في الثالث عشر من أبريل 1975 تعرضت سيارة زعيم حزب “الكتائب” اللبناني بيار الجميل إلى إطلاق نار في منطقة “عين الرمَّانة”، فقُتل على إثرها أحد مرافقيه. ما لبث مسلحو حزب الكتائب أن انتشروا في المنطقة، وقاموا باستهداف حافلة تقل مدنيين فلسطينيين، فقُتل وجُرح العشرات.
انفجرت الاشتباكات في مناطق مختلفة من بيروت، وخاصة حول المخيمات الفلسطينية في تل الزعتر والدكوانة. اتهم زعيم “الحزب التقدمي الاشتراكي” كمال جنبلاط، حزبَ “الكتائب” بتنفيذ مجزرة “عين الرمَّانة”، ودعا إلى عزل “الكتائب” عن الحياة السياسية اللبنانية.
عقب هذه الدعوة استقال الوزير الكتائبي جورج سعادة من حكومة رئيس الوزراء رشيد الصلح، ولحق به تسعة وزراء معادين لكمال جنبلاط، ما دفع الصلح إلى الاستقالة في 23 مايو 1975، وعُين العميد نور الدين الرفاعي رئيساً للحكومة في اليوم ذاته. احتج كل من جنبلاط ورئيس الحكومة الأسبق صائب سلام على هذا القرار، ولم تُعمِّر حكومة الرفاعي أكثر من ثلاثة أيام. راوحت الأزمة السياسية مكانها، ودخلت سوريا على خط الوساطة عبر وزير الخارجية عبد الحليم خدَّام، ما أوصل زعيم طرابلس رشيد كرامي إلى رئاسة الحكومة في 30 يونيو 1975.
اللقاء الرابع: 17 يونيو 1975
في هذه الأجواء المتوترة جاء لقاء حافظ الأسد الرابع مع كمال جنبلاط، بهدف مناقشة الحلول الممكنة للأزمة السياسية والأمنية، بعد شهرين على حادثة “عين الرمانة”. رافق جنبلاط إلى دمشق بعض قيادات “الحزب التقدمي الاشتراكي” مثل عباس خلف ومحسن دلول (الذي أصبح وزيراً للدفاع في التسعينات)، واللواء المتقاعد شوكت شقير، الذي كان رئيساً للأركان في سوريا قبل عام 1958، علماً أنه لبناني. فيما حضر من الجانب السوري وزير الخارجية عبد الحليم خدام والأمين العام المساعد لحزب “البعث” عبد الله الأحمر.
طرح جنبلاط ضرورة إجراء إصلاحات جذرية داخل الجيش اللبناني، واقترح استبدال قائده إسكندر غانم بشخصية أخرى يقبل بها “الحزب التقدمي الاشتراكي” وحلفاؤه
المشهد في لبنان
بدأ اللقاء بحديث عام عن الوضع المتدهور في لبنان، وقال جنبلاط إن بلده غارق في “عسكرة المجتمع والشراسة الطائفية”، صاباً جام غضبه على حزب “الكتائب”. تناول بإسهاب دور الكتائب وتعدادهم وأسلحتهم ومناطق نفوذهم، فسأله الأسد إن كان بيار جميل يمثل كل المسيحيين في تطلعاته ومخططاته. أجابه جنبلاط بأن “الكتائب” يمثلون “القسم الأكبر من المسيحيين وليس كلهم”، مستشهدا بوجود شخصيات مسيحية مناوئة لآل جميل مثل نائب عكار الماروني مخايل الضاهر، ونائب جزين السابق جان عزيز وغيرهم.
أوضح جنبلاط كيفية توزيع السلاح على القرى المسيحية، وكيف يقوم الجيش اللبناني بغض النظر عن تلك التصرفات، مع التشديد والمراقبة على القرى المسلمة. كما أشار إلى أن “الكتائب” تدربوا على حمل السلاح على يد مجموعة من الضباط اللبنانيين، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن “الجيش قاتل بواسطة (الكتائب)”. ثم قدم رقماً تقديرياً بأن لدى “الكتائب” 60 ألف قطعة سلاح، وبأن سلاح الحزب أكثر تطوراً من سلاح الجيش اللبناني.
من جانبه، أشار الأسد إلى أن لديه انطباعاً بأن “ظاهر (الكتائب) كأنه يدافع عن المسيحيين، وأن من يقف ضده يقف ضد المسيحيين”. وأضاف: “نحن رأينا في (الكتائب) لا يتغير. رأينا في سوريا بعد عام السبعين (سنة وصول الأسد إلى الحكم) أن الوهم الموجود في لبنان بأن المسلم يبتلع المسيحي يجب أن نخففه إذا استطعنا ذلك”.
سأل الأسد عن مصدر تسليح “الكتائب”، فأشار جنبلاط إلى وجود دعم من إسرائيل ومساعدة من بعض الضباط اللبنانيين الذين سهّلوا تهريب السلاح وتخزينه. تساءل الأسد فيما إذا وصل إلى يدي “الكتائب” شيء من السلاح الذي أرسلته سوريا إلى لبنان، فأكد له جنبلاط أنهم حصلوا على قذائف صاروخية مصدرها سوري.
طرح جنبلاط ضرورة إجراء إصلاحات جذرية داخل الجيش اللبناني، واقترح استبدال قائده إسكندر غانم بشخصية أخرى يقبل بها “الحزب التقدمي الاشتراكي” وحلفاؤه. أجابه الأسد أن لبنان بحاجة إلى إعادة هيكلة كاملة للمؤسسة العسكرية اللبنانية وقال: “يجب أن يتشجع الجيش ويتقدم المشهد ويجد حلاً. لا حل آخر غيره باعتقادي”.
كونه رجلاً عسكرياً، كان الأسد مؤمن بدور الجيش في حل النزاعات الداخلية، وهو غير مدرك أن وضع الجيش اللبناني، المنقسم على أسس طائفية، مختلف كثيراً عن وضع الجيش السوري الذي كان وحتى ذلك التاريخ أكثر انضباطاً منذ وصوله إلى الحكم عام 1970.
توصل جنبلاط لنتيجة مفادها أن رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، حليف حافظ الأسد وصديقه، “متواطئ” مع الجبهة اللبنانية المعارضة للوجود الفلسطيني في لبنان، والتي كانت تضم حزب “الكتائب” ويرأسها رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون. اعتبر أن الرئيس فرنجية مؤيد ضمنياً لتسليح “الكتائب” وتدريبه على يد عناصر الجيش قائلاً: “من غير المعقول أن يقوم إسكندر غانم بما يقوم به دون رأي الرئيس فرنجية”. تحدث عندها عن لقائه الأخير مع فرنجية واصفاً إياه باللقاء “المشحون والمتشنج”.
انتقد الأسد فكرة حكومة تكنوقراط للإشراف على الانتخابات بقوله: “تكون مقبولة وفعالة بحالة استقرار، أما بعد قتال ودم في الشارع لا يوجد بلد يفكر بحكومة انتخابات
الطائفية السياسية
في تقييمه لبنية النظام السياسي اللبناني، قال الأسد: “رئيس الجمهورية يعتبر نفسه رئيس المسيحيين، ورئيس الوزراء يعتبر نفسه رئيس المسلمين. لا يوجد أحد يعتبر نفسه رئيساً للجميع”. وكان ذلك في إشارة إلى “الميثاق الوطني” غير المكتوب الذي أقر عام 1943 وفيه خصصت رئاسة الجمهورية للمسيحيين الموارنة، ورئاسة الوزراء إلى المسلمين السنة حصراً.
لفت جنبلاط إلى أن الموارنة يمكن أن يحتفظوا بالرئاسة، لكن لا بد من تعديل التوازنات في بقية مؤسسات الدولة. قال: “لو أراد الموارنة رئاسة الجمهورية، فليثبتوها بالدستور، لكن ليسمحوا لنا بباقي المناصب”. اقترح جنبلاط الدعوة إلى مؤتمر وطني يضم مفكرين غير ملتزمين من كل الطوائف، يكون هدفه إعادة بناء العقد الاجتماعي اللبناني، وهو ما لاقى تحفظاً حذراً من الأسد الذي كان يخشى من أن يؤدي أي حراك غير محسوب إلى تفجير الوضع اللبناني، أو إلى إلهام المعارضين السوريين للمطالبة بمؤتمر مشابه في دمشق.
دور سوريا في الأزمة اللبنانية
تطرق الأسد بإسهاب إلى طبيعة العلاقة بين سوريا ولبنان، موضحاً أن “سوريا لا يأتيها سوى المتاعب من أوضاع لبنان سواء كان لبنان في هدوء أو في حرب”. وأشار إلى أن لبنان يشكل ساحة لتصفية حسابات الدول مع سوريا: “أي بلد عربي يريد أن يحاربنا يأتي إلى لبنان ويحاربنا منه، لا يحاربنا من بلده حتى لو كان بيننا وبينه حدود مشتركة (إشارة إلى محاولات النظام العراقي استغلال الوضع اللبناني لتحقيق مآرب سياسية في سوريا). نحن لا نستطيع أن نحارب الآخرين من لبنان لأنه لا يؤثر عليهم. من يريد أن يشتمنا يأتي إلى لبنان، ومن يريد شراء أقلام صحافية يأتي إلى لبنان”.
حلول جنبلاط المقترحة
ناقش الوفد اللبناني مجموعة حلول للخروج من الأزمة، واقترح جنبلاط حكومة جديدة للإشراف على انتخابات مبكرة في شهر سبتمبر، وحل مجلس النواب الحالي. كما اقترح أيضاً أن يأتي “شخص من الجيش إلى رئاسة الجمهورية أسوة بمجيء الجنرال فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية عقب أزمة الخمسينات”. وكان يشير طبعاً إلى الرئيس الأسبق لأركان الجيش اللبناني فؤاد شهاب، الذي وصل إلى الرئاسة في أعقاب الثورة الشعبية التي قامت ضد رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، المحسوب على الغرب.
انتقد الأسد فكرة حكومة تكنوقراط للإشراف على الانتخابات بقوله: “تكون مقبولة وفعالة بحالة استقرار، أما بعد قتال ودم في الشارع لا يوجد بلد يفكر بحكومة انتخابات. حكومة موظفين لا تحل المشكلة… الحكومة بالدرجة الأولى يجب أن تكون حكومة أمن، لأن الناس يريدون الاطمئنان على أن لا يموتوا. يجب أن يبقوا أحياء حتى تستطيع أن تحدثهم بالأمور الأخرى”.
رفض جنبلاط المشاركة في أي حكومة يشارك فيها حزب “الكتائب”، ولكنه لن يمانعها. قال لخدام: “لن نكون ضد الحكومة، وسنقف موقفا محايدا داخل المجلس”
حلول في جعبة خدام
تدخل خدّام لعرض نتائج جولته الأخيرة في بيروت، وقال إن الرئيس فرنجية “متعاون إلى حد كبير، لكنه يواجه تعنتاً من بيار الجميل، الذي يعتبر أن أي محاولة لعزل “الكتائب” ستكون موجهة ضد المسيحيين ككل. الإرادة موجودة لدى الرئيس فرنجية لإيجاد حل، لأنه لا مصلحة لديه في الخروج من الرئاسة والبلد مدمر. هو مساعد ومتفهم”. وأردف خدام: “لا يوجد مسيحي يمكن أن يصبح وزيراً إلا بموافقة “الكتائب”، والواقع أن 95% من المسيحيين يسيرون بهذا الاتجاه”.
عرض بعدها الوزير السوري ثلاثة خيارات لتشكيل الحكومة:
1. حكومة برئاسة رشيد كرامي، تضم رئيس الوزراء الأسبق صائب سلام (سني داعم للفلسطينيين)، ورئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون (ماروني معارض للفلسطينيين).
2. حكومة وطنية مؤقتة لمدة شهرين.
3. حكومة تضم الكتل السياسية كلها، ولو بتمثيل غير مباشر.
وعندما طرح هذا الأمر، عارضه بشدة بيار الجميل، مصراً على ضمان حقيبة سيادية واحدة على الأقل لحزب “الكتائب”، على أن يختاره هو من أعضاء المكتب السياسي. واتهم سوريا وجنبلاط بمحاولة عزل حزب “الكتائب”، وقال: “أي صيغة بدونهم (الكتائب) بمثابة إعلان حرب”.
عندما بلغه هذا الرد، قال الأسد بوضوح إنه يرفض مشاركة الكتائب في أي حكومة مقبلة، مضيفاً: “هناك فرق بين أن نكرههم ويكرهوننا، وأن تكون هناك حكومة لا يكونون فيها. وبعد نقاش طويل قال الأسد: “العناد لا يأتي بنتيجة، يجب أن تجدوا ما هو ممكن والطريق الناجح بأقل الخسائر. (الكتائب) ضد أي خطوة إصلاحية… هناك حقد أعمى، وهذه الأمور تحتاج إلى نضال وطني وتدريجي”.
نحو تسوية لبنانية-سورية مشروطة
خلال الاجتماع، حاول خدام إقناع الأسد وجنبلاط بتشكيل حكومة يرأسها رشيد كرامي، وتضم وزيراً كتائبياً واحداً من دون إعلان رسمي عن المحاصصة الحزبية. لكن جنبلاط رفض المشاركة في أي حكومة يشارك فيها حزب “الكتائب”، ولكنه لن يمانعها. قال لخدام: “لن نكون ضد الحكومة، وسنقف موقفاً محايداً داخل المجلس”. وفي نهاية الاجتماع، اتفق الأسد وجنبلاط على الخطوات والمبادئ التالية:
- يشكل رشيد كرامي الحكومة، نظراً لقربه من سوريا ومن الحركة الوطنية اللبنانية.
- التخلي عن فكرة عزل “الكتائب”، ولكن بعد التفاهم معهم على شكل الدولة المستقبلية.
- في حال اعتذار رشيد كرامي عن التكليف، تتم دعوة صائب سلام إلى تشكيل حكومة، وهذا ما سيرضي “الكتائب” لأنه، وعلى الرغم من الخلافات، يرفض فكرة العزل.
بدا واضحاً من خلال المحاضر أن جنبلاط كان يرى في الأحداث اللبنانية جزءا من صراع أوسع يتعلق بالقضية الفلسطينية والوطن العربي بالعموم
اللقاء الخامس: 23 أكتوبر 1975
في هذا اليوم، التقى الأسد بوفد من الأمانة العامة للجبهة العربية المشاركة بالثورة الفلسطينية، على هامش اجتماعاتها بدمشق، وكانت برئاسة كمال جنبلاط. لم يكن هذا اللقاء ثنائياً ولا محصوراً بالشأن اللبناني، وقد حضرته 32 شخصية عربية، من ضمنها ياسر عرفات وطارق عزيز، عضو القيادة القطرية في حزب “البعث” العراقي. في حديث جانبي مع جنبلاط، سأله الأسد عن الأوضاع في بيروت، فأجابه الزعيم الدرزي أن الدماء التي سالت منذ 13 أبريل لم تكن إلا “لتعميد عروبة لبنان”، دفاعاً عن القضية الفلسطينية وتأكيداً على ارتباطه بقضايا “الأمة العربية”.
أجاب الأسد بأنه يعتقد أن كل ما يجري في لبنان مخطط له من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل: “الأميركان هم من يقفون وراء أحداث لبنان وقد أصبحت الأدلة واضحة. أحداث لبنان المطلوب منها تخفيف الضغط عن اتفاقية سيناء (بين مصر وإسرائيل)”. كما ذكّر بما قاله للملك حسين: “لو استمرت الأحداث في لبنان عشر سنوات، بالسنة الحادية عشرة سنرفع صوتنا نحن، يجب أن يبقى صوتنا عالياً، ولن نسكت عن اتفاقية سيناء”.
حول أزمة لبنان
بعد الحديث الجانبي، انتقل الأسد وجنبلاط إلى الاجتماع الموسع الذي ضم طارق عزيز وغيره. بعد الحديث في شؤون المنطقة ككل، نوه الأسد إلى خطورة ما يجري في لبنان وقدم جنبلاط تحليلاً دقيقاً للوضع اللبناني بأبعاده الداخلية والإقليمية.
وقد بدا واضحاً من خلال المحاضر أن جنبلاط كان يرى في الأحداث اللبنانية جزءا من صراع أوسع يتعلق بالقضية الفلسطينية والوطن العربي بالعموم.
نبه الأسد إلى إمكانية قيام “الكتائب” بضرب الجيش من أحياء سكنية إسلامية لتحريض العسكريين على ضرب المسلمين وإيقاع الفتنة بين اللبنانيين والمقاومة. وفي تحليل مشترك لجنبلاط والأسد فإن هذا المخطط كان يلاقي دعماً ضمنياً من كميل شمعون. كما جرى الحديث عن الخطورة في بعض أحياء بيروت وعلى مداخلها، نتيجة تصاعد العنف وإقامة المتاريس والحواجز وإغلاق الكثير من الطرق، حتى تتعذر أحياناً إمكانية المرور بشكل اعتيادي.
الحلقة الثالثة: من السبت الأسود إلى الدامور: حوار الأسد-جنبلاط وسط المجازر
هذا المحتوى من مجلة “المجلة”