يختلف السوريون ما إذا كانت عملية إلغاء عيد “حرب تشرين” في 6 من تشرين الأول، وعيد الشهداء في 6 من أيار، عملية صائبة أم خاطئة، وسط جدل اكتسح وسائل التواصل تزامناً مع عيد تشرين.
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أصدر مرسومًا في 5 من تشرين الأول الحالي، حدد أضاف أعيادًا رسمية جديدة، إلى العطل الرسمية، كعيد الثورة السورية في 18 من آذار، وعيد التحرير في 8 من كانون الأول.
فما السبب الذي دفع الرئيس الشرع لإلغاء هذه الأعياد وسط استقطاب يشهده المجتمع السوري.
ألغى المرسوم رقم “188” لعام 2025، أعياد “حرب تشرين” و”عيد الشهداء”، وعيد “ثورة الثامن من آذار”، التي وصل حزب “البعث“ فيها إلى السلطة عام 1963.
عيد “تشرين”
“حرب تشرين” تعرف بـ”حرب أوكتوبر” أو “حرب العاشر من رمضان” في مصر أو “حرب تشرين التحريرية” كما تُعرف في سوريا، أو “حرب يوم الغفران” كما تُعرف في إسرائيل.
دارت الحرب في الفترة بين 6 و25 من تشرين الأول عام 1973، عندما شن تحالف من الدول العربية بقيادة مصر وسوريا حربًا ضد إسرائيل، تركزت على سيناء والجولان التي احتلتها إسرائيل خلال حرب حزيران عام 1967، بهدف استعادة الأراضي العربية المحتلة.
وانتهت الحرب باسترداد قناة السويس، وجميع الأراضي في شبه جزيرة سيناء، وجزء من مرتفعات الجولان السورية بما فيها مدينة القنيطرة.
لوحة مرسومة لحرب تشرين (أكتوبر) 1973 ـ 6 تشرين الأول 2022 (صحيفة الثورة)
ومنذ الحرب، حافظت الحدود السورية مع الجولان المحتل على وضعها دون أي تغيير أو معارك، وفق اتفاق فض الاشتباك لعام 1974.
ومهدت الحرب الطريق لاتفاق “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل الذي وُقّع في أيلول 1978، وتعهد بموجبه الطرفان بإنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات ودية بينهما.
وكانت آخر وثيقة رسمية ورد فيها أن “عيد تشرين” هو عطلة رسمية في سوريا، هي قانون العاملين رقم 474 لعام 2004 والذي أصدره رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، وألغاه المرسوم رقم 188 الذي أصدره الرئيس الشرع.
عيد “الشهداء”
أقدم وثيقة تقول إن 6 من أيار كل عام هو عيد الشهداء تعود لعام 1925، حين أصدر هذا المرسوم الرئيس السوري في عهد الانتداب الفرنسي، صبحي بركات الخالدي، ووقع عليه المندوب السامي الفرنسي، وفق ما نشرته منصة “التاريخ السوري المعاصر”.
و”عيد الشهداء” هي مناسبة كان يحتفل بها في السادس من أيار من كل عام في كل من سوريا ولبنان، وسبب اختيار التاريخ هي أحكام الإعدام التي نفذتها السلطات العثمانية بحق عدد من السوريين واللبنانيين في كل من بيروت ودمشق إبان نهاية الحرب العالمية الأولى، ما بين فترة 21 من آب 1915 وأوائل 1917. واختير يوم 6 أيار إذ أن عدد “الشهداء” الذين أعدموا في هذا اليوم من عام 1916 هو الأكبر عددًا.

أحمد جمال باشا (جمال باشا السفاح) والي بغداد العثماني وأحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأصبح والياً على بلاد الشام، وأطلق عليه لقب السفاح، لأن نفذ عمليات إعدام كبيرة بحق المثقين والوطنيين في سوريا ولبنان)
“الثامن من آذار”
المرسوم ألغى عطلة “ثورة الثامن من آذار” وهو الاسم الذي يطلق على انقلاب حزب “البعث” في 8 من آذار عام 1963 ضد الرئيس السوري ناظم القدسي وحكومته المنتخَبة برئاسة خالد العظم، عقب انفصال “حكومة الوحدة” بين سوريا ومصر.
ومن نتائج الانقلاب إلغاء الحرية السياسية والاقتصادية، وقيام دولة الحزب الواحد في سوريا، وإنفاذ “قانون الطوارئ” منذ عام 1963، الذي أوقف العمل به بعيد اندلاع الثورة السورية عام 2011.
كما فرض الانقلاب تبني شعارات البعث وسياسته، كشعارات عامة للدولة السورية.
ورسخ هذا اليوم في سياقه التاريخي انقلابًا عسكريًا لمجموعة عُرفت لاحقًا باسم “اللجنة العسكرية”، ضمّت ضباطًا سوريين كانوا يؤدون خدمتهم العسكرية في مصر خلال فترة دولة الوحدة.
وكان عماد هذه اللجنة خمسة ضباط سوريين هم: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وأحمد المير، وعبد الكريم الجندي، كما أُطلق، شعبيًا، على هذه “اللجنة” عقب توليها زمام الحكم في سوريا اسم “حكومة عدس” ذات الطابع الأمني العسكري، في إشارة إلى طابع طائفي (علوي، درزي، إسماعيلي).
أثارت التعديلات التي أقرها مرسوم الرئيس السوري، ردود فعل واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، بين مؤيد لهذه الخطوة، باعتبارها تخلصًا من إرث البعث الذي حكم منذ 1963 وخلفه الأسدان الأب والابن بحكم استبدادي دام أكثر من نصف قرن، وبين من رآها تماهيًا مع مواقف جديدة تتخذها السلطات السورية، سواءً بما يتعلق بالمفاوضات مع إسرائيل، عبر إلغاء ذكرى “حرب تشرين” الحرب الوحيدة بين سوريا وإسرائيل، وإلغاء “عيد الشهداء” باعتبار أن السلطات العثمانية (تركيا اليوم) هي التي أعدمتهم، وهي تمثل الحليف الرئيسي لسوريا الجديدة.
وتزامنًا مع ذكرى حرب تشرين، في 6 من تشرين الأول الحالي، علق المستشار الإعلامي للرئيس السوري، أحمد موفق زيدان، عبر صفحته في “فيسبوك” بالقول “يفتخر الحمقى والهُبل بأن طاغية العصر وصاحب المجازر بحق السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، حافظ الأسد، هلك ولم يوقع، وهو الذي باع الجولان والقنيطرة عُربونًا لمنصبه”، مضيفًا: “خبتم وخاب مسعاكم”.
على الجانب الآخر، علق الصحفي السوري غازي عبد الغفور على إلغاء عيدي تشرين والشهداء في منشور عبر “فيسبوك“، بالقول إن “شهداء 6 من أيار عام 1916، وشهداء البرلمان وكل فترة الكفاح ضد المستعمر الفرنسي وشهداء 6 من تشرين لعام 1973، هؤلاء شهداء سوريا وهم من كل الجغرافية السورية”.
واعتبر عبد الغفور أن هذا القرار ليس فقط “مناكفة في غير محلها” بل “غشمنة واضحة من قبل الجهة الذي عملت ودفعت بهذا القرار لمقام الرئاسة وخطوة غير موفقة ارتجالية”، معتبرًا القرار “إساءة صريحة لكفاح الشعب السوري والعربي ضد الاحتلال”.
ووصلت ردود الفعل حتى مصر، وبينما لم يصدر أي تعليق رسمي على القرار، فإن وسائل إعلام مصرية تناولت القرار بشكل مركز، وعبَّر عدد من الإعلاميين والمدونين عن استهجانهم واستغرابهم من الخطوة، معتبرين أن إلغاء الاحتفاء الرسمي بذكرى الحرب يُضعف من رمزية التضامن العربي الذي تجسد في تلك “اللحظة البطولية”، في يوم 6 من تشرين الأول.
ووصف الإعلامي المصري أحمد موسى إعادة تنظيم جدول العطل الرسمية في سوريا، بأنه “أغرب قرار رئاسي”، متسائلًا: “قرار الشرع لإرضاء مَن بالضبط؟”.

ساحة المرجة في دمشق بدايات القرن العشرين ـ 25 أيلول 2023 (التاريخ السوري المعاصر)
إلغاء التاريخ وحق الذكرى
يرى الباحث والدكتور في العلاقات الدولية والدبلوماسية، محمد الأحمد، أن الأمم العريقة تترك للأجيال حق الحكم على التاريخ بشكل حر، ولكنها لا تلغي تاريخها، قائلًا إن القيادات التي تدرك مفاعل التاريخ وأهميته في بناء الهوية الوطنية تعلم جيدًا أن في تاريخ الأمم “أيام سوداء وأيام بيضاء”.
وأشار الأحمد، في حديث إلى، الأمم التي تحترم نفسها لا تلغي تاريخها على الإطلاق تبقي للأجيال حق الحكم في نهاية المطاف بصرف النظر عن الموقف السياسي والتبعات السياسية اللحظية التي تعيشها الدولة.
واعتبر أن المفروض أن يترك النقاش في هذه الأمور للنخب الوطنية القادرة على نقاش الموضوع المتعلق بـ “شهداء ستة أيار وبحرب تشرين”.
بينما لا يعرف الباحث السوري في شؤون المواطنة والهوية، مضر الدبس، على وجه الدقة لماذا تم إلغاء العطلتين، كما يقول في حديث إلى.
ويرى الدبس أنّ هذه الواقعة تطرح سؤالًا مهمًا عن “الحق في الذكرى” لأن الذكرى في النهاية حق، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفكرة الهيمنة، وليس التحكم في موضوعاتها وموضوعات النسيان على الصعيد الوطني إلا وجهٌ من وجوه الهيمنة.
عيد الشهداء “نسيان فعال”
بالنسبة لإلغاء عيد الشهداء في 6 من أيار، يرى الباحث محمد الأحمد، أن هناك تيارات في سوريا تريد “تبييض الوجه” مع الجانب التركي، ربما بسبب دعم أنقرة لدمشق، و”نحن نعلم من قام بقتل شهداء 6 من أيار”، معتبرًا أن هؤلاء “قصيرو نظر إلى حد بعيد”، ولا يعتقد الباحث أن “الجانب التركي سيحترمهم”.
بينما يرى الباحث السوري مضر الدبس، أن “عيد الشهداء” غير مسألة “حرب تشرين”، وله “وقعٌ رمزي وتاريخي مختلف”، فمسألة 6 من أيار “محسومة وراسخة، داعيًا إلى مراجعة هذا القرار.
ووصف الدبس 6 من أيار بـ “نقطة تاريخية تتقاطع فيها الذكرى” معتبرًا أنها “عملية نسيان فعَّال لمرحلةٍ من التاريخ مليئةٍ بالمظلوميات، وسفر برلك، والأمراض، والمجاعات، وغياب التعليم، والتأخر التاريخي، والعيش على هامش العالم المتمدِّن”.
والقول المنتشر بأنَّ هذا قرار لإرضاء الأتراك فيه كارثة، فالعلاقة السليمة لا تتم إلا بالتصالح مع التاريخ، وفق الباحث السوري مضر الدبس، قائلًا إنه “لا يمكن أن ننظر إلى تركيا الحديثة اليوم، ومن ثم نبني نمط علاقتنا معها، استنادًا إلى سلوك جمال باشا السفاح”.
وباعتقاده، فإن هذا لا يعني أن “نحرم ابن شهيدٍ من يومٍ يتذكر فيه أباه، ونتذكره معه، لنشعر أننا معًا من أجل المستقبل”.
تشرين “ملك للسوريين”
عن إلغاء عيد ذكرى “حرب تشرين”، يرى الباحث السوري محمد الأحمد، أن 6 من تشرين، هي “ملك للشعب السوري وللأبطال الذين حرروا مرصد جبل الشيخ وكان منهم العربي والكردي والسرياني والشركسي والأرمنى والسني والعلوي والدرزي، والإسماعيلي والمسيحي”، معتبرًا أن هؤلاء هم من صنعوا التاريخ، وليس ملكًا لسلطة انتقالية، حتى تقوم بهذا التصرف.
وتساءل الأحمد: “أين الدستور؟ هل أكله الحمار؟ (إشارة إلى موروث شعبي في سوريا استخدم على نطاق واسع بعد مسرحية غربة من كتابة محمد الماغوط)، مردفًا، “أنا لا أريد أن أتوجه بالإهانة لأحد ولكن لا يمكن النظر إلى التاريخ، والتعامل معه بهذه الطريقة”.

صورة من الجنود السوريين على جبل الشيخ ـ 8 من تشرين الأول 2016 (المنتدى العسكري العربي)
هذه المسائل عبارة عن حركات ذات بعد “عميق جدًا” في التشكيل الاجتماعي الاقتصادي وفي محاولة لبحث الأمم عن هويات جديدة تستطيع من خلالها أن تستمر على قيد الحياة، وفق الأحمد.
أما الباحث مضر الدبس فاعتبر، في حديثه إلى، أنه من حيث المبدأ “نحن لا نترك أمرًا لأن الأسد كان يفعله فحسب، وليس صحيحًا أن يصبح سلوك الأسد موجهًا لقراراتنا ومستقبلنا، فتلك كانت حقبة سوداء وانتهت”.
ويرى أن “حرب تشرين” لن تكون أمرًا يريد السوريون أن ينسوه، ليس لأننا “انتصرنا” فهذه مسألة فيها “شكوكٌ حقيقية”، ولكن لأن أبناءنا قدموا أرواحهم فيها، وهم لم يقدموا أرواحهم من أجل الأسد، بل من أجلنا، يعني من أجل سوريا”.
وللإنصاف، وفق الدبس، فهناك حاجة إلى الانتقال من “ثقافة النصر إلى ثقافة الازدهار”، والتوقف عن خوض حروب النصر، لنحل مكانها حروب التمكين والاندماج الوطني والتعددية والنجاح السياسي، لأن معاركنا القادمة كلها معارك ابتكار.

الرئيس السوري أحمد الشرع خلال لقائه بعدة وزارء ومحافظين سوريين 12 من تشرين الأول 2025 (الرئاسة السورية)
أبعاد وحلول
يعتقد الباحث السوري محمد الأحمد، أن الأبعاد السياسية لقرار الشرع تتلخص في أن هذه “السلطة الجديدة ترتكب الخطأ تلو الخطأ وبعض الأخطاء تصل إلى مرتبة الخطيئة”، ولا يعلم الباحث السوري “متى ستعلمها هذه الأخطاء وتستفيد منها؟”.
وقال، “نحن انتصرنا على نظام الأسد ليس لكي نصنع نظامًا شموليًا جديدًا، بكل بساطة نحن ناضلنا منذ عام 2011 حتى نقيم دولة مواطنة وليس مزرعة جديدة”.
بينما يرى الباحث السوري مضر الدبس، أن أفضل السيناريوهات، هي أن يتناول مجلس الشعب الجديد هذا الموضوع ويقر “عيد الشهداء” مرة ثانية، ويعترف بشهداء “حرب تشرين” بوصفهم سوريين وطنيين يستحقون التكريم دائمًا، ويطلق نقاشًا علانيًا في ضوء ما يمليه الرأي العام السوري.
وتكرس إعادة عيد الشهداء، عبر مجلس الشعب أمرين وفق الدبس:
- الأول: أن مجلس الشعب يعني “سلطة المحكومين على الحُكّام”، قادرٌ على إبطال قرار تنفيذي حتى ولو كان من رئيس الجمهورية وهذا فيه الخير للمجلس وللرئيس أيضًا.
- الثاني: التمرين على التفكير السليم بالتاريخ، والماضي من أجل الحاضر.
وإن لم يحصل ذلك، فإن هذا القرار، وفق تقدير الدبس سوف يظل “جرحًا في الذاكرة الجمعية”، لأنّه سيكون محاولة في تحقيق “النسيان القسري” لذكرى هذا اليوم.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي