– أمير حقوق

رغم الوعود المتكررة التي أطلقها المسؤولون السوريون الجدد عقب انهيار نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024 باتجاه تبني اقتصاد السوق الحر كمسار رئيس لإعادة بناء الاقتصاد، فإن الواقع على الأرض سار في اتجاه أكثر حذرًا.

الحركة الفعلية للأسواق، والاعتراضات التي برزت من فاعلين اقتصاديين محليين، دفعت الحكومة الجديدة إلى التراجع خطوة إلى الخلف، وإعادة التفكير في جدوى الانتقال السريع نحو الانفتاح الكامل.

وبين طموحات التحرير الاقتصادي من جهة، وقيود البنية المتآكلة للدولة وتحديات السيطرة على الأسعار وسلوك الفاعلين المحليين من جهة أخرى، يبرز سؤال محوري: ما الذي يعطّل تنفيذ اقتصاد السوق الحر في سوريا؟

تراجع

الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، قال إن السياسة الاقتصادية في سوريا الآن تقوم على حماية المنتج المحلي “نوعًا ما”، ولا تزال سوريا في وقتها الحالي غير قادرة على فتح السوق لأن إنتاجها ضعيف، وبالتالي ستغرق في المواد المستوردة وسيكون هذا على حساب الإنتاج المحلي في سوريا، وذلك خلال حديثه في “مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار” بالرياض، في 29 من تشرين الأول الماضي.

كما نفى مسؤول في الحكومة السورية، ل، اتباع الحكومة اقتصاد السوق الحر، معتبرًا أن البيئة السورية اليوم غير مناسبة لتبنيه، وسياستها اليوم لا تقوم عليه، بل على سياسة اقتصادية تناسب الوضع الحالي.

يُعرف اقتصاد السوق الحر بأنه النظام القائم على حرية الأفراد بأي نشاط اقتصادي، ويبنى على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

وتختلف آراء الأوساط الاقتصادية حول هوية الاقتصاد السوري اليوم، سواء كانت تعتمد اقتصاد السوق الحر أم الاقتصاد الموجه، أم اقتصاد بهوية هجينة، مع استمرار الأزمات الاقتصادية التي تعوق بناء الاقتصاد وتعافيه وتحديد هوية واضحة له.

كيف نصنّف الاقتصاد الحالي؟

من الصعب تحديد هوية واضحة للاقتصاد السوري في الوقت الحالي، فالاقتصاد يواجه تحديات كبيرة على مستويات عدة، وبمختلف القطاعات، سواء الزراعية أو النفطية أو المصرفية أو الصناعية، وتعد هذه الأزمات الاقتصادية متشابكة فيما بينها، وفق ما قاله الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي ل.

هذه الأزمات الاقتصادية المتشابكة تُظهر أن الاقتصاد السوري لا يمتلك هوية واضحة في الوقت الحالي، ولا يمكن وصفه باقتصاد السوق الحر، بحسب قضيماتي، بل يمكن وصف اقتصاد سوريا بـ”الفتي”، إذ يعمل على بناء أسس اقتصاد السوق الحر.

بينما يعتقد الباحث الاقتصادي محمد السلوم أن الاقتصاد السوري شهد في عام 2025 تحوّلًا نوعيًا في بنيته واتجاهاته، مع عودة تدريجية للتفاعل مع النظام المالي العالمي، وتزايد الانفتاح العربي والإقليمي بعد سنوات من العزلة والعقوبات.

تتقدم القيادة الاقتصادية الجديدة نحو صياغة هوية اقتصادية جديدة تمزج بين الانفتاح والحذر، وبين الاستثمار والإعمار، وبين الواقعية والطموح، وفق تعبير السلوم، معتبرًا أن “عودة سوريا إلى الساحة الاقتصادية الدولية لم تأتِ كتحول عابر، بل كنتاج لمسار سياسي أعاد فتح القنوات مع الرياض والعواصم الخليجية، ورفع تدريجي للعقوبات الغربية والأمريكية”.

ويعتقد أن هذا الانفتاح أتاح تدفق استثمارات تتجاوز 30 مليار دولار خلال عام واحد، أغلبها في قطاعات الإسكان والطاقة والبنى التحتية، غير أن الحكومة السورية اختارت الاندماج المشروط، بحيث لا تفقد قرارها الاقتصادي لمصلحة رؤوس الأموال الخارجية، بل توظّف الشراكات وفق مصالحها الوطنية.

وخلص الباحث إلى أنه يمكن وصف النموذج السوري الحالي بأنه اقتصاد سوق اجتماعي موجه، يوازن بين جذب الاستثمار وحماية الإنتاج المحلي.

وعلى مدار أكثر من عقد، اعتمد النظام السابق مزيجًا غير متسق من السياسات الاقتصادية، وسط انهيار في مختلف القطاعات، وتقلص الإنتاج المحلي، وسيطرة قوى متعددة على الموارد والأسواق، فمن جهة رفع شعارات “اقتصاد السوق الاجتماعي”، ومن جهة أخرى حافظ على تدخل عميق في حركة التجارة، وفرض القيود على القطاعات الحيوية عبر شبكات مصالح ضيقة.

تدخل الحكومة يعارض “السوق الحر”

مبررات عدم اتباع الحكومة اقتصاد السوق الحر، تراوحت بين عدم جاهزية الاقتصاد، وضعف القطاعات الإنتاجية، وعدم تعافي الاقتصاد السوري بالدرجة المحددة، بحسب ما فسره الخبراء الاقتصاديون.

الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي يرى، في حديثه إلى، أن سوريا تواجه العديد من التحديات التي تعوق تطبيق نموذج اقتصاد السوق الحر بشكل فعّال، على غرار ما يحدث في الدول المتقدمة التي تعتمد هذا النظام الاقتصادي.

الاقتصاد الحر يعتمد على مبدأ حرية العرض والطلب، بالإضافة إلى حرية التصرف في الملكيات الخاصة والإنتاج، ما يؤدي إلى تحقيق منتجات ذات جودة عالية بأسعار أقل، بينما يعاني الاقتصاد السوري من عدة مشكلات، أبرزها عدم الاكتفاء الذاتي في مجال الإنتاج، ما يؤثر بشكل كبير على تشكيل الاقتصاد الوطني بشكل عام.

وتسعى سوريا حاليًا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء، كما تعمل الحكومة على تعزيز الصناعات المحلية وتوطين التكنولوجيا في مختلف القطاعات الصناعية، في مرحلة بناء البنية الأساسية لهذا الهدف.

وعلى الرغم من ذلك، فإن المواد الأولية اللازمة للصناعات المحلية تظل مستوردة بشكل رئيس، ما يزيد من اعتماد الاقتصاد السوري على الخارج.

تتدخل الحكومة في العديد من المجالات الاقتصادية، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية للاقتصاد الحر، إلا أن التدخل في هذه الحالة ضروري خاصة في الظروف الراهنة، بحسب الباحث قضيماتي، إذ تسعى الحكومة إلى إعادة بناء وتطوير العديد من القطاعات الاقتصادية، وفي هذا السياق، تعد البنية التحتية عاملًا أساسيًا لدعم اقتصاد السوق الحر.

البراغماتية الإنتاجية

تتداخل السياسات الاقتصادية المتخذة بين بعضها، وفق خطوات وآليات تعيد ترتيب المشهد الاقتصادي، لوضع بنى أساسية يمكنها أن تساعد في بناء هوية واضحة له مستقبلًا.

الاقتصاد السوري في صيغته الراهنة يتجه نحو البراغماتية الإنتاجية، فهو يراهن على الإنسان السوري كعنصر إنتاج ومعرفة، ويعمل على توظيف التنوع الجغرافي والقطاعي لبناء قاعدة متينة للنمو المستدام.

تظهر ملامح هذه الهوية في التركيز على الزراعة الذكية، والصناعات التحويلية الصغيرة، والطاقة المتجددة، والسياحة البيئية، مع رؤية طويلة الأمد تقوم على دمج رأس المال المحلي بالاستثمارات الإقليمية والدولية.

محمد السلوم

باحث اقتصادي

واعتبر الباحث محمد السلوم أنه بينما تسعى الحكومة إلى إعادة اندماجها في المنظومة الاقتصادية العالمية، فإنها تواجه مسؤولية كبرى في تحويل التشريعات الجديدة إلى ممارسة مؤسساتية شفافة تضمن الثقة والمصداقية.

ويشهد الاقتصاد السوري إصلاحًا ماليًا تدريجيًا يقوم على إعادة هيكلة النظام الضريبي، وضبط الدعم، وتوحيد أسعار الصرف، مع تحسين كفاءة التحويلات الخارجية وتشجيع تمويل الاستثمارات بالعملة المحلية، وقد أسهمت هذه الخطوات في استعادة جزء من الثقة بالليرة السورية، وتخفيف الضغط التضخمي، لكنها لا تزال تواجه تحديات تتعلق بضعف الجهاز المصرفي وهيمنة السوق الموازية.

الإصلاح المالي وحده لا يكفي، قال الباحث محمد السلوم، موضحًا أنه يجب أن يقترن بإصلاح إداري وهيكلي يضمن العدالة في توزيع الموارد، ويحد من الهدر والفساد.

ولفت السلوم إلى أن الحكومة تتبنى فلسفة ترى أن “كل نكبة اقتصادية هي فرصة استثمارية لإعادة البناء”، فبدلًا من انتظار المساعدات الدولية، اختارت الاعتماد على الشراكات الاستثمارية لإعادة الإعمار، معتبرة القطاع العقاري بوابة للنهوض، ورافعة لتشغيل اليد العاملة وتحريك الصناعات المرتبطة به.

لكن هذا المسار يواجه تحديًا مجتمعيًا حقيقيًا، يتمثل في عودة النازحين واللاجئين، الذين يشكلون الركيزة البشرية لعملية الإنتاج وإعادة التوازن الديموغرافي والاقتصادي، معتقدًا أنه “من دون معالجة هذا الملف، تبقى مشاريع الإعمار ناقصة، لأنها تحتاج إلى بيئة اجتماعية حية تتكامل فيها الزراعة والصناعة والخدمات.

كيف نتجاوز الأزمات

يرى الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي أنه يتم حاليًا معالجة بعض الأزمات الداخلية مثل مشكلة القطاع المصرفي عبر ربطه بالمصارف العالمية، إلا أن تأثير المشكلات الاقتصادية العالمية على الاقتصاد السوري يتوقف على كيفية تشكيل الاقتصاد السوري في المستقبل.

ويعتقد أن أبرز العقبات التي تعترض تطور الاقتصاد السوري تكمن في التدمير الذي لحق بالعديد من القطاعات الاقتصادية، فضلًا عن الانعزال الذي شهدته سوريا عن العالم خلال الفترة الماضية، فقد توقفت البنوك السورية عن العمل على المستوى الخارجي، كما أن المشكلات الاقتصادية المتراكمة في جميع القطاعات تحتاج إلى معالجات جذرية، ومع معالجة هذه المشكلات، يمكن تحديد الهوية الاقتصادية لسوريا في المستقبل.

أما فيما يتعلق بالحلول المقترحة، فهي تتعلق بكل وزارة وكل قطاع على حدة، ويجب تحديد آلية معالجة واضحة، مع ضرورة إعادة تنظيم القطاع الداخلي وتطوير الأنظمة والقوانين بما يتناسب مع المعايير العالمية، وهذا يتطلب وقتًا ويجب أن يأخذ في الاعتبار الظروف المحلية واحتياجات السوق الداخلي في سوريا، بحسب اقتراح قضيماتي.

أما الباحث الاقتصادي محمد السلوم، فقال إن نجاح التجربة السورية المقبلة لن يُقاس بحجم الاستثمارات فقط، بل بقدرتها على تحويل المعاناة إلى طاقة إنتاجية، وصياغة اقتصاد يقوم على الكفاءة والعدالة والسيادة الوطنية في آن واحد.

يعود الحديث إلى اقتصاد السوق الحر في سوريا إلى الأيام الأولى ما بعد سقوط النظام السابق، حين أعلن وزير الاقتصاد في حكومة تسيير الأعمال السابقة، باسل عبد العزيز عبد الحنان، في مقابلة مع “الجزيرة نت“، في كانون الأول 2024، إن إعادة هيكلة الاقتصاد ستجري لتحويل الاقتصاد، الذي كان أساسه اشتراكيًا ثم تحول إلى شمولي دكتاتوري، إلى اقتصاد السوق الحر المفتوح.

وفي مقابلة مع وكالة “رويترز“، أوضح رئيس غرفة تجارة دمشق السابق، باسل الحموي، أن حكومة تسيير الأعمال أبلغت حينها رجال الأعمال بأنها ستتبنى نموذج اقتصاد السوق الحر.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.