتطلب نهجًا مختلفًا يقوم على إدماج العدالة الانتقالية في عمل الوزارات نفسها، عبر وحدات متخصصة ترتبط مباشرة بالوزراء، وتكون مسؤولة أمام الهيئة المركزية، بما يضمن أن تتحول مبادئ المساءلة وجبر الضرر وعدم التكرار إلى جزء من الحوكمة اليومية.
وأكد منصور أن هذه المقاربة الشاملة للحكومة تمثل رؤية ضرورية لمعالجة عمق الانتهاكات، وإعادة الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، عبر دمج الضحايا ومطالبهم في السياسات العامة، بعيدًا عن الاقتصار على آليات مركزية غالبًا ما تكون محدودة التأثير.
نقد للنهج التقليدي في العدالة الانتقالية
توضح الورقة أن العدالة الانتقالية لطالما اعتمدت في بلدان ما بعد النزاع على لجان مركزية، سواء كانت لجان حقيقة أو محاكم خاصة أو برامج جبر ضرر، ورغم أن هذه الآليات شكلت خطوات أساسية، فإنها ظلت في الغالب معزولة عن مؤسسات الدولة، وهو ما جعل قدرتها على إحداث تغيير مستدام محدودة.
وكان الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أصدر 17 من أيار الماضي المرسوم رقم “19”، القاضي بتشكيل هيئة مستقلة باسم “الهيئة الوطنية للمفقودين”، تتولى مهمة البحث والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرًا، وتوثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم.
وأشار منصور إلى أن هذا النموذج لا ينسجم مع طبيعة الانتهاكات في سوريا، إذ لم تقتصر على الأجهزة الأمنية والعسكرية، بل امتدت إلى الصحة والتعليم والإدارة والممتلكات، وبالتالي فإن المعالجة تحتاج إلى مقاربة قطاعية تفصيلية، لكل وزارة دور فيها.
وخلص إلى أن الاعتماد على لجنة واحدة ذات صلاحيات عامة يضعها أمام مهام تفوق قدراتها، إذ يتعين عليها التحقيق في الانتهاكات، وإصدار توصيات، والإشراف على إصلاحات، من دون امتلاك أدوات التنفيذ المباشرة داخل الوزارات.
وأشار منصور إلى أن الأمم المتحدة وخبراءها، مثل بابلو دي غريف، المقرر الأممي السابق، شددوا على أن برامج التعويض مثلًا لا يمكن أن تُدار من هيئة واحدة، لأنها تحتاج إلى وزارات عدة، كالصحة والتعليم والإسكان، وهو ما يجعل “المقاربة الحكومية الكاملة” أكثر واقعية وفعالية.
وبدورها، أكدت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بتقريرها الصادر في 17 من نيسان الماضي، أن الخطوة الأولى لتحقيق العدالة الانتقالية تتمثل في تشكيل هيئة وطنية متخصصة، تتمتع بالكفاءة والنزاهة والخبرة، وتضم شخصيات مستقلة تمثل مختلف أطياف المجتمع السوري.
وقال مدير “الشبكة السورية”، فضل عبد الغني، إنه لضمان نجاح عملية العدالة الانتقالية في سوريا، من الضروري أن تعمل جميع آليات العدالة الانتقالية بصورة متوازية ومتكاملة تحت إدارة موحدة ضمن إطار هيئة العدالة الانتقالية لمعالجة جميع أوجه الانتهاكات بشكل منسق، وتعزيز فعاليتها واستجابتها لاحتياجات الضحايا والمجتمع السوري ككل.
وحدات العدالة الانتقالية في الوزارات
يقترح منصور في ورقته البحثية إنشاء وحدات متخصصة داخل كل وزارة، بحيث تتناسب طبيعتها مع عمل الوزارة والسياق التاريخي المرتبط بها. وتكون هذه الوحدات مسؤولة عن مهام مثل إصلاح السياسات الداخلية، ومراجعة ملفات الموظفين المتورطين في الانتهاكات، والمساهمة في البحث عن الحقيقة من خلال الأرشيفات، وتنفيذ برامج جبر الضرر المرتبطة بالقطاع، كتقديم الرعاية الصحية للضحايا عبر وزارة الصحة.
وتؤكد الورقة أن أحد أهم أهداف هذه الوحدات هو دمج مبدأ عدم تكرار الجرائم والانتهاكات داخل البيروقراطية السورية، عبر تدريب الموظفين على حقوق الإنسان، وتطوير المناهج التعليمية، واعتماد مدونات سلوك مهنية جديدة. كما ستعمل هذه الوحدات على ضمان تواصل مباشر مع الضحايا والمجتمع المدني، بما يحول دون بقاء العدالة الانتقالية مجرد شعار سياسي.
لكن الورقة تنبه إلى تحديات حقيقية تواجه هذا الطرح، منها ضعف مؤسسات الدولة بعد سنوات النزاع والعقوبات، وخطر أن تتحول هذه الوحدات إلى مجرد هياكل شكلية إذا غابت الإرادة السياسية والتمويل الكافي، لذا يقترح منصور أن يُموَّل عمل الوحدات عبر مزيج من ميزانيات الوزارات، ودعم المانحين الدوليين، والاستفادة من أموال النظام السابق المصادرة بموجب العقوبات.
تجارب دولية ودروس لسوريا
تستعرض الورقة البحثية تجارب دول أخرى لإثبات جدوى هذا النهج، ففي تشيلي، قادت وزارة الصحة منذ 1991 برنامجًا شاملًا للرعاية الطبية والنفسية لضحايا العنف السياسي وأسرهم.
وفي كولومبيا، وزعت وزارات الزراعة والإسكان والبيئة أدوارًا محددة لتنفيذ قانون الضحايا وإعادة الأراضي، بما شمل إعادة المساكن وتعويض المتضررين.
أما في جنوب إفريقيا، فقد تولت وزارة العدل مسؤولية تنفيذ توصيات لجنة الحقيقة والمصالحة، بما في ذلك دعم المجتمعات المحلية والبحث عن رفات ضحايا الفصل العنصري.
وفي تايوان، اندمجت مفاهيم العدالة الانتقالية في المناهج التعليمية بدعم وزارة التربية، لضمان ترسيخ قيم حقوق الإنسان في الأجيال المقبلة.
تستطيع سوريا الاستفادة من هذه النماذج، وفق منصور، عبر تكييفها مع واقعها الخاص. فوزارة الصحة السورية مثلًا، مطالبة بتوثيق استهداف المستشفيات واستخدامها كمراكز تعذيب خلال الحرب، إضافة إلى توفير تعويضات ودعم نفسي للضحايا والأطباء الذين فقدوا وظائفهم. ويمكن لوزارة الأوقاف أن تلعب دورًا في جبر الضرر المعنوي والروحي، من خلال طقوس جماعية وشفاء رمزي، فضلًا عن إعادة تنظيم أموال الوقف لدعم الضحايا.
أما وزارة التربية، فمهمتها الأساسية إدماج روايات الضحايا في المناهج، وتدريب المعلمين على تعزيز ثقافة التسامح وحقوق الإنسان.
نحو عدالة شاملة ومستدامة
تخلص الورقة إلى أن نجاح مشروع العدالة الانتقالية في سوريا لا يتوقف على تأسيس هيئة مركزية فحسب، بل يعتمد على قدرة الوزارات على تبني الإصلاح من الداخل، وإعادة تعريف علاقتها بالمجتمع.
ويرى الصحفي والمدافع عن حقوق الإنسان، منصور العمري، أن هذه الوحدات الوزارية المقترحة ستوفر ملكية وطنية للمسار، وتضمن أن تكون العدالة جزءًا من إعادة بناء الدولة، لا مجرد مبادرة مؤقتة.
لكن لتحقيق ذلك، لا بد من قيادة سياسية واضحة، ودعم متواصل من المجتمع المدني، وموازنة دقيقة بين تطهير المؤسسات المتورطة والحفاظ على استقرارها الوظيفي. وبينما تبقى المخاطر كبيرة، فإن غياب هذه المقاربة سيجعل العدالة الانتقالية عرضة للفشل، ويعيد إنتاج المظالم القديمة.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي